تميزت القصيدة العربية بهيكلة متشابهة في معظم القصائد في عصور الادب العربي التي سبقت عصر
النهضة الحديث، واكثر ما يلفت لانتباه في هذا السياق هو ان نفسية الشعراء العرب تبدو
متشابهة الى حد كبير، وان المناسبات والدواعي التي تهيج لواعج الهوى وتستثير مكامن الشوق والحنين
هي نفسها عند معظم الشعراء، وبالرغم من كون موضوعات القصائد مختلفة ومتنوعة الا ان الشاعر
العربي لا يجد بدا من اختلاق مبرر – وغالبا ما يكون مظهرا من مظاهر الطبيعة
– يعزو اليه سبب تذكره للمحبوبة ومن ثم تغزله فيها وفي الايام الخوالي التي جمعته
بها، وكانه يجد الحرج في التذكر من دون مناسبة .
وقد تنوعت هذه المناسبات وتعدد في ديوان الشعر العربي لكنها تكاد تنحصر في خمس مبررات
كثر ترداد الشعراء لها؛ وهي:
اولا: الطلل الخوالي واثار ديار ومنازل الحبيب:
وفي هذه المقدمة الطللية والمهاد النظري يختلق الشاعر قصة تراجيدية حزينة؛ يفترض فيها انه يستوقف
رفاق سفره ويستاذنهم ليمضي لحظات حداد على اثار حب سالف او مرابع حبيب دارسة، لتستخرج
شواهد الفناء تلك مكامن الابداع وتستثير نفسية الشاعر فتتفتق قريحته مترجمة نفسها شعرا؛ ولعل احسن
ما يفسر المقدمة الطللية ويحللها تحليلا نفسيا دقيقا هو ذلك الراي الادبي الذي نقله ابن
قتيبة؛ اذ يقول: ” سمعت بعض اهل الادب يذكر ان مقصد القصيد انما ابتدا فيها
بذكر الديار والدمن والاثار، فبكى وشكا، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببا لذكر اهلها
الظاعنين عنها، اذ كان نازلة العمد في الحلول والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر،
لانتقالهم من ماء الى ماء، وانتجاعهم الكلا، وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان، ثم وصل ذلك
بالنسيب، فشكا شدة الوجد والم الفراق وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلوب، ويصرف اليه الوجوه،
وليستدعي به الاسماع اليه، لان التشبيب قريب من النفوس، لاصق بالقلوب، لما قد جعل الله
في تركيب الانسان من محبة الغزل، والف النساء فليس يكاد احد يخلو من ان يكون
متعلقا منه بسبب، وضاربا فيه بسهم، حلال او حرام، فاذا علم انه قد استوثق من
الاصغاء اليه والاستماع له عقب بايجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر وسرى الليل
وحر الهجير وانضاء الراحلة والبعير، فاذا علم انه قد اوجب على صاحبه حق الرجاء، وذمامة
التاميل وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدا في المديح … او هدف
القصيدة الرئيس، فبعثه على المكافاة “..
ثانيا: ريح الصبا و النسيم العليل:
وخصوصا صبا نجد وهي على ما يبدو رياح باردة كانت تهب في بعض ايام الصيف
فتنتشل الشاعر من معاناة النشاط الحياتي القاسي لانسان البادية الى فضاء رحب من الابداع في
امتزاج بديع بين الشاعر وتقلبات البيئة، والشعراء يحبون هبوب هذا النسيم الرقيق وينتعشون معه ويتغنون
به، وسموه عليلا لشدة رقته، ذلك انه ياتي محملا بالندى الذي يلطف جو الصحراء الجاف،
ويخفف قسوة المناخ، ويداعب الوجوه، ويلاعب الشعور، وينشط الاعضاء، ويملا الخلايا والحنايا بالهواء الطلق النقي
الزكي الرائحة في حفلة رائعة تفتح افاق النفس للابتهاج بالحياة … ومن مبالغتهم في تعظيمه
نسبوا اليه ملكة الابداع الشعري، وزعموا انه الذي يجعل الشعر رائقا كالماء العذب الصافي، وناعما
كانسام السحر؛ يقول الشاعر ابن سفر المريني متغزلا بارض الاندلس:
في ارض اندلس تلتذ نعماء ولا يفارق فيها القلب سراء
انهارها فضة والمسك تربتها والخز روضتها والدر حصباء
وللهواء بها لطف يرق به من لا يرق، وتبدو منه اهواء
وفي القصة المشهورة عن علي بن الجهم انه لما قدم على المتوكل – و كان
بدويا جافيا – انشده قصيدة قال فيها :
انت كالكلب في حفاظك للود و كالتيس في قراع الخطوب
فعرف المتوكل قوته، و رقة مقصده و خشونة لفظه، فامر له بدار حسنة على شاطئ
دجلة فيها بستان يتخلله نسيم لطيف و الجسر قريب منه، فاقام ستة اشهر على ذلك
ثم استدعاه الخليفة لينشد، فقال :
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث ادري ولا ادري
اعدن لي الشوق القديم ولم اكن سلوت ولكن زاد جمرا على جمر
وانطلق يصدح بقصيدة من عيون الشعر العربي … فقال المتوكل: اوقفوه، فلقد خشيت ان يذوب
رقة ووجدا! .
ثالثا: البرق:
الذي يلمع من نحو ديار المحبوب؛ فلطالما ادعى الشاعر العربي انه بينما كان سابحا في
هموم حياته منشغلا بتدبير شؤونه اذ لمح برقا من نحو مرابع حبيبه فاثارت فيه الشوق
ليصدح شعرا يلج اليه عبر مدخل هذا البرق العارض، قال جرير:
وهاج البرق ليلة اذرعات هوى ما تستطيع له طلابا
ووجد قد طويت يكاد منه ضمير القلب يلتهب التهابا
رابعا: سجع الحمام وتغريد الطيور:
فهذا اللحن الفطري الصافي تتجاوب معه نفسية الشاعر لتعزف معه نغم الحياة، وتبكى صبابة الوجد،
وقد تردد هذا المطلع في قصائد كثير من الشعراء من ابدعها قول العشاري:
على عذبات البان فاقدة الالف تغنت فاغنت عن مئات وعن الف
دعتها دواعي الشوق للنوح فانثنت تردد الحانا تجل عن الوصف
وقال جحدر العكلي:
ومما هاجني فازددت شوقا بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بلحن اعجمي على غصنين من غرب وبان
خامسا: طيف الحبيب:
وهو ضرب من الخداع النفسي يتحدى به الشاعر عوامل الفيزياء وتباعد المسافات وبعد الشقة، فيستعيض
برايا حبيبه ولقياه في عوالم اللاوعي والاحلام، لكنه ما ان يستيقظ من ذلك الحلم حتى
يدبجه في قصيدة تسله من عوالم اللاوعي وتجذبه الى عالم الحياة والوعي، ومقدمات القصائد العربية
مليئة بالحديث عن سفر الطيف وقطعه الفيافي والقفار للقيا حبيبه، ومن اوضح القطع في ذلك
قول ابن نباتة المصري:
وطيف سرى للشام من ارض بابل لابعدت يا طيف الحبيب مداكا
وذكرتني العهد القديم على الحمى رعى الله ايام الحمى ورعاكا
فديتك طيفا لا يذكر ناسيا ولكن يزيد المستهام هلاكا
هذه الظواهر الطبيعية الخمس هي ابرز محرك لقرائح الشعراء، واهم موثبات الادب وبواعث الشوق والحنين
الكامن في دواخل النفوس؛ وقد اﻗﻨﻌﺘﻨﺎ ﻗﺭﺍﺀاﺘﻨﺎ ﻟﻠﺸﻌﺭ ﺍﻟﻌﺭﺒﻲ في عصوره المختلفة ﺃﻥ ﻟﻬﺫﺍ ﺍﻟﺸﻌﺭ
ﺨﺼﻭﺼﻴﺔ ﺘﻨﻁﻠﻕ ﻤﻥ ﻁﺒﻴﻌﺔ الحياة ﺍﻟﻌﺭﺒﻴﺔ ﻨﻔﺴﻬﺎ ﻭﻤﻤﺎ ﺃﺤﺎﻁ ﺒﺎﻟﺫﺍﺕ ﺍﻟﺸﺎﻋﺭﺓ، ﺤﻴﺙ كان الشاعر العربي
يبدو خجولا يغلب جانب الحياء والمحافظة، ويظهر التجلد والسلوان ونسيان الحب والحبيب حتى يمر بمعلم
او ظاهرة تخرجه من صمته المصطنع فيتجلجل صوته صداحا يملا الكون ابداعا صادقا محتشما رغم
بساطة وسائله المستقاة من الظواهر الفطرية للطبيعة، وقد ﻜﺎﻨﺕ الظاهرة الشعرية نفسها ﻓﻴﻀﺎ ﻤﻥ ﻤﺸﺎﻋﺭ
ﺘﻠﻙ ﺍﻟﺫﺍﺕ العربية ﻭﺃﺤﺎﺴﻴﺴﻬﺎ، ﻭﺼﻭﺭﺓ ﻟﺒﻭﺍﻋﺜﻬﺎ ﺍﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻴﺄﺕ ﺃﺒﻌﺎﺩ ﺘﻠﻙ اﻟشخصية ﻭﻤﻨﺤﺘﻬﺎ ﻤﻼﻤﺢ ﺇﺒﺩﺍﻋﻴﺔ
ﺃﺼﻴﻠﺔ .