الاستغفار..اهميته وحاجتنا اليه
استغفار الله والمداومة عليه جاء الامر به من الله – تعالى – لنبيه في قوله
– تعالى -: ((فاصبر ان وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والابكار))
[غافر: 55]، وفي قوله – تعالى -: ((واستغفر الله ان الله كان غفورا رحيما)) [النساء:
106]، وفي قوله – تعالى -: ((فاعلم انه لا اله الا الله واستغفر لذنبك)) [محمد:
19]، وفي قوله – تعالى -: ((فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا)) [النصر: 3].
ولقد استجاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لهذا الامر خير استجابة؛ فعن
عائشة – رضي الله عنها- قالت: (ما صلى النبي صلاة بعد ان نزلت ((اذا جاء
نصر الله والفتح)) الا يقول فيها: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) (1).
وعنها – رضي الله عنها- قالت: (كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
يكثر ان يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي؛ يتاول القران)
(2).
وكان يكثر الاستغفار في غير الصلاة، فعن ابي هريرة – رضي الله عنه – قال:
سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (والله اني لاستغفر الله واتوب
اليه في اليوم اكثر من سبعين مرة) (3).
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله
عليه وسلم -: (يا ايها الناس توبوا الى الله، فاني اتوب اليه في اليوم مئة
مرة) (4).
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – انه سمع النبي – صلى الله عليه
وسلم – يقول: (استغفر الله الذي لا اله الا هو الحي القيوم واتوب اليه) في
المجلس قبل ان يقوم مئة مرة) (5).
وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: (انا كنا لنعد لرسول الله في
المجلس: (رب اغفر لي وتب علي انك انت التواب الرحيم) مئة مرة) (6).
وعن الاغر المزني – رضي الله عنه – ان رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – قال: (انه ليغان على قلبي، واني لاستغفر الله في اليوم مئة مرة) (7).
وقيل في معنى قوله: (انه ليغان على قلبي) عدة معان، وهي:
المراد ب (الغين): الفتور عن الذكر الذي شانه ان يداوم عليه، فاذا فتر عنه لامر
ما عد ذلك ذنبا، فاستغفر عنه، وحكي عن عياض.
وقيل: هو شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس.
وقيل: هي حالة كمثل جفن العين حين يسبل ليدفع القذى، فانه يمنع الرؤية، فهو من
هذه الحيثية نقص، وفي الحقيقة هو كمال (8).
نماذج من استغفاره:
ولقد اخذ استغفاره نماذج عدة في مواطن كثيرة، منها: استغفاره بعد السلام من الفريضة، وعند
الخروج من الخلاء، وفي خطبة الحاجة، وعند النوم، وفي كفارة المجلس.. وغيرها، نذكر منها على
سبيل المثال ما يلي:
بعد الفراغ من الوضوء:
عن ابي سعيد الخدري – رضي الله عنه – ان الرسول قال بعد الوضوء: (سبحانك
اللهم وبحمدك، اشهد ان لا اله الا انت، استغفرك واتوب اليك) (9).
عند القيام لصلاة الليل:
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: (كان النبي – صلى الله عليه
وسلم – اذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم لك الحمد، انت نور السماوات والارض
ومن فيهن، ولك الحمد، انت قيوم السماوات والارض ومن فيهن، ولك الحمد، انت الحق، ووعدك
حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد حق،
اللهم لك اسلمت، وعليك توكلت، وبك امنت، واليك انبت، وبك خاصمت، واليك حاكمت، فاغفر لي
ما قدمت وما اخرت، وما اسررت وما اعلنت، انت المقدم وانت المؤخر، لا اله الا
انت)(10).
في استفتاح الصلاة:
عن ابي هريرة – رضي الله عنه – قال: (كان رسول الله – صلى الله
عليه وسلم- يسكت بين التكبير وبين القراءة اسكاتة، قال: احسبه قال: هنية، فقلت: بابي وامي
يا رسول الله، اسكاتك بين التكبير والقراءة، ما تقول؟، قال: اقول اللهم باعد بيني وبين
خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الابيض من
الدنس، اللهم اغسل خطاياى بالماء والثلج والبرد) (11).
في اخر الصلاة:
عن علي بن ابي طالب – رضي الله عنه – ان رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – يقول من اخر ما يقول بين التشهد والتسليم: (اللهم اغفر لي
ما قدمت وما اخرت، وما اسررت وما اعلنت، وما اسرفت وما انت اعلم به مني،
انت المقدم وانت المؤخر، لا اله الا انت) (12).
عند موته:
عن عائشة – رضي الله عنها – انها قالت: سمعت النبي – صلى الله عليه
وسلم – واصغيت اليه قبل ان يموت وهو مسند الي ظهره يقول: (اللهم اغفر لي
وارحمني والحقني بالرفيق الاعلى) (13).
وفي عامة دعائه:
عن ابي موسى الاشعري – رضي الله عنه – ان النبي – صلى الله عليه
وسلم – كان يدعو بهذا الدعاء: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي واسرافي في امري وما
انت اعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم
اغفر لي ما قدمت وما اخرت، وما اسررت وما اعلنت، وما انت اعلم به مني،
انت المقدم وانت المؤخر، وانت على كل شيء قدير) (14).
استشكال ورده:
واستشكل وقوع الاستغفار من النبي وهو معصوم؛ فالاستغفار يستدعي وقوع المعصية، واجاب العلماء على ذلك
بعدة اجوبة، منها:
قول ابن الجوزي: هفوات الطباع البشرية لا يسلم منها احد.
وقال ابن بطال: الانبياء اشد الناس اجتهادا في العبادة لما اعطاهم الله – تعالى –
من المعرفة، فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير، فكان الاستغفار من التقصير في اداء
الحق الذي يجب لله – تعالى -.
وقال القرطبي في (المفهم): (وقوع الخطيئة من الانبياء جائز؛ لانهم مكلفون، فيخافون وقوع ذلك ويتعوذون
منه) (15).
حث الامة على الاستغفار:
عد ابن كثير امر الله لنبيه – صلى الله عليه وسلم – بالاستغفار تهييجا للامة
على طلب المغفرة، اذ كيف يكون خطاب افراد الامة اذا امر نبيها بالاستغفار؟ (16).
وجاء في الكتاب العزيز حث على الاستغفار وترغيب فيه والثناء على اهله، في مثل قوله
– تعالى -: ((واستغفروا الله ان الله غفور رحيم)) [المزمل: 20]، ومن ذلك: قوله –
تعالى -: ((والمستغفرين بالاسحار)) [ال عمران: 17].
يقول ابن كثير عن فضيلة الاستغفار وقت الاسحار:
وثبت في الصحيحين عن جماعة من الصحابة ان رسول الله – صلى الله عليه وسلم-
قال: (ينزل ربنا – تبارك وتعالى – في كل ليلة الى السماء الدنيا حين يبقى
ثلث الليل الاخير، فيقول: هل من سائل فاعطيه؟، هل من داع فاستجيب له؟، هل من
مستغفر فاغفر له؟)(17).
وفي الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: من كل الليل اوتر من
اوله واوسطه واخره، فانتهى وتره الى السحر (18).
وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ثم يقول: يا نافع هل جاء السحر؟،
فاذا قال: نعم، اقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح.
وعن حاطب قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: يا رب امرتني
فاطعتك، وهذا السحر فاغفر لي، فنظرت، فاذا هو ابن مسعود – رضي الله عنه -..
وعن انس بن مالك قال: كنا نؤمر اذا صلينا من الليل ان نستغفر في اخر
السحر سبعين مرة(19).
تعليم النبي – صلى الله عليه وسلم – الاستغفار لاصحابه:
ومن مظاهر اهتمامه بالاستغفار: تعليمه لاصحابه، بل لخيرة اصحابه، وصاحبه في الهجرة، فعن عبد الله
بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: ان ابا بكر الصديق قال
لرسول الله – صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله علمني دعاء ادعو به
في صلاتي وفي بيتي. قال: (قل: اللهم اني ظلمت نفسي ظلما كبيرا ولا يغفر الذنوب
الا انت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، انك انت الغفور الرحيم)(20).
وعن قوله: (مغفرة من عندك) قال الطيبي: دل التنكير على ان المطلوب غفران عظيم لا
يحيط به وصف، وقال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين، احدهما: الاشارة الى التوحيد، كانه قال:
لا يفعل هذا الا انت، فافعله لي، والثاني: انه اشارة الى طلب مغفرة متفضل بها
لا يقتضيها سبب من عمل حسن ولا غيره، وبهذا الثاني جزم ابن الجوزي فقال: المعنى:
هب لي مغفرة تفضلا، وان لم اكن لها اهلا بعملي(21).
ومن اهتمامه بشان الاستغفار: تعليمه للرجل حديث الاسلام دعاء يبدا بالاستغفار، فعن ابي مالك الاشجعي
عن ابيه قال: كان الرجل اذا اسلم علمه النبي الصلاة، ثم امره ان يدعو بهؤلاء
الكلمات: (اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني)(22).
ان الامة في هديه محتاجة الى اللهج بالاستغفار، ابتداء من حديث العهد بالاسلام الى خير
الامة وصديقها، فكيف بمن جاء بعدهم؟!.
ومن مظاهر حث الامة على الاستغفار: ترغيبهم في سيد الاستغفار، فعن شداد بن اوس –
رضي الله عنه – ان النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (سيد الاستغفار:
ان يقول: اللهم انت ربي لا اله الا انت، خلقتني وانا عبدك، وانا على عهدك
ووعدك ما استطعت، اعوذ بك من شر ما صنعت، ابوء لك بنعمتك علي، وابوء لك
بذنبي، فاغفر لي؛ فانه لا يغفر الذنوب الا انت، قال: من قالها من النهار موقنا
بها فمات من يومه قبل ان يمسي فهو من اهل الجنة، ومن قالها من الليل
وهو موقن بها فمات قبل ان يصبح فهو من اهل الجنة) (23).
قال ابن حجر: (وفي ذلك اعلام لامته ان احدا لا يقدر على الاتيان بجميع ما
يجب عليه لله، ولا الوفاء بكمال الطاعات والشكر على النعم، فرفق الله بعباده، فلم يكلفهم
من ذلك الا وسعهم.
وقال ابن ابي جمرة: جمع في هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الالفاظ ما يحق
له ان يسمى سيد الاستغفار، ففيه الاقرار لله وحده بالالهية والعبودية، والاعتراف بانه هو الخالق،
والاقرار بالعهد الذي اخذ عليه، والرجاء بما وعده به، والاستغفار من شر ما جنى العبد
على نفسه، واضافة النعماء الى موجدها، واضافة الذنب الى النفس، ورغبته في المغفرة، واعترافه بانه
لا يقدر احد على ذلك الا هو) (24).
وعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه
وسلم -: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا)(25).
الحاجة الى الاستغفار:
قال ابن القيم – رحمه الله – في بيان حاجة العبد للتوبة والاستغفار: (انسب اعمالك
واحوالك الى عظيم جلال الله، وما يستحقه، وما هو له اهل، فان رايتها وافية بذلك
مكافاة له فلا حاجة حينئذ الى التوبة، واذا رايت ان اضعاف اضعاف ما قمت به
من صدق، واخلاص، وانابة، وتوكل، وزهد، وعبادة: لا يفي بايسر حق له عليك، ولا يكافئ
نعمة من نعمه عندك، وان ما يستحقه لجلاله وعظمته اعظم واجل واكبر مما يقوم به
الخلق: رايت ضرورة التوبة، وانها نهاية كل عارف وغاية كل سالك، واذا لم يكن للقيام
بحقيقة العبودية سبيل فعلى التوبة المعول… ولولا تنسم روحه التوبة لحال الياس بين ابن الماء
والطين وبين الوصول الى رب العالمين، هذا لو قام بما ينبغي عليه من حقوق لربه،
فكيف والغفلة والتقصير والتفريط والتهاون وايثار حظوظه في كثير من الاوقات على حقوق ربه لا
يكاد يتخلص منها؟!)(26).
وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: (ان المؤمن يرى ذنوبه كانه قاعد
تحت جبل يخاف ان يقع عليه، وان الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على انفه، فقال
به هكذا) (27).
قال ابن حجر: (المؤمن يغلب عليه الخوف؛ لقوة ما عنده من الايمان، فلا يامن من
العقوبة بسببها، وهذا شان المسلم: انه دائم الخوف والمراقبة، يستصغر عمله الصالح، ويخشى من صغير
عمله السيء. وقال المحب الطبري: انما كانت هذه صفة المؤمن؛ لشدة خوفه من الله ومن
عقوبته، لانه على يقين من الذنب وليس على يقين من المغفرة) (28).
ثمار الاستغفار:
اولا: غفران جميع الذنوب، ويشمل ذلك ذنوب العبد التي لم يحصها او نسيها وقد احصاها
الله عليه مهما صغرت او مضت عليه السنون، وقد حكى الله عن اناس غفلوا عن
اعمالهم ففجاتهم يوم القيامة، قال الله عنهم: ((وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون))
[الزمر:47].
ثانيا: الدخول على الله من باب الخضوع والخشية والاخبات، وهذا يورث التواضع باطنا وظاهرا.
ثالثا: الاقتداء بالرسول، وظاهر ما في الاقتداء به من البركة وحصول الخيرات.
رابعا: الاعتراف بالتقصير في الطاعات والخوف من الذنوب هو مطية الاقبال على التزود من النوافل
وعمل الصالحات والاستكثار من الحسنات.
خامسا: المحافظة على سلامة القلب وصفائه من اثار الذنوب، كما جاء في الحديث عن ابي
هريرة – رضي الله عنه – قال: (ان العبد اذا اخطا خطيئة نكتت في قلبه
نكتة سوداء، فان هو نزع واستغفر وتاب: صقل قلبه)(29).
وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (كل بني ادم خطاء، وخير
الخطائين التوابون)(30).