مفهوم العهد ومفهوم الامان ودار الاسلام»
قراءة في ندوة «فقه رؤية العالم والعيش فيه المذاهب الفقهية والتجارب المعاصرة»
مصطفى تسيريتش:
الانتقال من المعتقد الى الوعي الجماعي عند المسلمين، هو واحد من المهام الاكثر تحديا التي
نواجهها اليوم
الاسلام دين اوسع من الايمان الشخصي والشهادة الشخصية وهو الرباط المتبادل بين اعضاء الجسد الواحد
قراءة علي بن صالح السليمي:
■ بمباركة سامية من لدن حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله
ورعاه اقيمت خلال الفترة من 25 الى 28 جمادى الاولى 1438ه الموافق 6 الى 9
ابريل 2024م ندوة تطور العلوم الفقهية والتي جاءت بعنوان:»فقه رؤية العالم والعيش فيه المذاهب الفقهية
والتجارب المعاصرة» وهي النسخة الثانية عشرة من الندوات التي تنظمها وزارة الاوقاف والشؤون الدينية في
هذا الجانب المهم .. حيث شارك في الندوة علماء ومفكرون وباحثون من داخل السلطنة وخارجها
.. وتناولت اوراق عمل وبحوثا هامة.
وضمن تلك البحوث والاوراق المقدمة .. ورقة عمل بعنوان:(مفهوم العهد ومفهوم الامان ودار الاسلام) للباحث
فضيلة الشيخ الدكتور مصطفى ابراهيم تسيريتش المفتي العام السابق للبوسنة والهرسك.
يستهل الباحث في مقدمة بحثه بقوله: ان موضوع العهد والامان ودار الاسلام من اهم الموضوعات
التي على علماء المسلمين ان يتناولوها بعناية بالغة لان «مفهوم العهد ومفهوم الامان ودار الاسلام»
ليس امرا مقيدا لزمن واحد ولا لجيل معين، بل هو امر لكل زمان و لكل
جيل بان يهتم به لان فى مفهومه يتبلور تصورنا لرؤية العالم والعيش فيه المذاهب الفقهية
التجارب المعاصرة.
هذا، فقد سررت بالاقتراح بان اكتب مقالتي هذه وبهذه المناسبة السنوية الفريدة التى بادرت بها
السلطنة عن طريق وزارة الاوقاف والشؤون الدينية في هذا الموضوع من منطلق فهمي الاسلامي وتجربتي
الاوروبية المعاصرة. فى الحقيقة، فان معنى «العهد والامان ودار الاسلام» يدور في ذهني منذ زمن
طويل وذلك فى سياق تحديات الاسلام والمسلمين في اوروبا التي يعرفها البعض بانها «دار حرب»
والاخر يقولون انها «دار اسلام» او ما شابه ذلك. انه لشرف عظيم لي بان احدثكم
فى هذا المقام عن هذا الموضوع فاقول: ان اوروبا ليست «دار اسلام»، لكنها ليست «دار
حرب»، بل هى «دار عقد» اي اوروبا هى «دار العقد الاجتماعي على اساس المبادئ التي
يقبل بموجبها الافراد الاحرار العاقلين وهم يرغبون بتحقيق مصالحهم الذاتية نقطة الانطلاق المتمثلة بالمساواة على
انها تحديد للنقاط الاساسية لتضامنهم»، وساحاول، بمشيئة الله، فى هذه المقالة ان اوضح الفرق بين
معنى العهد والعقد وساعرض اصول الامان في الاسلام وساقدم رؤيتي لمفهوم دار الاسلام في سياق
الحياة الاوروبية السياسية والثقافية للمسلمين الاوروبيين فى الحاضر والمستقبل.
* مفهوم العهد
حول مفهوم العهد قال الباحث: ان السؤال الاكثر تحديا الذي يواجهه المسلمون اليوم هو: كيف
يمكننا ان نشارك بفاعلية واخلاص في مجتمع ديمقراطي؟ في الواقع، هذا السؤال يطرح سؤالا اعمق
من ذلك بكثير، يتعلق بعلاقة الانسان بالله وعلاقة الانسان بالانسان، وفي جوهره قلب الوجود الانساني،
لذلك، وبقدر ما تتحدث الرسالة الالهية عن الله، فانها تتحدث ايضا عن علاقة الانسان بالله
وعلاقة الانسان باخيه الانسان. وكما بين ذلك البروفسور فضل الرحمن:»القران وثيقة تستهدف الانسان بشكل مباشر،
ومن اسماء القران «هدى للناس». انها «الهداية» التي نحتاجها اليوم من اجل العثور على اجابات
عن الاسئلة التي تثقل كاهل الانسان في جميع نواحي وجوده الدنيوي:»من نحن؟ اين نحن؟ من
اين جئنا؟ الى اين نحن ذاهبون؟».
مبينا انه قد يجد المسلمون الاجابات عن هذه الاسئلة على مستوى الضمير الفردي في العقيدة
ويحتوي هذا على مبداين: مبدا الله، خالق الكون، ومبدا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
وعند اهل الايمان هو الاعتقاد الديني بمعنى استمرارية الذاكرة التي تحدد هوية الانسان بمعنى علمه:
من اين اتى، والى اين هو ذاهب.
لكن، وبقدر اهمية العقيدة بالنسبة لهوية الانسان، فان العقيدة تذهب ابعد من ذلك، وهي مختلفة
عن مصطلح «الهوية» الذي نعني به عادة الانتماء العرقي او الوطني او الاثني او الجنسي،
ان العقيدة الدينية تتجاوز الحدود الفردية بمعنى كونها عالمية في المعنى، وتحتوي في داخلها فكرة
الوجود الكاملة عن الله والانسان والجماعة والمجتمع.
موضحا انه وبالتالي، فان الانتقال من المعتقد الى الوعي الجماعي عند المسلمين، هو واحد من
المهام الاكثر تحديا التي نواجهها اليوم. من هم المسلمون؟ افراد متفرقون اقوياء في العقيدة، ام
جماعة محترمة ذات ارادة جماعية قوية؟ واين هم المسلمون – هل هم في عالم العزلة
ام عالم الاندماج؟ يجب ان نبحث عن الاجابات في القران الكريم والسنة النبوية الشريفة. في
الواقع، يجب علينا ان نصل الى مواجهة مباشرة مع معنى الشريعة، بدلا من النظر اليها
من خلال تفسيرات عفا عليها الزمن، وحتى نبذل الجهد للتعامل المباشر مع الشريعة لا بد
لنا ان نتعلم كيف نقدرها حق قدرها. يقول جاي ايتون: «كلمة شريعة تعني – «الطريق
او الطريق السريع» لكن اشتقاقها يتعلق بالدرب الذي عبدته الحيوانات البرية وهي ترد مناهل مياه
الشرب. انها الطريق التي تؤدي الى حيث تتدفق مياه الحياة التي لا تنضب»، وبعبارة اخرى،
فان الشريعة هي المصدر الذي لا ينضب من الهدي الالهي للبشرية. وهي في متناول الانسان،
مثلها مثل اي مادة اخرى اعطاها الله للانسان للحفاظ على حياته. والامر متروك للانسان كي
يجد في الشريعة ما يحتاج ليحقق لنفسه الخير والفائدة، ليس بمعنى النزوات بل بمعنى الحقيقة
وتحقيق الصحة العقلية والعدالة لنفسه ولمجتمعه، ان الله ليس بحاجة للانسان ليقول له ما الذي
يفعله، لكن الانسان بحاجة الى الله ليعلمه كيف يعيش) لا يسال عما يفعل وهم يسالون).
وقال: وهكذا، يجب على الانسان ان يمارس فقه الشريعة ويفهمها، ومرة اخرى نستشهد بقول جاي
ايتون:»عادة ما تترجم كلمة «الفقه» الى الانكليزية Jurisprudence « «، وهي تاتي في العربية من
فعل فقه، وتعني لا اكثر ولا اقل من كونه «فهم»، فالفقه اذا يرتبط بفهم الاوامر
الالهية وتشعباتها في نسيج الحياة اليومية… وبالنسبة للمسلم فان تبلور رسالة القران الكريم والسنة النبوية
الشريفة وتحولها الى مجموعة من القوانين الملائمة للعيش كان هو المغامرة العليا، والاسلام هو «الاستسلام»
لارادة الله، وان دراسة هذه الارادة الخارقة، هي الدراسة الاكثر اهمية المفتوحة للانسان باعتباره مخلوقا
يتمتع بموهبة العقل والتدبر، وعلاوة على ذلك فان القانون ينظم فن العيش المشترك. وفي اوسع
معانيه هو علم العلاقات البشرية».
مؤكدا بقوله: وفي الحقيقة، فان الشريعة الاسلامية هي العهد الالهي الخاتم، بعد العهد القديم (التوراة)
والعهد الجديد (الانجيل)، انه ليس فقط من حق المسلمين لهم تذكير اتباع العهدين القديم والجديد،
بل ومن واجبهم ان يعززوا المفهوم الشامل للجماعة القائم على العهد، والمجتمع القائم على العقد.
انها الحقيقة بان الجماعة المسلمة مرتبطة بعهدها مع الله عز وجل، المصاغ في شكل الشريعة
ومضمونها، لدفع وتعزيز المجتمع القائم على العقد الاجتماعي الذي يحترم حقوق الانسان لجميع البشر اينما
كانوا ويدافع عنها.
وقال: من هنا يجب على المسلمين ان لا يكتفوا فقط بالتركيز على معتقداتهم الشخصية (العقيدة)،
والتفاخر بكمال القانون الالهي (الشريعة) بل يجب عليهم ايضا ان يظهروا قدرتهم على المشاركة في
مجتمع يقوم على عقد مبرم مع الحكومة ومع المجتمع على حد سواء. ان الذين يمتلكون
المعرفة والرغبة في توجيه المسلمين نحو تطوير مفهوم العقد الاجتماعي الاسلامي في اوروبا يجب عليهم
ان يؤدوا الحق في تطوير مفهوم الحياة المدنية عند المسلمين القائم على الاسلام وقيمه الاخلاقية،
مما يؤدي في نهاية المطاف الى تحقيق التعددية الثقافية الحقيقية، لذا، يتعين على المسلمين اليوم،
وهم يسعون لتطوير العقد الاجتماعي الاسلامي في اوروبا،ان يجدوا الجواب الصحيح على سؤال: كيف يمكن
للمسلمين المشاركة بفاعلية واخلاص في المجتمع الديمقراطي؟، انني لم اجد مصطلح «العقد الاجتماعي الاسلامي» في
مراجع المسلمين الكلاسيكية، بل هو مصطلح افترضته لتعيين قراءتي الشخصية في التراث الاسلامي من اجل
اكتشاف ثرواته وتطوير مفهوم العقد الاجتماعي الاسلامي في اوروبا، انني اريد ان اثبت بان ايمان
المسلم وشهادة المسلم، ودين المسلم، وعقيدة المسلم، هي القوى الدافعة للوظيفة الاندماجية عند الفرد المسلم
والمجتمع المسلم على حد سواء.
وقال الباحث: ان مصطلح (الايمان) يعني الامان الداخلي للروح، التي تتذكر ان الله، بعد ان
اخذ من ظهور بني ادم جميع اجيال البشرية، وسالهم (الست بربكم) فاجابوا: (بلى). كان ذلك
هو العهد الاول بالاعتراف المتبادل بين الله والانسان، فانتج الامانة المتبادلة بين الله والانسان، القائمة
على اعتراف الرجل الصادق (الشهادة). ولا وجود للاعتراف الصادق (الشهادة) بدون ايمان حقيقي، ولا وجود
للايمان الصادق بدون اعتراف حقيقي. ان هذا الترابط بين الايمان باعتباره هدية من الله، والشهادة
بوصفها ارادة الانسان الجوهرية، هو اساس الدين – تلك القوة الدافعة لوظيفة الجماعة المسلمة الاندماجية.
ان اخر اية قرانية انزلت: (اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام
دينا)، هي مؤشر واضح على ان الاسلام دين اوسع من الايمان الشخصي والشهادة الشخصية. ان
الدين هو الرباط المتبادل بين اعضاء الجسد الواحد المستمد من عهد الايمان للشهادة السابقة والشهادة
اللاحقة. فالشهادة السابقة هي اول اعتراف من ذرية ادم بالنيابة عن البشرية جمعاء، والشهادة اللاحقة
هي الاعتراف الاول من كل شخص يدرك حقيقة الاعتراف السابق.ويسمى هذا الشخص بالمسلم، وهذا يعني
الشخص الذي يتذكر الاعتراف السابق (الشهادة) باعتبارها ملكا له، وياتي بالاعتراف اللاحق مؤكدا به التزامه
الشخصي بدين الاسلام، وهذا يعني دين الاستسلام لارادة الله، طوعا او كرها، كما جاء في
القران الكريم:{افغير دين الله يبغون وله اسلم من في السماوات والارض طوعا وكرها واليه يرجعون}
.. وهكذا، فان كلمة «الدين» هي المفهوم الاقرب الى فكرة التعويض المتبادل: «كما تدين تدان»،
وبموجب فكرة هذا التعويض المتبادل يجب علينا ان نفهم ما يقوله الشهرستاني عن معنى الملة
(المجتمع):»ولما كان نوع الانسان محتاجا الى اجتماع مع اخر من بني جنسه في اقامة معاشه،
والاستعداد لمعاده، وذلك الاجتماع يجب ان يكون على شكل يحصل به التمانع والتعاون حتى يحفظ
بالتمانع ما هو اهله، ويحصل بالتعاون ما ليس له، فصورة الاجتماع على هذه الهيئة هي
الملة. والطريق الخاص الذي يوصل الى هذه الهيئة هو المنهاج والشرعة والسنة. والاتفاق على تلك
السنة هي الجماعة، قال الله تعالى:{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}، ومن ناحية اخرى، فان كلمة
عقيدة ، وجمعها عقائد، هي الاقرب الى معنى العقد باعتباره اتفاقا احادي الجانب او ثنائي
الجانب، او وعدا بالقيام بشيء او بعدم القيام بشيء. والكلمة العربية العقد (حرفيا «عقدة»)، هي
مصطلح جذره «عقد» وجمعه «عقود» وكذلك مصطلح العقيدة، يعني كل الالتزامات الاحادية الجانب والثنائية الجانب.
اذا كان الواجبات امرا من الله، فهي التزامات من جانب واحد، لكن اذا امليت من
قبل البشر، فهي ثنائية الجانب، ويجب ان تكون متفقة مع احكام الدين ومبادئه الاخلاقية.
مشيرا الى انه وبناء على ما قيل، يمكننا ان نستنتج ان جوهر عقيدة المسلم التي
تقوم على فكرة الايمان، والشهادة، والدين، والعقيدة، تحتوي على اسس العهد التي ترمز الى الالتزام
الذاتي كما جاء في القران الكريم:(واوفوا بعهد الله اذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها
وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ان الله يعلم ما تفعلون) فضلا عن ان التزام الانسان
تجاه الله ناشئ عن امر الله وقبول الانسان، كما هو مكتوب في القران الكريم:{ان الذين
يبايعونك انما يبايعون الله يد الله فوق ايديهم فمن نكث فانما ينكث على نفسه ومن
اوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه اجرا عظيما}، وبالتالي، بات واضحا ان الاسلام هو دين
العهد مع الله. لذا، فان المسلمين هم امة العقد مع الانسان، ولذلك ينبغي لنا الا
نستغرب عندما نسمع الامام الغزالي (ت/1111) قد سبق الفلاسفة توماس هوبز (ت/1679)، وجون لوك(ت/1704)،وجان جاك
روسو(ت/1778)،في تعزيز مفهوم العقد الاجتماعي، حين قال:»يحتاج الانسان للعيش في مجتمع، ليكون قادرا على اداء
اعماله التطوعية ومعاملاته المربحة، وانه يحتاج الى التعاون مع الاخرين من اجل تحصيل رزقه.انه يحتاج
الى ذلك التعاون في الدفاع المشترك لحماية نفسه وعائلته وممتلكاته.. والدفاع المشترك والتعاون يجب ان
يكونا من اجل قضية عادلة وقانون شامل.
وقال:وبالتالي، فالاسلام «قانون واخلاق» ونقصد بالقانون مخطط النظام الاجتماعي الذي يحظر على اعضائه استخدام القوة
الفردية لاصلاح الخطا، ونعني بالاخلاق معرفة الانسان وارادته لقبول مبادئ الصواب والخطا في السلوك. علاوة
على ذلك، فان قانون الاسلام هو اكثر من مجرد قانون ديني، بل هو عهد من
الله الى الانسان و من الانسان الى الله شروطه غير قابلة للتفاوض او الالغاء، وهو
عقد من الانسان الى الانسان الى الله شروطه قابلة للتفاوض والالغاء.
موضحا انه عليه، فان ما يهمنا هنا هو اللاهوت السياسي القائم على اسس الاسلام القانونية
والاخلاقية، ومن الواضح ان هناك فرقا بين اللاهوت السياسي للاسلام، وبين الاسلام السياسي، فالاول هو
مفهوم الحكمة السياسية، بينما الثاني فهو التفكير في ان يكون متطرفا سياسيا.
مؤكدا ان الاسلام السياسي ليس سببا لان يكون هاجسنا في الشرق والغرب ان نختار عدم
التركيز على ذلك، بل السبب يكمن في اننا نعتقد ان اللاهوت السياسي للاسلام هو التحدي
في عصرنا، وان اللاهوت السياسي للاسلام الذي نتحدث عنه، قريب من الفلسفة السياسية، لكنه بعيد
عن الخيال السياسي الذي ليس له صلة باي شئ سياسي هنا والان انه قريب من
الواقعية السياسية، وبعيد عن الاعتراف بالتطبيق السياسي بسهولة بالغة، والنقطة هنا هي انه على الرغم
من كون المسلمين الرابطة الدينية الاكثر توحدا عقائديا وتطبيقيا، الا انهم مع ذلك، المجموعة الاقل
اشتغالا بالسياسة نظريا وعالميا، بينما نجد ان اوروبا متحدة سياسيا على الرغم من التنوع في
معتقداتها وممارساتها الدينية