غريبة الحسين

غريبة الحسين imgres217

تحفل روايه “غريبة الحسين”[1] لاحمد التوفيق  بسمات روائيه عديدة.
و لعل اول سمه اثارتنى بها تتمثل فكلمه “غريبة” الوارده فالعنوان و التي لها صله “بالغربة” كما هو و اضح ؛

حيث ان قراءه الروايه ممكن ان تحيلنا الى استثمار الغربه بايحاءاتها المتعدده فبناء عدد من صورها و تشكيلاتها.
وتبعا لذا سيحاول مقالى الاجابه عن عدد من الاسئله التي دارت فذهنى منذ اول قرائتى للعنوان:


ما هي تجليات سمه الغربه فالرواية؟
هل هي غربه الانسان مع نفسة و من بعدها مع مجتمعة على اعتبار ان عنوان الروايه يشير الى اسم شخصيه الحسين؟
ام ان الامر يتعلق بتصوير غربه الموسيقي فحد ذاتها،
علما ان عنوان الروايه ما خوذ من احدي نوبات الموسيقي الاندلسيه الاحدي عشرة؟


تحكى الروايه قصة “كلود” الفتاة الفرنسية المثقفة،
الرقيقه المشاعر،
الفاتنه الجمال،
التى تحب جميع ما هو شرقى و عربي.
تسافر كلود مع و الدها الى المغرب من اجل ان ينجز بحثا حول الموسيقي الاندلسيه و يدونها.
وفى ذلك البلد تتعرف الى شخصيات عربية و فرنسية،
و تزور مدنا متعدده فيثيرها سر تسميه نوبه غريبة الحسين [2] و ضياع كثير من النوبات الاندلسيه الاخرى.
كما تعيش كلود مواقف سياسية و نفسيه و غراميه و ثقافيه الى ان ينتهى فيها الامر  الى ان تحب المغربي “علال” و الزواج منه فظروف متوترة.
لكن الامور ستنحل فنهاية المطاف و ستعود كلود سالمه صحبه زوجها الى فرنسا.


وفى ظل ايام وجود كلود فالمغرب و مرورها بمجموعة من الاحداث يستشعر القارئ امتداد خيوط سمه الغربه لتلف مجموعة من شخصيات الرواية: فكلود نفسها توجد فمجتمع غريب عن مجتمعها و هي تحاول ان تكتشف جميع دقائقة و تفاصيلة الانسانية.
و”روز ” احدي زوجات “الحاج ادريس” عم عمر ،

شخصيه انكليزيه اختارت الزواج و العيش بعيدا عن و طنها على الرغم من الاختلافات الموجوده بين ثقافتها  و ثقافه المجتمع الغربي.
و”ام علال” الزموريه تركت بيئتها     و قبائلها الرحل لتستقر و تعيش بعيدا عن تقاليدهم و اعرافهم.
بل ان المستعمر نفسة يعيش تلك الغربة،
فهو موجود فارض غير ارضه،
وفى احضان ثقافه غير تلك التي تربي عليها .



ان مفهوم الغربه بمعاني البعد ،

و الغياب،
و الخفاء،
وكذلك الغموض يشكل جزءا من اساليب بناء صور “غريبة الحسين” .

ولقد اشار الكاتب الى ذلك المصطلح صراحه فاحدي الصور –  اضافه الى اثارتة فعنوان الروايه – حيث كلود تناجى نفسها و هي جالسه بين مجموعة من النساء المغربيات: ” كنت ساصدمها لو قلت اننى غريبة،
اننى نصرانية،
اننى اسكن الفندق،
اننى اريد ان اختار من اتزوجه،
اننى متحيره فامر  شاب لا يخرج انه يستطيع ان يقرر شيئا من مصيرة “[3] .

فللغربه فهذه الصورة بعد اجتماعي،
وديني،
و غموض غرامي،
ومصيرى ايضا.
و الكاتب يلح على تاكيد جل هذي الابعاد من اثناء تكرار كلمه “انني” و استعمالها فجمل قصيرة و متواتره خمس مرات،
و فكل مره نتبين الغربه بامتداداتها المعنويه تغلف نفسيه كلود التي و صفها الكاتب برقه مشاعرها،
وشعورها الانسانى الرهيف جدا جدا الذي ربما لا يتفق مع كثير من انماط السلوك المتداول بين الفرنسيين  المقيمين بالمغرب.
و فهذه الحالة يجسد الكاتب غربه نفسيه كلود حتي بين بعض الشخصيات التي تنتمى الى نفس الوسط الاجتماعى و الفكرى الذي تربت و عاشت فيه.
ويترجم الراوى مظاهر غربه هذي الفئه المستعمره عن طريق الصورة التاليه :


«من يستطيع ان يقول لى ماذا تقول هذي المغنية؟فبعد اقامه بالمغرب مدة خمسه عشر عاما لا اتكلم العربية الا لانهر بعض الموظفين او المتسولين .

لقد غشنا المغاربه لانهم يتكلمون معنا لغتنا و ظلوا فحصنهم اللغوي.
و ربما حسبنا اننا حطمنا كل حصونهم »[4]

ايضا تعكس الصورة احد معاني الغربة،
غربه الكلام و اللغة،
اى غموضهما و خفاءهما.       و المستعمر فهذه الصورة لا يعيش غربه البعد و النزوح عن الوطن و حدها و انما غربه و سائل التواصل الانسانى ايضا.
ان اللغه التي يستخدمها و يفهمها لغه نهر و اوامر،
اما لغه التواصل الطبيعية بينة و بين الشعب المستعمر فلم يصل الى تعرفها و تعلمها.
واذا عدنا الى تامل بناء هذي الصورة لاحظنا ان “السؤال” يشكل لونا بلاغيا خاصا فكيفية صياغتة و هو ما نلمسة فعديد من صور هذي الرواية.
ان استخدام ذلك الاسلوب الانشائى انما يشكل استفهاما و بحثا عن تفسير و فهم عديد من مظاهر الغربه و عدم التوافق مع المحيط الثقافى و الاجتماعى و النفسي الذي تعيشة نماذج من شخصيات الرواية.
يتضح هذا جليا فهذه الصورة من اثناء سؤال جوزيف ما لان احد الفرنسيين المقيمين بالمغرب عن معني ما تقوله المغنية؛
فلغه الغناء بما بها من صور انسانيه و اخيله لم يستطع [وصف ما لان] ادارك معناها.
ومن اثناء هذا يتبدي للقارئ مفهوم الغربه من احدي و جهاتة التي تعني البعد و الغموض.
انة بعد و غموض فكرى و حضارى لا يتجسد بمظهرة الايجابي و انما بمفهومة السلبى الذي يوحى بانكسار العلاقات الانسانيه و انقطاعها.


وعلي الرغم من  تميز كثير من شخصيات الروايه بسمه الغربة،
الا ان الصور التي اثارتنى ف“غريبة الحسين” تلك التي تشكل و ترسم “غربه الموسيقى” فحد ذاتها.
فالروايه تحفل بعديد من الصور التي تجسد غربه الموسيقي فعالميها القديم و الحاضر معا،
مع ابتعادها عن ثقافه مجتمعها الموجوده فيه،
ثم غربتها بين ابناء بيئتها الذين يجهلون اصولها و علماءها.
ولا ادل على هذا من هذي الصورة المنبثه فثاني فصول الرواية:


«…و ظهر من كلام بعضهم انهم من علماء الموسيقى،
و ربما ارادوا ان يتملقوا عمر فذكروا اعلاما من المسلمين كان لهم السبق فتدوين الالحان،
و خجل عمر مره ثانية لجهلة بحضارة بلدة و لعن فنفسة كل العلوم و التخصصات التي لا تبدا بمعرفه الذات الوطنية »[5].


فى ظل اسلوب تقريرى يشكل الراوى بوضوح مظهر غربه الموسيقي بين ابناء بيئتها.
ففى احدي جلسات “عمر” مع مجموعة من الفرنسيين تبين له “جهله” باحد مظاهر حضارتة الفنية،
فى حين كان الغرباء اعلم منه بهذا المظهر الثقافى الذي يعكس جانبا من و طنيه الانسان و هويته.
لكن غربه الموسيقي لا تتمثل ف“جهلها ” من قبل ابناء بيئتها،
وانما تتميز ايضا ب”ضياعها” منهم  و “تحويرها” و ابعادها  من بعدها عن اصلها الاول:


« هذي الموسيقي الاصيله التي اخترقت القرون و حملت صدي الاجواء التي و لدت و ترعرعت بها تمثل لونا من الوان الزخم الحضارى لثقافه ذلك البلد،
فقد توارثها المعلمون بالتلقين المباشر و السماع و قد زاد بها من زاد او ضاع منها ما ضاع،
و لا نعرف منها الا ما و صلنا،
و ذلك الذي وصل الينا ارث للانسانيه لا بد ان نحولة الى كتابة موسيقيه يستطيع الناس ان يقراوها فكل مكان »[6]

نلمس فهذه الصورة غربه الموسيقي خاصة تلك المسماه بموسيقي الاله او الموسيقي الاندلسيه ،

وبعدين عن اصلها الحقيقي: “ربما زاد بها من زاد او ضاع منها ما ضاع،
ولا نعرف منها الا ما و صلنا” خاصة و ان ذلك النوع الموسيقي مر بفترات تاريخيه صعبة؛
و تعكس صياغه هذي الصورة فاطار اسلوب تقريرى و مباشر الارتباط الحقيقي لهذا الاشكال بواقعنا الموسيقى و التاريخي،
وهي مباشره اسلوبيه نلمسها فكثير من صور الروايه التي تدعونا الى عقد مقارنات بين التصوير الروائى الذي يستلزم الخيال فعديد من تجلياتة و بين حقيقة تلك الصور فالواقع.
وتبعا لذا تحيلنا تقريريه الصورة اعلاة الى ضروره العوده الى التاريخ و التعرف الى ما مرت فيه الموسيقي من مراحل ادت الى ضياعها؛
فقد تعرضت الموسيقي فاوائل العصر الموحدى الى كثير من المضايقات،
اذ ارتبط موقف هذا العصر بمقاومه مختلف مظاهر الترف و منها الموسيقى.
كما ان تراجع الحياة السياسية و الثقافيه و الاجتماعيه فاواخر العصر المرينى ادي الى  «تقهقر الحياة الثقافيه ،

و كانت موسيقي الاله فمقدمه الفنون التي تضررت من جراء هذا ،

فقد ضاع منها العديد حسب ما يفهم من كلام ابن خلدون عندما قال ،

متحدثا عن احوالها ببلاد المغرب ،

فى زمانه،
اواخر القرن الثامن الهجري  (الرابع عشر الميلادي):” و فيها منها الان صبابه على تراجع عمرانها”»[7].
لكل هذا لا نستطيع ان نقول جازمين ان موسيقي الاله التي و صلت الينا اليوم انها هي التي سادت حقيقة و غنيت و اطربت الاندلسين.
فالمسافه الزمنيه بيننا و بين عصرها طويله ،

و كيفية تلقينها تمت عن طريق التواتر الشفاهى كما هو معروف،
الامر الذي ادي الى الزياده بها ،

و النقصان فبعضها،
وضياع بعضها الاخر،
وعدم معرفتنا بانغامها الا ما وصل الينا اليوم سماعا.


لكل هذا اري ان روايه “غريبة الحسين” تعكس غربه موسيقي الاله فزمننا،
و ضياع كثير منها هواحد مظاهر غربتها.
و لذا كان حل ذلك الاشكال بالنسبة الى فيرنى – و هو و الد كلود الذي حمل على عاتقة امر تدوين الموسيقي الاندلسيه –  يكمن فكتابة ما تبقي من هذي الموسيقي حتي ” يستطيع الناس ان يقراوها فكل مكان”.
والحقيقة اننا اذا عدنا الى الواقع المعاصر نري انه ربما تمت فعلا عديد من محاولات تدوين بعض هذي النوبات ،

من هذا نوبه الاصبهان التي كتبها اركاديو دى لاريا بالاتين   Arcadio de Larrea Palacín  [8]،
ونوبه غريبة الحسين التي دونت من قبل محمد ابرويل[9] ،

ثم نوبات العشاق و رمل المايه و رصد الذيل التي عمل على تدوينها يونس الشامي[10].  و قبل هذا كانت محاولات من قبل كثير من الاجانب امثال الكسيس شوطان Alexis Chottin الذي دون  ميزان البسيط من نوبه العشاق،
و بوستيلو الذي « جمع كثيرا من الطبوع و الانغام التي كانت متفرقه و سجل بعضا منها بالنوطة»[11] .



وعلي الرغم من الجهود الشاقه لعمليات الاستماع و التدوين الموسيقي لهذه النوبات الا انها ما زالت تثير اشكالات موسيقيه حقيقيه ؛

فنوبه رصد الذيل  على سبيل المثال ذكر مدونها ان القارئ سيلاحظ” اننا تجنبنا اثقال الرموز الموسيقيه بعلامات الزخرفه او التحليه التي يزخر فيها العزف العربي،
وذلك لعدم اتفاق العازفين على نوعياتها  و مواقعها ،
  بل و عدم استخدامها مرتين بصورة متطابقه من لدن نفس العازف.
و لذا تركنا حريه استعمالها للعازف حسب ما يملية عليه ذوقة و تتيحة براعتة الفنية” [12]

انة اشكال وحيد ضمن مجموعة من الاشكالات الفنيه العديده التي تعرفها الموسيقي الاندلسيه او موسيقي الالة،  مما يجعل ذلك النوع الموسيقى يعيش “غربة” حقيقيه عن اصلة الاول.


و لعل تكرار سؤال : ما معني غريبة الحسين؟
فى صفحات متعدده من الرواية،
ان يعد مظهرا بلاغيا احدث يعكس “غربة” ذلك النوع الموسيقي.
فالسؤال يتكرر فصور متعدده من الرواية،
وفى جميع مره يصبح الجواب عنه مستحضرا احد معاني الغربه مع “المقابلة” بين ما يشكل عناصر غربه الموسيقي و غربه شخصيه “كلود” نفسها:


« سالت المعلم عن معني “غريبة الحسين”،
فقال انه غير متاكد من اصل التسمية،
و لكنة يظن ان معلما اسمه الحسين ربما وضع هذي النوبه و لم يضع نوبه غيرها،
فهي غريبتة كاليتيمة»[13]

ان كلمات من قبيل : “المعلم غير متاكد” ،

“لكنة يظن” ،

تعكس عدم و قوف شيوخ الموسيقي الاندلسيه انفسهم على سر تسميه هذي النوبة.
كما ان تشبية ابداع معلم الموسيقي لنوبه و حيده ب “اليتيمة” انما يمثل مره ثانية غربتها و وحدتها.
لكن هذي المعاني لا تنطبق فقط على نوبه “غريبة الحسين” فالروايه و انما على شخصيه كلود نفسها.
فكلود غير متاكده من كثير من الحاجات التي تعيشها و منها حبها لعمر،
وتوجهات شبكة  سريه تدعي بالنادي،
ومستقبلها الذي تجهل مصيره.


وعلي غرار نفس هذي الصيغ التصويريه التي تستدعى “السؤال” بعدها الجواب الذي ممكن مقارنتة بشخصيه كلود نقرا الصورة التالية:


« ما معنى”غريبة الحسين”


قال المايسترو:


هى نوبه متاخره من حيث زمن ظهورها.
وضعها رجل اسمه الحسين،
متميزه بما صب بها من الحنان،
متميزة،
غريبة بين غيرها من النوبات»[14]

ان اهم ما يميز الجواب عن معني نوبه “غريبة الحسين” فالصورة و صفها بالحنان الذي جعلها متفردة  الى درجه غربتها بين غيرها من النوبات.
ولعل ذلك الحنان الموسيقى الغريب هو ما يميز مشاعر كلود؛
فعواطفها الرهيفه تجعلها طوال الروايه مختلفة عن ثقافه فتيات مجتمعها و جيلها.
وفى ظل هذي الكيفية التصويريه المقارنة ممكن ان نتبع نفس النهج فهذه الصورة الثالثة:


« ما معنى  غريبة الحسين؟


قال: الغريبة فلغتنا هي القصة التي يتاثر لها الناس،
ونوبه غريبة الحسين صنعها معلم فذكري صديق له اسمه الحسين،
مرض حتي قضي من كتم حب امراة»[15]

اثار الجواب عن سؤال معني غريبة الحسين “ذكرى” الصديق الذي كان “الحب” سببا ف“موته”.
وقد كانت هذي المفاهيم الثلاثه “الذكرى”،
و”الحب” و ”الموت” موجهه الى كثير من احداث الروايه خاصة تلك التي مرت فيها كلود التي عاشت على “ذكرى” امها ،

و”احبت” عمر بعدها علال،
وواجهت ” الموت” من اثناء غرق امها و من اثناء مغامرتها مع علال فاخر الرواية.


لكن المثير فهذه الصورة استخدام مصطلح “القصة” فحد ذاتها بوصفها تفسيرا ل “الغريبة”.  بذلك تكون غريبة الحسين هي قصتة التي جعلتة يصنع هذي النوبة.
والحقيقة ان لنوبه “غريبة الحسين” فالواقع قصصا متعدده ،

فقد «قيل ان المبدعه لها جاريه لسلطان اسمه الحسين كان اسمها غريبة لبعدين عن اهلها و وطنها و كان سيدها لا يسلو عنها ف لذا جاءت ملاي بالشوق و الحنين.
وقيل،
علي العكس من ذلك،
ان سيدها هجرها بعد ان اذاقها حلاوه الحب فبكته…»[16].


بذلك تكون ل”غريبة الحسين ” فالواقع الخارجى قصص مقترنه بالحب،
والحنين،      و البكاء،
و الشوق،
و الغربة،
و كلها عناصر فنيه ممكن مقابلتها بشخصيه كلود الروائية.


*           *           *


ان احلى الصيغ  التعبيريه التي  تثيرها  روايه “غريبة الحسين” اسلوب المقارنة بين صورها الروائية،
و بين الواقع الموسيقى الذي تحياة الموسيقي الاندلسية.
و بذلك تقف “الصورة” متارجحه بين لغه الروايه و بين نقل انسيابات لغه الموسيقي التي يصعب حصرها لغويا،
خاصة اذا كانت تعكس سمه من نوع “الغربة”.
ان غربه الموسيقي فروايه “غريبة الحسين” هي تصوير لجوانب من  غربه الانسان فحد ذاتة ما دام الفن عموما يعد احد مظاهر تكوين هويتة و ثقافته.

 


غريبة الحسين