زواج المصلحة هو نوع حديث من عقود الزواج قائم على قضاء المصالح فقط دون لقاء بين
الزوجين، فلا يجمع الزوجين فيه بيت واحد، ولا يتعاشران معاشرة الازواج.
عرف في بلاد الغرب، وليس الغرض منه ان يكون زواجا مستقرا كالزواج الذي نعرفه، وله
صور عديدة منها:
الصورة الاولى: يتفق رجل وامراة على عقد زواج مقابل مبلغ من المال يدفعه اليها، وقد
يكون هذا المبلغ مقطوعا او موزعا على سنوات- حسب الاتفاق- وذلك في مقابل ان تذهب
معه الى مصلحة شرطة الاجانب عند تجديد الاقامة كل سنة، الى ان يحصل على الاقامة
الرسمية، ومن ثم يفسخ العقد، وفي تلك الاثناء اما ان يعيش الرجل مع هذه المراة
عيشة الزوجين؛ فيضمهما بيت واحد يتعاشران فيه معاشرة الازواج غير انهما يتفقان على فسخ العقد
عند حصول الزوج على الاقامة الرسمية، وهذا الاتفاق لا يصرح به طبعا عند الجهة العاقدة،
لان القانون لا يسمح بذلك.
الصورة الثانية: لا يعيش الرجل مع المراة التي عقد عليها امام السلطات، ولا يخالطها ولا
تخالطه، بل يتفقان على ان تذهب معه عند تجديد الاقامة كل سنة، كي تقول للسلطات
انها مرتبطة به كزوج، وتاخذ المبلغ المتفق عليه، ويذهب بعد ذلك كل واحد الى حال
سبيله، مع العلم بان هذا اللون من الوان الزواج قد يقدم عليه الرجل لاجل ان
يحصل هو على الاقامة، وبالمقابل قد تفعله المراة مع الرجل لتحصل على الاقامة، ويمكن ان
يكون احدهما غير مسلم، ويمكن ان يكون الاثنان مسلمين! وفي كل الاحوال فانه خلال هذه
المدة تكون الزوجة محسوبة على زوجها من الناحية القانونية، ويكون هو محسوبا عليها من الناحية
القانونية كذلك، ولو افترضنا ان هذه المراة عاشرت رجلا اخر، وانجبت منه، فان المولود يسجل
باسم الزوج المؤقت، ولو جاء هو يطالبها بحق المعاشرة الزوجية فانها لا تستطيع ان تمتنع
عن ذلك قانونا، وخاصة اذا كانت هي المحتاجة الى الاقامة.
وهذا العقد بصورتيه المذكورتين انما يتم في البلدية كسائر العقود المدنية في هذا البلد، وقد
يكون عقدا شرعيا بشروطه الشرعية المعتبرة، ولكن الجانبين لا يصرحان بذلك الاتفاق في صلب العقد،
وانما هو اتفاق بينهما بحضور بعض افراد العائلتين: (عائلة الزوج، وعائلة الزوجة).
الصورة الثالثة: ان يتزوج الرجل المراة بصداق، ولكنه مضمر في نفسه، ويصرح لاصدقائه واقاربه ان
غرضه ليس الزواج، وانما هو الحصول على الاقامة، فمتى حصل على الاقامة طلق زوجته هذه،
وهو لا يستطيع ان يصرح بهذا امام المراة، خوفا من ان تطرده قبل الحصول على
الاقامة .
اراء للفقهاء المعاصرين
اختلف الفقهاء المعاصرون في هذا الزواج بصوره المذكورة ما بين محلل ومحرم، وقد التزمنا بايرادها؛
لان المسالة معاصرة، وخاصة ببلاد الغرب، حيث لم ترد هذه الصور عند الفقهاء القدماء.
اولا: راي المجلس الاوروبي للافتاء والبحوث
فصل المجلس الاوروبي للافتاء والبحوث القول في الصور الثلاث، لانه هو الذي اوردها، فقال:
الصورة الاولى: حرام ياثمان عليه؛ وذلك بسبب منافاة هذا العقد لمقصد الشريعة في الزواج، اذ
هو عقد صوري مقصود به امر اخر غير الزواج، فهو لو استوفى شروط العقد، فانه
لا يحل لهذا المعنى، وكذلك لاجل ان قانون البلاد لا يسمح به، يتاكد المنع بمجيء
هذه الصورة مخالفة لقانون البلد، والقانون هنا متفق مع المقصد الشرعي، كما ان هذه الصورة
لا تخلو من شبه بنكاح المتعة الذي حرمه النبي “صلى الله عليه وسلم” كما في
حديث سبرة بن معبد انه كان مع رسول الله “صلى الله عليه وسلم” فقال: «يايها
الناس اني قد كنت اذنت لكم في الاستمتاع من النساء وان الله قد حرم ذلك
الى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تاخذوا مما اتيتموهن شيئا»
(1)، من جهة التوقيت الذي فيه الى فترة الحصول على الاقامة ثم يفسخ العقد بعد
ذلك.
والصورة الثانية: مثل الاولى في التحريم وفيها قضية مقطوع بحرمتها وهي زواج المسلمة بغير المسلم،
فان مجرد العقد فاسد، سواء للغاية المذكورة في السؤال، او لمجرد الزواج.
واما الصورة الثالثة: فالعقد وان كانت صورته صحيحة، الا ان الزوج اثم بغشه المراة، وذلك
لاضماره نية الطلاق من حين العقد، والزواج في الاسلام يعنى الديمومة والبقاء والاستقرار للحياة الزوجية،
والطلاق طارئ بعد العقد، ولهذا السبب حرم الزواج المؤقت واعتبر فاسدا.
كذلك فان الايجاب والقبول في الزواج شرطان اساسيان فيه، والمراة حين قبلته زوجا، فانما كان
مقصدها حقيقة الزواج ولو علمت انه قبلها زوجة مؤقتة يطلقها متى شاء لرفضت ذلك، فاذا
كان عازما الطلاق عند العقد اثر ذلك في صحة العقد، لان المراة بنت قبولها على
غير ما اراد (2).
ثانيا: راي الشيخ عبدالله بن بية
اما الشيخ عبدالله بن بية فقد نقل الحالات التي اوردها المجلس الاوروبي للافتاء والبحوث، ونقل
اجابة المجلس عليها، ثم عقب قائلا: «قلت: ان بطلان هذا العقد ليس صحيحا؛ فالزواج في
الاسلام ليس مقصودا منه الديمومة والبقاء، وانما له قصود مختلفة ذكرها النبي “صلى الله عليه
وسلم” في قوله: «تنكح المراة لاربع خصال لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها..» (3) ولهذا فلا عبرة
بقصد الطلاق عند النكاح لتحقق هذه القصود او بعضها بالنكاح، ثم ان الزواج اذا وقع
بشروطه فانه زواج صحيح حتى ولو نوى عدم الاستمتاع بها»(4) والذي تطمئن اليه النفس ان
ما ورد في حديث ابي هريرة لا يعبر عن مقاصد الزواج، وانما عن الاسباب التي
تدعو الناس للزواج، وهو عرض من النبي “صلى الله عليه وسلم” لاحوال الناس وعاداتهم في
الخصال التي بسببها يكون الاقبال على اختيار الزوجة، ثم فيه ارشاد للظفر بذات الدين، اما
مقاصد الزواج وغاياته فامر مختلف عن هذا.
الراي المختار
لمناقشة هذه المسالة وترجيح راي فيها، فانه يجب علينا ان نتحدث عن امرين:
الاول: عرض موقف الفقهاء من مسالة الالفاظ والقصود عند التعاقد، وموقفهم من قاعدة: «العبرة في
العقود للمقاصد والمعاني لا للالفاظ والمباني» اذ الزواج عقد من العقود.
الثاني: عرض مقاصد الشريعة من الزواج، ودور ذلك في الحكم على هذه المسالة.
اولا: اراء فقهاء المذاهب في معتمد العقود بين الالفاظ والمقاصد
اختلف الفقهاء في اثر القصود في صحة التصرفات والعقود، فمنهم من اعتبرها دون التفات الى
ظاهر الالفاظ والشروط والموانع، اذ ان الالفاظ موضوعة لمقاصدها ومعانيها، ومنهم من اهدرها ولم يعتبرها
واكتفى بالظاهر فقط دون رعاية لمالات العقود وتحقيق مضامينها ومعانيها.
فالحنفية يغلب عليهم الاخذ بظاهر الالفاظ في العقود، والاهم هو استجماع الشروط دون اعتبار للمعاني
والقصود والبواعث، ومن هنا راوا ان نكاح المحلل صحيح، قال السرخسي: «فان تزوج بها الثاني
على قصد ان يحللها للزوج الاول من غير ان يشترط ذلك في العقد صح النكاح
ويثبت الحل للاول اذا دخل بها الثاني وفارقها، فان شرط ان يحللها للاول فعند ابي
حنيفة رحمه الله تعالى الجواب كذلك ويكره هذا الشرط، وعند ابي يوسف رحمه الله تعالى
النكاح جائز ولكن لا تحل به للاول، وعند محمد رحمه الله تعالى النكاح فاسد» (5).
ومن يبيع العصير لمن يتخذه للخمر اجازوا بيعه، قال السرخسي: «بيع الكرم ممن يتخذ الخمر
من عينه جائز لا باس به، وكذلك بيع الارض ممن يغرس فيها كرما ليتخذ من
عنبه الخمر، وهذا قول ابي حنيفة وهو القياس، وكره ذلك ابويوسف ومحمد- رحمهما الله- استحسانا؛
لان بيع العصير والعنب ممن يتخذه خمرا اعانة على المعصية وتمكين منها، وذلك حرام» (6).
واما المالكية فانهم يعتبرون البواعث والقصود في العقود، ويحكمون بحلها او حرمتها، او بطلانها وصحتها،
انطلاقا من بواعثها ومقاصدها، ولا يتوقفون عند شروطها الظاهرة لنشوئها؛ ولهذا ابطلوا نكاح المحلل، قال
ابن جزي: «ولا- اي لا يحل الزوجة- نكاح التيس، وهو المحلل الذي يتزوجها ليحلها لزوجها
اتفاقا، ونكاحه باطل مفسوخ خلافا لهما- يعني ابا حنيفة والشافعي- والمعتبر في ذلك نية المحلل
لا نية المراة ولا نية المحلل له وقال قوم من نوى ذلك منهم افسد» (7).
وكذلك نكاح المريض والمريضة لا ينعقد، ولا يترتب عليه توارث بينهما، جاء في المدونة: «قلت:
ارايت المراة تتزوج وهي مريضة ايجوز تزويجها ام لا؟ قال: لا يجوز تزويجها عند مالك،
قال: فان تزوجها ودخل بها الزوج وهي مريضة؟ قال: ان ماتت كان لها الصداق ان
كان مسها، ولا ميراث له منها، وان مات هو وقد مسها فلها الصداق ولا ميراث
لها، وان كان لم يمسها فلا صداق لها ولا ميراث» (8).
واما الشافعية فانهم يعتمدون الظاهر دون النظر للمعاني في العقود، قال الامام الشافعي: «اصل ما
اذهب اليه ان كل عقد كان صحيحا في الظاهر لم ابطله بتهمة ولا بعادة بين
المتبايعين، واجزته بصحة الظاهر، واكره لهما النية اذا كانت النية لو اظهرت كانت تفسد البيع».
ويضرب لذلك امثلة فيقول: «كما اكره للرجل ان يشتري السيف على ان يقتل به ولا
يحرم على بائعه ان يبيعه ممن يراه انه يقتل به ظلما؛ لانه قد لا يقتل
به، ولا افسد عليه هذا البيع، وكما اكره للرجل ان يبيع العنب ممن يراه انه
يعصره خمرا، ولا افسد البيع اذا باعه اياه؛ لانه باعه حلالا، وقد يمكن ان لا
يجعله خمرا ابدا، وفي صاحب السيف الا يقتل به احدا ابدا، وكما افسد نكاح المتعة
ولو نكح رجل امراة عقدا صحيحا وهو ينوي الا يمسكها الا يوما او اقل او
اكثر لم افسد النكاح، انما افسده ابدا بالعقد الفاسد» (9).
واما الحنابلة فانهم يعتبرون البواعث والمقاصد في العقود، ولهذا حرموا نكاح المحلل، قال ابن قدامة:
«نكاح المحلل حرام باطل في قول عامة اهل العلم، منهم: الحسن والنخعي وقتادة ومالك والليث
والثوري وابن المبارك والشافعي، فان شرط عليه التحليل قبل العقد ولم يذكره في العقد ونواه
في العقد او نوى التحليل من غير شرط، فالنكاح باطل ايضا» (10).
وقال في كشاف القناع عبارة صريحة واضحة: «لا يصح نكاح المحلل؛ لانه ليس المقصود منه
بقاء المراة مع زوجها، والعقد لا يقصد به نقيض مقصوده» (11).
واما الظاهرية فمذهبهم مثل الشافعية، حيث يهدرون القصود في العقود ويقيمونها على ظاهرها؛ اذ انهم
يتركون الراي والقياس، ويتوقفون عند ظواهر النصوص؛ ولهذا اباحوا نكاح المحلل وغيره، قال ابن حزم:
«والذي نقول به- وبالله تعالى التوفيق-: ان كل نكاح انعقد سالما مما يفسده، ولم يشترط
فيه التحليل والطلاق فهو نكاح صحيح تام لا يفسخ، وسواء اشترط ذلك عليه قبل العقد
او لم يشترط؛ لان كل ناكح لمطلقة ثلاثا فهو محلل ولا بد، فالتحليل المحرم هنا
هو ما انعقد عقدا غير صحيح، واما اذا عقد النكاح على شرط التحليل ثم الطلاق
فهو عقد فاسد، ونكاح فاسد، فان وطئ فيه فان كان عالما ان ذلك لا يحل
فعليه الرجم والحد؛ لانه زنا، وعليها ان كانت عالمة مثل ذلك، ولا يلحق الولد، فان
كان جاهلا فلا حد عليه ولا صداق، والولد لاحق، وبالله تعالى التوفيق، وهكذا القول في
كل عقد فاسد بالشغار، والمتعة، والعقد بشرط ليس في كتاب الله تعالى، اي شرط كان،
وبالله تعالى التوفيق» (12).
يتبين من ذلك ان الحنفية والشافعية والظاهرية لا يعتبرون البواعث والقصود في العقود، وانما يحكمون
بالصحة على العقد بناء على ظاهر الفاظه واستجماع شروطه وانتفاء موانعه، اما المالكية والحنابلة فان
مبنى الامر عندهم على النيات والبواعث والقصود متى اتضحت وظهرت، حتى لو توافرت الشروط وانتفت
الموانع.
والذي يترجح من هذه الاقوال هو ما ذهبت اليه المالكية والحنابلة باعتبار النيات والبواعث والقصود،
وان العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للالفاظ والمباني، ولا يعني هذا اهمال تحقق الشروط
وانتفاء الموانع، بل لابد من مسايرة الشروط والظواهر للمعاني والمقاصد؛ وذلك لعدة امور:
الاول: ان هذا الراي يتسق مع روح الاسلام ومقاصد الشريعة ومقرراتها العامة.
الثاني: ان هناك نصوصا شرعية تقضي بهذا الراي، ولا يمكن تجاوزها، من ذلك: قوله تعالى:
{ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا} (البقرة: 231)، وقوله:{من بعد وصية يوصى بها او دين غير مضار}.
(النساء: 12)، فبينت الايتان الكريمتان حرمة هذه التصرفات اذا كانت بقصد الاضرار، وحديث: «انما الاعمال
بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى…» )، وهو اصل في ابطال الحيل وتحريم الوصول الى
اشياء محرمة، وان كانت الذرائع اليها مشروعة، او بوسائل ظاهرها الصحة، وقد سبقت الاشارة في
فصل الوظائف الى انه من المعلوم ان شيخ الاسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم اطالا
النفس في الحديث عن الحيل، قال ابن تيمية: «الحيل يستحلها من لم يفقه حكمة الشارع،
وهو ابعد الناس عن فهم مقصود الشارع ومعرفة العلل، وعن الفقه في الدين» (13)، وفصل
فيه ابن القيم بما لا مزيد عليه، وبخاصة في كتابيه: اعلام الموقعين، واغاثة اللهفان، وعقد
البخاري في جامعه الصحيح كتابا للحيل، واخرج فيه الاحاديث الدالة على ابطالها، وتحدث عنها السرخسي
في اخر مبسوطه في اكثر من مائة صفحة، والامام الشاطبي في موافقاته، والطاهر بن عاشور
في مقاصده، وغيرهم.
والثالث: اننا لو قلنا ان العقود تصح بشروطها وظواهرها دون النظر الى معانيها ومقاصدها يلزم
منه امور تنزهت عنها الشريعة، اذ «الشريعة قبل ان تكون الفاظا وعبارات، هي معان واغراض
ومقاصد تعبر عن ارادة المشرع» (14)، ومن هذه الامور اباحة نكاح المحلل، وهو الذي لعن
النبي فيه المحلل والمحلل له، واباحة بيع العينة، ومنها قبول الولاة للهدية من الرعية، ومنها
قبول الدائن الهدية من المدين، وهي ربا، الا اذا كانت عادة بينهما، والله تعالى لعن
اليهود حينما تحايلوا على حكمه؛ اذ حرم عليهم الصيد يوم السبت، وحينما دبغوا الجلود فباعوها…
وهكذا.
والخلاصة ان القول باهدار القصود والمعاني في العقود يفتح النوافذ امام ارتكاب الحرام، ويفسد الحياة
الاجتماعية والاخلاقية والسياسية، ويفرغ الاحكام الشرعية من مضمونها.
وهذا لا يعني التوسع في الاخذ بالقصود بما يهدر النصوص او ظواهرها، وانما يلزم الاخذ
بالمقاصد والمعاني حين يكون المقصد ظاهرا ومكشوفا، اما اذا لم تظهر المقاصد ولم تنكشف فالحكم
يكون على ظاهر الالفاظ، وبهذا فان بناء الحكم على قصد قد ظهر يكون بناء على
ظاهر معلوم لا على مغيب مجهول (15).
ثانيا: مقاصد الشريعة من الزواج، ودور ذلك في الحكم على للمسالة التي نحن بصددها، وللحكم
على زواج المصلحة وبيان دور المقاصد الجزئية في الاستدلال على حكمه ينبغي اولا ان نعرف
مقاصد الزواج، وقد تحدث الامامان الغزالي والشاطبي عن ذلك.
اما الامام الغزالي فقد اورد في كتابه العظيم: «احياء علوم الدين» كلاما عن حكم واسرار
ومقاصد وفوائد الزواج نورده باختصار من احيائه؛ حيث قال: «وفيه فوائد خمسة: الولد، وكسر الشهوة،
وتدبير المنزل، وكثرة العشيرة، ومجاهدة النفس بالقيام بهن» (16).
واما الامام ابواسحاق الشاطبي فقد تحدث عن مقاصد الزواج عرضا، وهو يتكلم عن ان للشارع
في شرع الاحكام العادية والعبادية مقاصد اصلية ومقاصد تابعة، ومثل لذلك بالنكاح فقال: «انه مشروع
للتناسل على المقصد الاول، ويليه طلب السكن والازدواج، والتعاون على المصالح الدنيوية والاخروية، من الاستمتاع
بالحلال، والنظر الى ما خلق الله من المحاسن في النساء، والتجمل بمال المراة، او قيامها
عليه وعلى اولاده منها او من غيرها او اخوته، والتحفظ من الوقوع في المحظور من
شهوة الفرج ونظر العين، والازدياد من الشكر بمزيد النعم من الله على العبد».
قال: «وعند ذلك يتبين ان نواقض هذه الامور مضادة لمقاصد الشارع باطلاق، من حيث كان
مالها الى ضد المواصلة والسكن والموافقة، كما اذا نكحها ليحلها لمن طلقها ثلاثا، فانه عند
القائل بمنعه مضاد لقصد المواصلة التي جعلها الشارع مستدامة الى انقطاع الحياة من غير شرط،
اذ كان المقصود منه المقاطعة بالطلاق، وكذلك نكاح المتعة، وكل نكاح على هذا السبيل، وهو
اشد في ظهور محافظة الشارع على دوام المواصلة، حيث نهى عما لم يكن فيه ذلك»
(17).
وهذه المقاصد- كما لا يخفى- مستخرجة من التامل في النصوص الشرعية التي تحدثت عن الزواج،
ومن ذلك: قوله تعالى: {والله جعل لكم من انفسكم ازواجا وجعل لكم من ازواجكم بنين
وحفدة ورزقكم من الطيبات افبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون”. (النحل: 72)، وقوله تعالى: {ومن
اياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة ان في
ذلك لايات لقوم يتفكرون} (الروم: 21).
وقول النبي “صلى الله عليه وسلم” فيما رواه مسلم بسنده عن عبدالله قال: قال لنا
رسول الله “صلى الله عليه وسلم” : «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج
فانه اغض للبصر واحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فانه له وجاء»(18) ، وعن
معقل بن يسار قال: جاء رجل الى النبي “صلى الله عليه وسلم” فقال: اني اصبت
امراة ذات حسب وجمال، وانها لا تلد افاتزوجها؟ قال: «لا». ثم اتاه الثانية فنهاه، ثم
اتاه الثالثة فقال: «تزوجوا الودود الولود فاني مكاثر بكم الامم» (19).
يمكن من خلال ما سبق القول ان مقاصد الزواج تتلخص في: طلب النسل، الصالح، وتحقيق
عمارة الله في الارض، وهو مقصد مترتب على طلب النسل، لانه بكثرة النسل تكون العمارة،
وتحقيق السكن النفسي، والاشباع الجنسي، والتراحم بين الزوجين، واعفاف الزوج نفسه؛ فالزواج اغض للبصر واحصن
للفرج، واعفاف الطرف الاخر؛ فهو من التعاون على البر والتقوى، واقامة الاسرة الصالحة التي تقام
فيها احكام الشرع، وتحقيق الاستقرار في المجتمع نفسيا وخلقيا، وتقوية اواصره، وهو ما يؤدي الى
حفظ نظامه الكلي وامنه العام؛ حيث ان الشهوة لها ضرام في ظهر الانسان، وما لم
يتيسر لها الطريق؛ فتصرف في مسارها المشروع، فان ذلك يؤدي الى سلوك طرق غير مشروعة،
ومسايرة الفطرة وعدم مصادمتها، فاستبقاء الفطرة نقية صافية كما خلقها الله، والحفاظ عليها، والسير مع
مقتضياتها وفق الشرع، وعدم مصادمتها لا شك انه مقصد عام من المقاصد المهمة.
الحكم المختار لزواج المصلحة في ضوء مقاصد عقد الزواج
ومن خلال ما سبق يمكن الاتفاق مع المجلس الاوربي للافتاء، او مع المالكية والحنابلة؛ خلافا
لراي العلامة ابن بية، او الحنفية والشافعية؛ فزواج المصلحة بصوره التي سبق ايرادها لا يجوز
بناء على انها فرغت العقد من مضمونه ومعانيه ومقاصده، بناء على ان المقصد منه مكشوف
وواضح، واذا كان كلام الفقهاء وخلافهم الذي سبق ذكره في العقود عامة، فكيف بعقد الزواج
الذي وصفه الله ب «الميثاق الغليظ» في قوله تعالى: {وان اردتم استبدال زوج مكان زوج
واتيتم احداهن قنطارا فلا تاخذوا منه شيئا اتاخذونه بهتانا واثما مبينا. وكيف تاخذونه وقد افضى
بعضكم الى بعض واخذن منكم ميثاقا غليظا}. (النساء: 20-21).
فلا شك ان الاحتياط لهذا العقد اولى، والحرص عليه والورع فيه يكون اكثر، واجراءه على
معانيه ومقاصده يكون ادعى واعلى، ولذلك فان الصورة الثالثة من صور زواج المصلحة وان اجازها
المجلس الاوربي للافتاء لاكتمال شروطها وانتفاء موانعها فانه اثم الزوج في هذه الصورة؛ لانه يضمر
في نفسه الطلاق بعد قضاء مصلحته، ولان هذا غش للزوجة واهلها.
وكذلك يحظر هذا الزواج؛ لان هذا العقد بصوره ينافي ما شرع الزواج لاجله؛ ولهذا وجدنا
ابن قدامة «يحرم»، ويبطل نكاح المحلل، سواء شرط فيه التحليل قبل العقد ولم يذكره في
العقد ونواه في العقد او نوى التحليل من غير شرط، وراينا الشاطبي يقول ان الزواج
مشروع للتناسل على المقصد الاول، وذكر مقاصد تبعية ثم قال: «نهى- يعني الشارع- عما لم
يكن فيه ذلك».
اذا اضيف لذلك ان اجراء قصد الزواج للمصلحة فقط يشوه صورة المسلمين في الغرب، ويعرض
الاسلام- دينا وملة- للقيل والقال هناك في وقت لسنا بحاجة فيه الى مزيد مطاردة ومزيد
اتهامات تبين بما لا تردد فيه ان هذا الزواج غير جائز، وبهذا يتضح دور مقصد
الحكم في الاستدلال على حكمه، والافادة منه في الاستدلال للتوصل الى حكم في نوازله ومستجداته.