ماذا يعني الحديث مع النفس؟
اعداد: غريس فرح
وسيلة مساعدة على التعاطي مع الكثير من شؤون الحياة
من المعروف اننا جميعا نتحدث مع انفسنا، على مدى مراحل العمر، نقيم حوارا صامتا تتخلله
احيانا كلمات مسموعة تقارب التمتمة.
الاختصاصيون النفسيون يصفون هذا النوع من الحوار بالحديث الداخلي، ويعتبرونه وسيلة مساعدة على التعاطي مع
الكثير من شؤون الحياة. هذا في حال عدم تخطيه حدود المعقول.
ماذا يعني الحديث مع النفس ولماذا يعطى هذا القدر من الاهمية؟
اوجه الحديث الداخلي
من الصعدب تحديد معنى واضحا للحديث مع النفس، لكن الاختصاصيين النفسيين يعتبرونه تجربة واعية وضرورية
للتعامل مع الذات والغير.
تبدا هذه التجربة منذ اعوام الطفولة الاولى، حيث يقيم الاطفال احيانا وخصوصا في اثناء اللعب،
حوارا داخليا بصوت مسموع. وهي ظاهرة ليست بمستغربة، باعتبارها احدى المحفزات الطبيعية المساعدة على التاقلم
مع المحيط الخارجي.
بالنسبة الى الكبار، تركز الدراسات الحالية على فائدة الحوار الداخلي، او التفكير بالكلمات، وذلك على
صعيد حل المشاكل العالقة، وتامين الحوافز، والتخطيط للمستقبل، وتعلم اللغات والاستفادة من الاخطاء.
هذا بالنسبة الى الاشخاص العاديين، لكن المفهوم يتغير في حال وجود الامراض النفسية. هنا يتخذ
الحديث الداخلي منحى مختلفا، وهو ما سنتطرق اليه لاحقا، اخذين بعين الاعتبار ملاحظات الاختصاصيين النفسيين
وتفسيرهم لانعكاسات الحديث الداخلي بمختلف ابعاده.
بالعودة الى الاصحاء، يعتبر هذا النوع من الحديث، على الرغم من الصمت الذي يغلفه، ضرورة
ملحة على اكثر من صعيد. اما اهميته، فتمكن في مقدرته على لملمة خيوط التجارب الحسية
عبر نسيج الوعي، الامر الذي يقربنا من معرفة ذواتنا على نحو اعمق واوسع. ومن هنا
القول: لمعرفة انفسنا علينا التحاور معها.
الكلمات الاولى
كان الاختصاصي النفساني الروسي ليف فيغوستكي اول من تقصى ابعاد الحديث الداخلي. فخلال العشرينيات من
القرن الماضي، راى ان الاطفال يستعيدون الاحاديث التي يجرونها مع ذويهم ويستخدمون مفرداتها للتحدث مع
انفسهم، وخصوصا خلال قيامهم بتجارب جديدة. وحسب رايه فان هذا الحديث، يمكنهم من اتقان اللغة،
ويقوي تركيزهم، ويبعد عنهم القلق والخوف. ونتيجة التجارب التي اجراها على مجموعات من الاطفال، اكد
ان حديث الاطفال الداخلي هو سريع ومقتضب يشبه الملاحظات المدونة على هوامش الكتب. وهذا ينطبق
احيانا على الكبار، علما انهم عادة ما يسهبون في حوارهم الداخلي حسب مقتضيات الحاجة.
الثرثرة الداخلية بين الماضي والمستقبل
اللافت انه منذ السبعينيات، تمكن بعض الباحثين من لملة الافكار السارحة في عقل جماعات من
المتطوعين، بعدما طلبوا اليهم تدوين كل ما يجول بخاطرهم لحظة بلحظة. واسفرت النتائج عن نسخات
مسجلة عن الثرثرة الدماغية المرافقه لمعظم الاوضاع الحياتية. وهي ثرثرة يفرزها العقل لغايات تخدم الانسان
وتحقق مصلحته، ومنها، تفعيل الانتباه وتهدئة المشاعر، وتذكير النفس بما يجب عمله، والصمود في وجه
المصاعب عند الحاجة.
الى ذلك، دلت التجارب على ان الحوار الداخلي يعيدنا الى الماضي وينقلنا الى المستقبل ليؤمن
شفافية الرؤية ووضوحها. وهذا يجعله ضروريا من اجل تنقل العقل عبر الزمن، وبالتالي الابقاء على
التواصل بين جميع مراحل الحياة، وكان الاختصاصي الاميركي كلود سكوت قد عبر عن الالم الذي
يولده نقص هذا التواصل، وذلك على اثر تعافيه من الاصابة بجلطة دماغية. فخلال الاسابيع الخمسة
التي تلت خروجه من المستشفى، شعر بوحشة غريبة سببها عدم مقدرته على التحاور مع نفسه
والتنقل عبر الزمن. وقد عبر عن ذلك بقوله: «كان عقلي مسمرا في لحظة وجودي. لم
اتمكن من استعراض الاحداث الماضية، ولا القلق بشان المستقبل. لقد كان شعورا مريعا».
الكورس الداخلي والامراض النفسية
على الرغم من الفوائد الانفة الذكر للحديث مع النفس، الا انه قد يكون في بعض
الاحيان مؤشرا على وجود مرض نفسي يستوجب العلاج. فعلى سبيل المثال، ان التركيز على تكرار
الحديث الصامت المرافق للتجارب الاليمة، يعتبر من العوارض المرافقه للقلق والاكتئاب. والمعروف ان الاختصاصيين يتمكنون
من تشخيص مدى خطورة القلق والاكتئاب لدى مرضاهم من خلال مراقبة احاديثهم الداخلية. فاجترار المقاطع
السوداوية التي تتردد اصداؤها بصمت في العقول، تشكل بالنسبة للمعالجين النفسيين، الهدف الذي يسعى اليه
العلاج.
وكان الاختصاصيون قد وضعوا استراتيجيات تساعد المعنيين على التنبه الى اللحظات التي يبداون فيها اجترار
الحديث الداخلي ذي الوجه السلبي، ومحاولة اسكاته او تحويله الى حديث ايجابي. فعندما تبدا الافكار
الاكتئابية بمحاربة الذات بسلاح الحوار الذاتي التشاؤم يصبح بامكان اصحاب العلاقة التدرب على مقاومتها عبر
التحدث الى النفس بشكل يعيد اليها الثقة والطمانينة.
هذا في حال الاصابة بالقلق والاكتئاب. ولكن ماذا بشان مرض التوحد؟ المكتئبون يضطرون الى تعلم
اساليب لاسكات الحوار الداخلي الذي يؤجج اكتئابهم، لكن مشكلة مرضى التوحد تكمن في عجزهم عن
تسطير هذا الحوار بشكل واضح، وهذا ما يحول دون تاقلمهم في المجتمع، وحل مشاكلهم العالقة.
من ناحية ثانية، فان المصابين بامراض نفسية خطيرة، كالاكتئاب ذي الحدين وانفصام الشخصية، يجدون صعوبة
في تمييز مصدر المفردات التي تتشكل في عقولهم، ويعتبرونها نابعة من مصدر خارجي. الامر الذي
يتسبب بالذهان، واحيانا الهلوسة السمعية، وهذا يعود الى خلل في تواصل الرسائل الدماغية بين منطقتين
دماغيتين مخصصتين لهذه الغاية. في حال كهذه يكون العلاج بالادوية المناسبة ضرورة قصوى.
الصمت الداخلي يطمس معالم الذات
عند حصول الذهان والهلوسة السمعية، يضطرب المعنيون ويتساءلون عن مصدر وحقيقة المعلومات التي يتلقونها. لكن
العكس يحصل مع اصحاب العقول السليمة، فهؤلاء يرتاحون بشكل لافت الى اصوات ذواتهم، كونها تؤكد
وجودهم.
وكانت الدراسة التي نشرتها منذ فترة مجلة العلوم الاميركية، قد اشارت الى ان الهدف الطبيعي
لوجود الحوار الداخلي هو تاكيد الشعور بالذات. ففي كل يوم نعيشه، تسطر عقولنا فقرة جديدة
من قصة حياتنا. وهذا يعني اننا كبشر نعتمد على ديمومة حديثنا الداخلي المرافق لمراحل حياتنا،
ولولاه، لفقدنا كل ارتباط بحركة الزمن، وهو ما يحصل للمصابين بافات دماغية سبق واشرنا اليها،
ويسلبهم النشوة التي تؤمنها حركة الفكر وتجواله الناشط.
هذه التجربة التي يخوضها كثيرون، تؤكد ان الوجود هو تضليل عقلي، اسطورة تحوكها ثرثرة العقل،
وعندما تصمت هذه الثرثرة، ينتفي الوجود، فالى اي حد يصح هذا القول؟
يبقى الجواب في حوزة العلم.