ورد في لسان العرب لابن منظور: الصدق: نقيض الكذب, ومن امثالهم امثال العرب : الصدق
ينبئ عنك لا الوعيد, والصديق: المصدق والصديق: المصادق لك.
ويقال: فلان صديقي، اي اخص اصدقائي، وانما يصغر على وجه المدح، والصداقة والمصادقة: المخالة وصدق
النصيحة والاخاء, وصادقته مصادقة وصداقا: خاللته، وجمعها خلال, والخلة: الصداقة المختصة التي ليس فيها خلل،
وجمعها خلال, والخلال والمخالة: الصداقة، والخل: الود والصديق، والخليل: الصديق، والود: مصدر المودة.
قال ابن سيدة: الود الحب يكون في جمع مداخل الخير، والتجمل: تكلف الجميل، والمجاملة: المعاملة
بالجميل والمجامل: الذي يقدر على جوابك فيتركه ابقاء على مودتك، والالف: الذي تالفه، والالف: الاليف،
يقال: حنت الالف الى الالف، والرضا: ضد السخط، والحب: نقيض البغض، والحب: الوداد والمحبة, والشك:
نقيض اليقين، وجمعه شكوك.
العلاقات الاجتماعية والانسانية مهمة جدا بين الناس، ومن اهم هذه العلاقات ما نسميه بالصداقة، وقد
تكون الصداقة والمحبة والود بين شخصين لفترة محدودة تتداخل فيها المصالح والرغبات، والاهداف، فاذا ما
انتفت هذه الاهداف فقد ينصرم عقد الصداقة، وهذا مما يجعل ا حتمالا احد الطرفين الصادق
في صداقته يشعر بالحزن والاسى والالم، عندما يكتشف حقيقة صاحبه، وهذا ما نراه في عصرنا
الحاضر حيث تلعب المصالح والوصولية والانتفاع ، وحب المظاهر ادوارا مهمة في ماهية الصداقة واهدافها،
ويبدو ان ما يعانيه الانسان او بعض الناس في عصرنا من هذه الناحية، ما هو
الا ظاهرة انسانية متاصلة في حياة البشر على مر العصور, وهنا نحاول ان نتتبع وجهة
نظر ومفهوم شاعر العربية الفذ المتنبي في الصداقة بين اناس عصره الذي يسبق عصرنا بمئات
السنين ونقارنه فيما هو حادث في عصرنا الحاضر، وهل ما كان ينطبق على بعض اناس
عصر الشاعر ينطبق على بعض اناس عصرنا؟
قال ابو الطيب المتنبي في قصيدة يعاتب بها صديقه ؟ سيف الدولة:
1- شر البلاد بلاد لا صديق بها
وشر ما يكسب الانسان ما يصم
يقول العكبري في شرح هذا البيت: يصم: يعيب, والوصم: العيب, وجمعه: وصوم والوصم: الصدع في
العود من غير بينونة, والمعنى: يقول: شر البلاد بلاد لا يوجد فيها من يؤنس بوده،
ويسكن الى كريم فعله، وشر ماكسبه الانسان ما عابه واذله,وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها
محمد بن سيار بن مكرم التميمي:
2- ومن نكد الدنيا على الحر ان يرى
عدوا له ما من صداقته بد
يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: يقول: من نكد الدنيا، وقلة خيرها ان الحر يحتاج
فيها الى اظهار صداقة عدوه ليامن شره، وهو يعلم انه عدوه، وهو لا يجد بدا
من ان يريه الصداقة من نفسه، دفعا لغائلة، واراد ما من مداجاته مخادعته ، ولكنه
سمى المداجاة لما كانت في صورة الصداقة، ولما كان الناس يحسبونها صداقة.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها كافورا:
3- كفى بك داء ان ترى الموت شافيا
وحسب المنايا ان يكن امانيا
4- تمنيتها لما تمنيت ان ترى
صديقا فاعيا او عدوا مداجيا
يقول العكبري عن البيت الثالث: المعنى: كفاك داء رؤيتك الموت شفاء اي اذا افضت بك
الحال الى ان تتمنى المنايا، فذلك غاية الشدة، وان داء شفاؤه الموت، اقصى الادواء، وان
المنية اذا صارت امنية فهي غاية البلية, والمعنى: كفاك من اذية الزمان ما تتمنى معه
الموت، ويقول العكبري عن البيت الرابع: اعيا: صعب وعز والمداجي: المساتر للعداوة، وهو من الدجى،
وهي الظلمة والمعنى: يقول: تمنيت الموت لما طلبت صديقا مصافيا فاعجزك، او عدوا ساترا للعداوة،
وعند عدم الصديق المصافي، والعدو الموافق، يتمنى المرء المنية قال الواحدي: هذا تفسير الداء المذكور
في البيت, الثالث .
لقد بين ابو الطيب المتنبي في بيته الاول من ابياته الاربعة السابقة ان الانسان قد
يصيبه الاحباط، وتضيق به الدنيا بما رحبت عندما لا يجد ممن حوله من الناس من
يركن اليه ويشعر بصدق صداقته ومودته له، ويصاب المرء الحر المثالي ؟ بالنكد والنفص والحزن
عندما تضطره الحال ان يبدي صداقته ومودته لشخص يعرف تمام المعرفة كما يقول الشاعر في
بيته الثاني مقته وعداوته له, وهذا مما قد نراه في بعض الناس في حياتنا المعاصرة،
اما لخوف من ذلك الشخص او هدف لتحقيق مصلحة معينة او درء لزوال نعمة، ويوضح
شاعرنا المتنبي في بيته الثالث والرابع ان افتقار المرء لصديق صادق صدوق مخلص، ومصادقته رغم
انفه لعدو ساتر لعداوته وهو يحس فيها قد يصبح الموت عنده امنية، ونحن نسمع في
عصرنا الحاضر عن ازدياد ظاهرة الانتحار بين الناس حتى في دول متمسكة بعقيدتها وبروابطها العائلية
والاجتماعية ؟ والتي ربما يكون من احد اسبابها انعزال الفرد عن محيطه، وتقوقعه على ذاته،
وعدم وجود من يؤانسه ويصادقه ويصدق معه,وقال ابو الطيب في قصيدة يمدح بها سيف الدولة،
ويذكر ايقاعه بقبائل العرب:
1- وما بلد الانسان غير الموافق
ولاهله الادنون غير الاصادق
2- وجائزة دعوى المحبة والهوى
وان كان لا يخفى كلام المنافق
يقول العكبري في شرح البيت الاول: الاصادق: جمع صديق، وهم الذين يصدقون الود، وفسره الواحدي
بالاصدقاء، والادنون: الاقربون والمعنى: يقول هذا حاثا على التغرب؟ وترك حب الاوطان، وان كل بلد
وافقك فهو بلدك، وكل اهل ود اصفوك ودهم اهلك، فما بلد الانسان الا الذي يوافقه،
ويساعده على الظفر بجملة مقاصده والادنون من اهله: اللاصقون به من قرابته الذين يصفونه ودهم،
والاحبة: الذين لا يؤخرون عنه فضلهم ويقول العكبري عن البيت الاخر: المنافق: الذي يظهر خلاف
ما يعتقده، والمعنى: يقول: يجوز ان يدعي المحبة من لا يعتقدها، ويظاهر بها من لا
يلتزمها، ولكن المنافق لا يخفي اضطراب لفظه، وهذا اشارة الى ان شكره لسيف الدولة ليس
كشكر من يتصنع له، ولا يخلص له حقيقة وده.
يقول شاعرنا ابو الطيب المتنبي في بيتيه السابقين: بلد الانسان هو البلد الذي يشعر به
بالكرامة والعز والراحة النفسية، والصديق الوفي المخلص في صداقته الخالص في محبته خير من القريب
اللاصق بقرابته اذا لم يكن صادقا في وده ومحبته، وقد ينخدع بعض الناس باشخاص يظهرون
الصداقة والمحبة والمودة، ولكنهم منافقون غير صادقين في ذلك,, وهذا ما نراه في عصرنا الحاضر،
فقد يكون الاخ الشقيق او ابن العم القريب مخادعا ومنافقا في حبه ومودته وصداقته لغرض
من الاغراض، او للحصول على منفعة معينة، وعندما ينتفي ذلك يظهر منه الجفاء ومحاولة الابتعاد،
فما بالك بالناس الاخرين، وقد ينخدع بعض الناس بسلوك غيره من الناس لفترة قد تطول
او تقصر، ولكن الزمن يكون بالمرصاد لكشف الحقيقة المرة, يقول نافع 1403ه 1983م يرى المتنبي
في الاخلاق العالية الدعامة الاساسية للصدق، وان الحكم الاول والاخير على هذا الصديق يعود اليها,
وان هذه الاخلاق ينبغي ان تكون طبعا له، لا يتكلفها، فان المرء يستطيع ان يدعي
المودة والحب والهوى، ولكنه اذا كان منافقا فلابد للايام ان تفصحه, لقد اشار شاعرنا في
بيته الاول من بيتيه السابقين الى ظاهرة الانعزال وهي سلوك قد يقوم به الشخص عندما
يكتشف حقيقة علاقته بالناس الاخرين وحتى باقرب اقربائه فيلجا الى وسيلة الابتعاد والتغرب، او الى
الانعزال والتفرد عن الناس، وتعرف الموسوعة الامريكية 1985م الشخص المنعزل بانه ذلك الانسان الذي يعيش
حياة منعزلة عن الاتصال الاجتماعي مع الاخرين وقد ينعزل الانسان لعدة اسباب، فهو يمكن انه
يريد تجنب ما يراه في المجتمع من حوله من سوء اخلاق وغيرها، او انه يعتقد
انه يحمي نفسه منهم بعيشه المنفرد، وقد ينعزل ليعطي نفسه الفرصة للتفكير والتامل,, لقد سمعنا
ولا نزال نسمع في عصرنا الحاضر انعزال اشخاص اصحاب فكر وعلم وادب بسبب ما لا
حظوه في مجتمعاتهم من فساد اخلاق.
وقال شاعرنا المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
1- اذا ما الناس جربهم لبيب
فاني قد اكلتهم وذاقا
2- فلم ار ودهم الا خداعا
ولم ار دينهم الا نفاقا
يقول العكبري في شرح البيت الاول: المعنى: يقول: معرفتي الناس، اكثر من معرفة اللبيب المجرب،
لاني اكل وهو ذائق، والذائق ليس في المعرفة كالاكل، لان الاكل اتم معرفة من الذائق،
وذلك لتمكين في اختبارهم واحاطتي بمعرفتهم، ويقول العكبري عن البيت الاخر: المعنى: يقول: لم ار
ما يتجاورون فيه من الود الا الخداع والمكاذبة، وما يبدونه من الدين الا نفاقا.
لقد اشار شاعرنا المتنبي في بيته هذين الى سلوكين متعارضين ومتباينين في بعض الاشخاص، فقد
يظهر شخص لشخص اخر الود والمحبة والصداقة، ولكنه يضمر عكسها، كما انك قد تجد بعض
الافراد يظهر الورع والتدين، وهو في حقيقة امره ما هو الا منافق ومخادع لاسباب معينة
عنده، وهذا ما نشاهده في عصرنا الحاضر في عديد من الناس، فقد تجد هذا التباين
في السلوك عند اخيك، او جارك، او زميلك في عملك,,!!وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها
كافورا:
1- اقل اشتياقا ايها القلب ربما
رايتك تصفي الود من ليس جازيا
2- خلقت الوفا لو رحلت الى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
يقول العكبري عن البيت الاول: الود: المحبة، وتصفي: تخلص والمعنى: يقول لقلبه: لا تشتق الى
من لا يشتاق اليك فانك تحب من لا يجازيك بالمحبة,, ويقول العكبري عن البيت الاخر:
المعنى: قال ابو الفتح: هذا شرح لما قبله، ودليل على انه فارق سيف الدولة ذاما،
لانه جعله كالشيب، اي لو فارقت الشيب الذميم برحيلي الى الصبا، وهو خير حياة الانسان،
لكان ذلك الفراق موجعا لقلبي، مبكيا لعيني، وقال الواحدي: هذا البيت راس في صحة الالف،
وذلك ان كل احد يتمنى مفارقة الشيب، وهو يقول: لو فارقني شيبي الى الصبا، لبكيت
عليه لالفي اياه، لاني خلقت الوفا,هذه هي مشكلة المتنبي في عصره، فلا دخل لعصرنا فيها،
لان اغلب الناس في عصرنا لا يعرفون للالفة والمودة والمحبة والاخلاص سبيلا او طريقا الى
قلوبهم، واخلوا من قواميسهم هذه الكلمات الجوفاء، فهذه الكلمات ما هي الا كحصان طروادة تستخدم
لاغراض ومارب معينة، فاناس عصرا وربما اغلب الناس في عصر الشاعر عندما قرؤوا او يقرؤون
بيتي شاعرنا السابقين لانطلقت حناجرهم باصوات القهقهة والضحك والاستهجان تسفيها لراي شاعرنا.
وقال ابو الطيب في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
1- غيري باكثر هذا الناس ينخدع
ان قاتلوا جبنوا او حدثوا شجعوا
2- اهل الحفيظة الا ان تجربهم
وفي التجارب بعد الغي ما يزع
يقول العكبري عن البيت الاول: الخداع: الغرور، واصله من خدع الضب في حجره: اذا دخل
فيه، والخداع: ان يتمكن الكلام الباطل في قلب مستمعيه فينخدع، والاسم: الخديعة، والخدعة، والمعنى: لا
اعتقد في هؤلاء الناس الخير، ولكن غيري ممن يجهل امرهم يغتر بقولهم، فينخدع به، لانهم
اذا قاتلوا جبنوا، واذا حدثوا اظهروا الشجاعة، اي ان شجاعتهم القول لا بالفعل، ويقول العكبري
عن البيت الاخر: الحفيظة: الحمية والانفة, والغي: الفساد، ويزع: يكف، والمعنى: يقول: هم اهل الحفيظة
غير مجربين، فاذا جربتهم لم ترهم كذلك، وفي تجربتهم ما يكف عن مخالطتهم.
يعرف بعض من الناس في عصرنا الحاضر ان اغلب من يتعاملون معهم من الناس مبنية
حياتهم وسلوكياتهم على الغش والخداع والكلام المنمق والتظاهر بالمثل والاخلاق الرفيعة، ولكنهم في الحقيقة يظهرون
ما لا يبطنون، ويقولون ويعدون ولا يفعلون، ويبدون المحبة والصداقة,, و,, ويبطنون الكره والبغضاء والحسد،
ومع معرفة الانسان لحقيقتهم، فليس له لا حول ولا قوة، ولا شجاعة لنبذهم والابتعاد عنهم
لتداخل المصالح المعيشية في زمننا المعاصر,, وقال المتنبي في قصيدة يذكر فيها مسيره من مصر
ويرثي فاتكا؟
1- وكن على حذر للناس تستره
ولا يغرك منهم ثغر مبتسم
2- غاض الوفاء فما تلقاه في عدة
واعوز الصدق في الاخبار والقسم
يقول العكبري عن البيت الاول: المعنى: يقول: احذر الناس، واستر حذرك منهم، ولا تغتر بابتسامهم
اليك، فان خدعهم في صدورهم، فهم يضمرون في قلوبهم ما لا يبدون لك من المكر،
وهذا من قول الحكيم: الحيوان كله متغلب، وليس من السياسة شكوى بعض الى بعض، ويقول
العكبري عن البيت الاخر: المعنى: نقص الوفاء، فما تراه في عدة وعد ، يعني اذا
وعدك احد بشيء فما يصدق فيه، واذا حلف لم يصدق.
نحس ونحن نقرا بيتي شاعرنا المتنبي هذين وكانه يعيش بيننا في عصرنا الحاضر، فكم وكم
من انسان في عصرنا الحالي يبتسم لانسان اخر ابتسامات عريضة، وخلف هذه الابتسامات يخفي حقده
وغله ومكره عليه، وقد يحلف ويقسم باغلظ الالفاظ بان يفعل له كذا وكذا، ويعده بهذا
وذاك، وهو غير صادق او مخلص في قوله، وهذا ضرب من ضروب الرياء والمخادعة، والرياء
كما عرفه علم النفس الحديث حالة مرضية، حيث يقوم الانسان المرائي بافعال ظاهرة للعيان، ولكنها
تعاكس ما يبطنه، ولذلك قيل: الرياء يلبس الرذيلة ثوب الفضيلة، ولو عدنا مرة اخرى الى
بيتي شاعرنا السابقين نجده يقول: لا يغرك منهم من الناس ثغر فم مبتسم، وهنا فقد
لمح الشاعر انه ربما يكون خلف الابتسامة السم الزعاف,, اما الكذب كما يعرفه علم النفس
سلوك يقوم به الفرد متعمدا مع علمه بعدم صحة قوله,وقال الشاعر في قصيدة يذكر بها
حماه التي كانت تغشاه بمصر:
1- فلما صار ود الناس خبا
جزيت على ابتسام بابتسام
2- وصرت اشك فيمن اصطفيه
لعلمي انه بعض الانام
3- يحب العاقلون على التصافي
وحب الجاهلين على الوسام
يقول العكبري في شرح البيت الاول: الخب: المكر, والود: الحب والصداقة والمعنى: يقول: لما صار
ود الناس غير صادق، صرت كاحدهم ، افعل بهم كما يفعلون، فاذا ابتسموا الي، تبسمت
لهم، ويقول العكبري عن البيت الثاني: المعنى يقول: لم اكن على ثقة من مودة من
اوده، لعلمي انه من جملة الناس يريد: لعموم فساد الخلق كلهم، اذا اخترت احدا للمودة
لم اثق بمودته، ويقول العكبري عن البيت الثالث: الوسام والوسامة: الحسن, والمعنى: يقول: العاقل انما
يحب من يحبه على صفاء الود، فمن اصفى له الود احبه، والجاهل يحب على جمال
الصورة، وذلك حب الجهال، لانه ليس كل جميل المنظر يستحق المحبة، كخضراء الدمن: رائق اللون،
وبي المذاق.
نعتقد ان بعض الاشخاص في عصرنا الحاضر وخصوصا في عصرته تجاربه مع الناس يتبع في
علاقته مع بعض الافراد ما فعله شاعرنا مع الماكرين والمخادعين في عصره كما بين في
بيته الثاني فاذا تبسم او ضحك له شخص ماكر مخادع رد عليه ابتسامة بابتسامة، وضحكة
بضحكة، ولتفشي هذه الظاهرة في عصرنا يشك بعض الناس حتى بصدق اقرب الناس اليه، وقد
يقوم بعض ممن لم تحكه التجارب مع الناس باظهار المودة والصداقة لشخص معين لجمال صورته،
او لمكانته الاجتماعية او حتى لاسمه ومركزه,, اما العاقل المجرب فهو يحب ويصادق على صفاء
الود والصدق والمحبة ان وجدها في الطرف الاخر؟ , يقول السيوفي 1980م في تعليق له
على الابيات السابقة: بعد ان عرف المتنبي في حلب قوة الطموح، وروعة الحلم، ونشوة التحقيق
اذا به هنا في مصر وقدوهم ان الحال قد تتغير يصطدم بهذا الواقع المرير فالخداع
صار هو الغالب، والمظاهر الفارغة الخلب التي سلبت من الابصار دهشتها حتى احالتها جوفاء فارغة
متحجرة، قد صارت هي المقياس والافق,, لقد ذهب الود وصار ماضيا وحل مكانه الخب الدخيل,
واذا بسمة الطهارة تفقد عذريتها لتسجيل قناع من الرياء الكاذب, وحار الشاعر كيف يداوي ذلك,,
هو الذي ما اعتاد غير الصدق والصراحة والاخلاص، وما كان منه الا ان قابل ابتسامة
عصره بابتسامة الرثاء والحسرة والاشفاق فالياس,, لقد تاكد المتنبي مما يقوله بعد طول اختبار وتجربة,
وقال ابو الطيب في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
ما الخل الا من اود بقلبه
وارى بطرف لا يرى بسوائه
يقول العكبري في شرح هذا البيت: الخل: الصديق، وهو الخليل ايضا والمعنى: قال ابو الفتح:
يقول : ليس لك خليل الا نفسك, قال: ويجوز ان يكون المعنى: ما الخل الا
من لا فرق بيني وبينه فاذا وددت فكاني احب بقلبه، واذا نظرت فكاني انظر بطرفه.
والمعنى: خليلك من وافقك في كل شيء، فيود ما وددت ويرى ما ترى وقال ابن
القطاع: ما خليل الا الذي يبالغ في المودة، فكانه يود بقلبي.
لقد بين ابو الطيب في بيته هذا من من الناس الذي تنطبق عليه الشروط والمواصفات
بان يكون خلا وصديقا,, ونعتقد ان ما قاله شاعرنا يعد من ثالث المستحيلات الخل الوفي
بان تجد في عصرنا الراهن خلا وفيا صادقا ولا في عصر شاعرنا ولا في العصور
التي سبقته ولا بالعصور التي تلته، والادهى ان عصرنا عصر اختلطت فيه المفاهيم والقيم ولم
يعد يعرف فيه من هو الحابل ومن هو النابل؟
وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها عضد الدولة:
1- وفي الاحباب مختص بوجد
واخر يدعي معه اشتراكا
2- اذا اشتبهت دموع في خدود
تبين من بكى ممن تباكى
يقول العكبري عن البيت الاول: المعنى: يقول: وفي الاحبة من وجده صحيح لا دعوى، ومنهم
من يدعي المحبة وليس هو من اهلها وليس لدعواه حقيقة او المعنى: انه صحيح الود
ليس كمن يدعي الوداد من غير حقيقة، او لست ممن يدعي محبتك الممدوح ويظهر غير
ذلك، لان ما اشتهر فيك من صحيح المدح يدل على اني صحيح الود، غير مداج
في موالاتك.
لقد بين شاعرنا المتنبي في بيتيه هذين ان بعض الصداقات واظهار الود والمحبة هي في
حقيقتها صادقة، ولكن قد ينخدع المرء بالظاهر فعليه ان يتحرى ويتبين من بكى صادقا ومن
تباكى، ومن يظهر المحبة ويدعيها صدقا ومن يدعيها كذبا,, وهذا التبين نعتقد انه مستحيل في
عصرنا لانه على الاقل اعجز الناس في العصور التي قبلنا.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها بدر بن عمار:
1- اذا صديق نكرت جانبه
لم تعيني في فراقه الحيل
2- في سعة الخافقين مضطرب
وفي بلاد من اختها بدل
يقول العكبري عن البيت الاول: نكرت وانكرت: لغتان وعييت بامري: اذا لم اهتد اليه واعياني
هو, المعنى: يقول: اذا تغير علي صديق وحال عن ودي وانكرت احواله لم تعجزني الحيلة
في فراقه بل افارقه ولم اقم عليه ويقول العكبري عن البيت الاخر الخافقين: الشرق والغرب
لان الريح تخفق فيهما والمضطرب موضع الاضطراب وهو الذهاب والمجيء, والمعنى: يقول : البلاد كثيرة،
والارض واسعة فاذا لم يطب موضع كان لي غيره بدلا.
لقد وضح ابو الطيب في بيتيه السابقين الحل عندما يكتشف المرء تبدل وتغير احوال من
يحبه ويوده ويصادقه فما عليه الا ان يتجنبه ويرحل عنه,, وهذا ما فعله الشاعر في
عصره حيث امتطى ظهر جواده وفر,, اما في عصرنا فماذا نركب؟ وكيف نرحل، والناس هم
الناس في كل مكان,, فما علينا الا المخاتلة والمخادعة.
وقال ابو الطيب المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
1- رضاك رضاي الذي اوثر
وسرك سري فما اظهر
2- كفتك المروءة ما تتقي
وامنك الود ما تحذر
3- وسركم في الحشا ميت
اذا انشر لا ينشر
يقول العكبري في شرح البيت الاول: سرنا واحد، فما اظهر منه واذا رضيت امرا فهو
رضاي، وكذا اذا شخطته سخطته ويقول العكبري عن البيت الثاني: المعنى: يريد اني ذو مروءة
ومحبة خالصة فلا افشي سرك ويقول العكبري عن البيت الثالث نشر الله الموتى وانشرهم فنشروهم،
وكله في الاحياء, والمعنى: يقول: السر لشدة اخفائه في قلبي هو ميت اماتة لا يحيا
بعدها.
لقد حدد ابو الطيب في ابياته هذه ما يجب ان تكون عليه الصداقة والمحبة بين
شخصين من حفظ للمودة وللسر ولكن وبالرغم من قوله هذا فقد انصرفت عرى الصداقة والمحبة
والود وكتمان الاسرار بينه وبين صاحبه سيف الدولة، وهذا لم يترك لنا مجالا الا القول
عما يسمى بالصداقة والود والمحبة في عصرنا الحاضر ماهي الا كلمات جوفاء ليس لها معنى
وهي ضروب من الرياء وخاتمة قولنا في هذا الصدد هو قول شاعرنا حيث يقول في
قصيدة يمدح بها المغيث بن علي العجلي:
خليلك انت لا من قلت خلي
وان كثر التجمل والكلام
يقول العكبري عن هذا البيت: الخليل: الصديق, والانثى خليلة, والخليل ايضا : الفقير المختل الحال,
والمعنى: يقول: ليس لاحد صديق الا نفسه في الحقيقة، وليس من تقول هو: خليلي خليلا
لك وان كثر تملقه ولان لك قوله .
ينبئ عنك لا الوعيد, والصديق: المصدق والصديق: المصادق لك.
ويقال: فلان صديقي، اي اخص اصدقائي، وانما يصغر على وجه المدح، والصداقة والمصادقة: المخالة وصدق
النصيحة والاخاء, وصادقته مصادقة وصداقا: خاللته، وجمعها خلال, والخلة: الصداقة المختصة التي ليس فيها خلل،
وجمعها خلال, والخلال والمخالة: الصداقة، والخل: الود والصديق، والخليل: الصديق، والود: مصدر المودة.
قال ابن سيدة: الود الحب يكون في جمع مداخل الخير، والتجمل: تكلف الجميل، والمجاملة: المعاملة
بالجميل والمجامل: الذي يقدر على جوابك فيتركه ابقاء على مودتك، والالف: الذي تالفه، والالف: الاليف،
يقال: حنت الالف الى الالف، والرضا: ضد السخط، والحب: نقيض البغض، والحب: الوداد والمحبة, والشك:
نقيض اليقين، وجمعه شكوك.
العلاقات الاجتماعية والانسانية مهمة جدا بين الناس، ومن اهم هذه العلاقات ما نسميه بالصداقة، وقد
تكون الصداقة والمحبة والود بين شخصين لفترة محدودة تتداخل فيها المصالح والرغبات، والاهداف، فاذا ما
انتفت هذه الاهداف فقد ينصرم عقد الصداقة، وهذا مما يجعل ا حتمالا احد الطرفين الصادق
في صداقته يشعر بالحزن والاسى والالم، عندما يكتشف حقيقة صاحبه، وهذا ما نراه في عصرنا
الحاضر حيث تلعب المصالح والوصولية والانتفاع ، وحب المظاهر ادوارا مهمة في ماهية الصداقة واهدافها،
ويبدو ان ما يعانيه الانسان او بعض الناس في عصرنا من هذه الناحية، ما هو
الا ظاهرة انسانية متاصلة في حياة البشر على مر العصور, وهنا نحاول ان نتتبع وجهة
نظر ومفهوم شاعر العربية الفذ المتنبي في الصداقة بين اناس عصره الذي يسبق عصرنا بمئات
السنين ونقارنه فيما هو حادث في عصرنا الحاضر، وهل ما كان ينطبق على بعض اناس
عصر الشاعر ينطبق على بعض اناس عصرنا؟
قال ابو الطيب المتنبي في قصيدة يعاتب بها صديقه ؟ سيف الدولة:
1- شر البلاد بلاد لا صديق بها
وشر ما يكسب الانسان ما يصم
يقول العكبري في شرح هذا البيت: يصم: يعيب, والوصم: العيب, وجمعه: وصوم والوصم: الصدع في
العود من غير بينونة, والمعنى: يقول: شر البلاد بلاد لا يوجد فيها من يؤنس بوده،
ويسكن الى كريم فعله، وشر ماكسبه الانسان ما عابه واذله,وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها
محمد بن سيار بن مكرم التميمي:
2- ومن نكد الدنيا على الحر ان يرى
عدوا له ما من صداقته بد
يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: يقول: من نكد الدنيا، وقلة خيرها ان الحر يحتاج
فيها الى اظهار صداقة عدوه ليامن شره، وهو يعلم انه عدوه، وهو لا يجد بدا
من ان يريه الصداقة من نفسه، دفعا لغائلة، واراد ما من مداجاته مخادعته ، ولكنه
سمى المداجاة لما كانت في صورة الصداقة، ولما كان الناس يحسبونها صداقة.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها كافورا:
3- كفى بك داء ان ترى الموت شافيا
وحسب المنايا ان يكن امانيا
4- تمنيتها لما تمنيت ان ترى
صديقا فاعيا او عدوا مداجيا
يقول العكبري عن البيت الثالث: المعنى: كفاك داء رؤيتك الموت شفاء اي اذا افضت بك
الحال الى ان تتمنى المنايا، فذلك غاية الشدة، وان داء شفاؤه الموت، اقصى الادواء، وان
المنية اذا صارت امنية فهي غاية البلية, والمعنى: كفاك من اذية الزمان ما تتمنى معه
الموت، ويقول العكبري عن البيت الرابع: اعيا: صعب وعز والمداجي: المساتر للعداوة، وهو من الدجى،
وهي الظلمة والمعنى: يقول: تمنيت الموت لما طلبت صديقا مصافيا فاعجزك، او عدوا ساترا للعداوة،
وعند عدم الصديق المصافي، والعدو الموافق، يتمنى المرء المنية قال الواحدي: هذا تفسير الداء المذكور
في البيت, الثالث .
لقد بين ابو الطيب المتنبي في بيته الاول من ابياته الاربعة السابقة ان الانسان قد
يصيبه الاحباط، وتضيق به الدنيا بما رحبت عندما لا يجد ممن حوله من الناس من
يركن اليه ويشعر بصدق صداقته ومودته له، ويصاب المرء الحر المثالي ؟ بالنكد والنفص والحزن
عندما تضطره الحال ان يبدي صداقته ومودته لشخص يعرف تمام المعرفة كما يقول الشاعر في
بيته الثاني مقته وعداوته له, وهذا مما قد نراه في بعض الناس في حياتنا المعاصرة،
اما لخوف من ذلك الشخص او هدف لتحقيق مصلحة معينة او درء لزوال نعمة، ويوضح
شاعرنا المتنبي في بيته الثالث والرابع ان افتقار المرء لصديق صادق صدوق مخلص، ومصادقته رغم
انفه لعدو ساتر لعداوته وهو يحس فيها قد يصبح الموت عنده امنية، ونحن نسمع في
عصرنا الحاضر عن ازدياد ظاهرة الانتحار بين الناس حتى في دول متمسكة بعقيدتها وبروابطها العائلية
والاجتماعية ؟ والتي ربما يكون من احد اسبابها انعزال الفرد عن محيطه، وتقوقعه على ذاته،
وعدم وجود من يؤانسه ويصادقه ويصدق معه,وقال ابو الطيب في قصيدة يمدح بها سيف الدولة،
ويذكر ايقاعه بقبائل العرب:
1- وما بلد الانسان غير الموافق
ولاهله الادنون غير الاصادق
2- وجائزة دعوى المحبة والهوى
وان كان لا يخفى كلام المنافق
يقول العكبري في شرح البيت الاول: الاصادق: جمع صديق، وهم الذين يصدقون الود، وفسره الواحدي
بالاصدقاء، والادنون: الاقربون والمعنى: يقول هذا حاثا على التغرب؟ وترك حب الاوطان، وان كل بلد
وافقك فهو بلدك، وكل اهل ود اصفوك ودهم اهلك، فما بلد الانسان الا الذي يوافقه،
ويساعده على الظفر بجملة مقاصده والادنون من اهله: اللاصقون به من قرابته الذين يصفونه ودهم،
والاحبة: الذين لا يؤخرون عنه فضلهم ويقول العكبري عن البيت الاخر: المنافق: الذي يظهر خلاف
ما يعتقده، والمعنى: يقول: يجوز ان يدعي المحبة من لا يعتقدها، ويظاهر بها من لا
يلتزمها، ولكن المنافق لا يخفي اضطراب لفظه، وهذا اشارة الى ان شكره لسيف الدولة ليس
كشكر من يتصنع له، ولا يخلص له حقيقة وده.
يقول شاعرنا ابو الطيب المتنبي في بيتيه السابقين: بلد الانسان هو البلد الذي يشعر به
بالكرامة والعز والراحة النفسية، والصديق الوفي المخلص في صداقته الخالص في محبته خير من القريب
اللاصق بقرابته اذا لم يكن صادقا في وده ومحبته، وقد ينخدع بعض الناس باشخاص يظهرون
الصداقة والمحبة والمودة، ولكنهم منافقون غير صادقين في ذلك,, وهذا ما نراه في عصرنا الحاضر،
فقد يكون الاخ الشقيق او ابن العم القريب مخادعا ومنافقا في حبه ومودته وصداقته لغرض
من الاغراض، او للحصول على منفعة معينة، وعندما ينتفي ذلك يظهر منه الجفاء ومحاولة الابتعاد،
فما بالك بالناس الاخرين، وقد ينخدع بعض الناس بسلوك غيره من الناس لفترة قد تطول
او تقصر، ولكن الزمن يكون بالمرصاد لكشف الحقيقة المرة, يقول نافع 1403ه 1983م يرى المتنبي
في الاخلاق العالية الدعامة الاساسية للصدق، وان الحكم الاول والاخير على هذا الصديق يعود اليها,
وان هذه الاخلاق ينبغي ان تكون طبعا له، لا يتكلفها، فان المرء يستطيع ان يدعي
المودة والحب والهوى، ولكنه اذا كان منافقا فلابد للايام ان تفصحه, لقد اشار شاعرنا في
بيته الاول من بيتيه السابقين الى ظاهرة الانعزال وهي سلوك قد يقوم به الشخص عندما
يكتشف حقيقة علاقته بالناس الاخرين وحتى باقرب اقربائه فيلجا الى وسيلة الابتعاد والتغرب، او الى
الانعزال والتفرد عن الناس، وتعرف الموسوعة الامريكية 1985م الشخص المنعزل بانه ذلك الانسان الذي يعيش
حياة منعزلة عن الاتصال الاجتماعي مع الاخرين وقد ينعزل الانسان لعدة اسباب، فهو يمكن انه
يريد تجنب ما يراه في المجتمع من حوله من سوء اخلاق وغيرها، او انه يعتقد
انه يحمي نفسه منهم بعيشه المنفرد، وقد ينعزل ليعطي نفسه الفرصة للتفكير والتامل,, لقد سمعنا
ولا نزال نسمع في عصرنا الحاضر انعزال اشخاص اصحاب فكر وعلم وادب بسبب ما لا
حظوه في مجتمعاتهم من فساد اخلاق.
وقال شاعرنا المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
1- اذا ما الناس جربهم لبيب
فاني قد اكلتهم وذاقا
2- فلم ار ودهم الا خداعا
ولم ار دينهم الا نفاقا
يقول العكبري في شرح البيت الاول: المعنى: يقول: معرفتي الناس، اكثر من معرفة اللبيب المجرب،
لاني اكل وهو ذائق، والذائق ليس في المعرفة كالاكل، لان الاكل اتم معرفة من الذائق،
وذلك لتمكين في اختبارهم واحاطتي بمعرفتهم، ويقول العكبري عن البيت الاخر: المعنى: يقول: لم ار
ما يتجاورون فيه من الود الا الخداع والمكاذبة، وما يبدونه من الدين الا نفاقا.
لقد اشار شاعرنا المتنبي في بيته هذين الى سلوكين متعارضين ومتباينين في بعض الاشخاص، فقد
يظهر شخص لشخص اخر الود والمحبة والصداقة، ولكنه يضمر عكسها، كما انك قد تجد بعض
الافراد يظهر الورع والتدين، وهو في حقيقة امره ما هو الا منافق ومخادع لاسباب معينة
عنده، وهذا ما نشاهده في عصرنا الحاضر في عديد من الناس، فقد تجد هذا التباين
في السلوك عند اخيك، او جارك، او زميلك في عملك,,!!وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها
كافورا:
1- اقل اشتياقا ايها القلب ربما
رايتك تصفي الود من ليس جازيا
2- خلقت الوفا لو رحلت الى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
يقول العكبري عن البيت الاول: الود: المحبة، وتصفي: تخلص والمعنى: يقول لقلبه: لا تشتق الى
من لا يشتاق اليك فانك تحب من لا يجازيك بالمحبة,, ويقول العكبري عن البيت الاخر:
المعنى: قال ابو الفتح: هذا شرح لما قبله، ودليل على انه فارق سيف الدولة ذاما،
لانه جعله كالشيب، اي لو فارقت الشيب الذميم برحيلي الى الصبا، وهو خير حياة الانسان،
لكان ذلك الفراق موجعا لقلبي، مبكيا لعيني، وقال الواحدي: هذا البيت راس في صحة الالف،
وذلك ان كل احد يتمنى مفارقة الشيب، وهو يقول: لو فارقني شيبي الى الصبا، لبكيت
عليه لالفي اياه، لاني خلقت الوفا,هذه هي مشكلة المتنبي في عصره، فلا دخل لعصرنا فيها،
لان اغلب الناس في عصرنا لا يعرفون للالفة والمودة والمحبة والاخلاص سبيلا او طريقا الى
قلوبهم، واخلوا من قواميسهم هذه الكلمات الجوفاء، فهذه الكلمات ما هي الا كحصان طروادة تستخدم
لاغراض ومارب معينة، فاناس عصرا وربما اغلب الناس في عصر الشاعر عندما قرؤوا او يقرؤون
بيتي شاعرنا السابقين لانطلقت حناجرهم باصوات القهقهة والضحك والاستهجان تسفيها لراي شاعرنا.
وقال ابو الطيب في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
1- غيري باكثر هذا الناس ينخدع
ان قاتلوا جبنوا او حدثوا شجعوا
2- اهل الحفيظة الا ان تجربهم
وفي التجارب بعد الغي ما يزع
يقول العكبري عن البيت الاول: الخداع: الغرور، واصله من خدع الضب في حجره: اذا دخل
فيه، والخداع: ان يتمكن الكلام الباطل في قلب مستمعيه فينخدع، والاسم: الخديعة، والخدعة، والمعنى: لا
اعتقد في هؤلاء الناس الخير، ولكن غيري ممن يجهل امرهم يغتر بقولهم، فينخدع به، لانهم
اذا قاتلوا جبنوا، واذا حدثوا اظهروا الشجاعة، اي ان شجاعتهم القول لا بالفعل، ويقول العكبري
عن البيت الاخر: الحفيظة: الحمية والانفة, والغي: الفساد، ويزع: يكف، والمعنى: يقول: هم اهل الحفيظة
غير مجربين، فاذا جربتهم لم ترهم كذلك، وفي تجربتهم ما يكف عن مخالطتهم.
يعرف بعض من الناس في عصرنا الحاضر ان اغلب من يتعاملون معهم من الناس مبنية
حياتهم وسلوكياتهم على الغش والخداع والكلام المنمق والتظاهر بالمثل والاخلاق الرفيعة، ولكنهم في الحقيقة يظهرون
ما لا يبطنون، ويقولون ويعدون ولا يفعلون، ويبدون المحبة والصداقة,, و,, ويبطنون الكره والبغضاء والحسد،
ومع معرفة الانسان لحقيقتهم، فليس له لا حول ولا قوة، ولا شجاعة لنبذهم والابتعاد عنهم
لتداخل المصالح المعيشية في زمننا المعاصر,, وقال المتنبي في قصيدة يذكر فيها مسيره من مصر
ويرثي فاتكا؟
1- وكن على حذر للناس تستره
ولا يغرك منهم ثغر مبتسم
2- غاض الوفاء فما تلقاه في عدة
واعوز الصدق في الاخبار والقسم
يقول العكبري عن البيت الاول: المعنى: يقول: احذر الناس، واستر حذرك منهم، ولا تغتر بابتسامهم
اليك، فان خدعهم في صدورهم، فهم يضمرون في قلوبهم ما لا يبدون لك من المكر،
وهذا من قول الحكيم: الحيوان كله متغلب، وليس من السياسة شكوى بعض الى بعض، ويقول
العكبري عن البيت الاخر: المعنى: نقص الوفاء، فما تراه في عدة وعد ، يعني اذا
وعدك احد بشيء فما يصدق فيه، واذا حلف لم يصدق.
نحس ونحن نقرا بيتي شاعرنا المتنبي هذين وكانه يعيش بيننا في عصرنا الحاضر، فكم وكم
من انسان في عصرنا الحالي يبتسم لانسان اخر ابتسامات عريضة، وخلف هذه الابتسامات يخفي حقده
وغله ومكره عليه، وقد يحلف ويقسم باغلظ الالفاظ بان يفعل له كذا وكذا، ويعده بهذا
وذاك، وهو غير صادق او مخلص في قوله، وهذا ضرب من ضروب الرياء والمخادعة، والرياء
كما عرفه علم النفس الحديث حالة مرضية، حيث يقوم الانسان المرائي بافعال ظاهرة للعيان، ولكنها
تعاكس ما يبطنه، ولذلك قيل: الرياء يلبس الرذيلة ثوب الفضيلة، ولو عدنا مرة اخرى الى
بيتي شاعرنا السابقين نجده يقول: لا يغرك منهم من الناس ثغر فم مبتسم، وهنا فقد
لمح الشاعر انه ربما يكون خلف الابتسامة السم الزعاف,, اما الكذب كما يعرفه علم النفس
سلوك يقوم به الفرد متعمدا مع علمه بعدم صحة قوله,وقال الشاعر في قصيدة يذكر بها
حماه التي كانت تغشاه بمصر:
1- فلما صار ود الناس خبا
جزيت على ابتسام بابتسام
2- وصرت اشك فيمن اصطفيه
لعلمي انه بعض الانام
3- يحب العاقلون على التصافي
وحب الجاهلين على الوسام
يقول العكبري في شرح البيت الاول: الخب: المكر, والود: الحب والصداقة والمعنى: يقول: لما صار
ود الناس غير صادق، صرت كاحدهم ، افعل بهم كما يفعلون، فاذا ابتسموا الي، تبسمت
لهم، ويقول العكبري عن البيت الثاني: المعنى يقول: لم اكن على ثقة من مودة من
اوده، لعلمي انه من جملة الناس يريد: لعموم فساد الخلق كلهم، اذا اخترت احدا للمودة
لم اثق بمودته، ويقول العكبري عن البيت الثالث: الوسام والوسامة: الحسن, والمعنى: يقول: العاقل انما
يحب من يحبه على صفاء الود، فمن اصفى له الود احبه، والجاهل يحب على جمال
الصورة، وذلك حب الجهال، لانه ليس كل جميل المنظر يستحق المحبة، كخضراء الدمن: رائق اللون،
وبي المذاق.
نعتقد ان بعض الاشخاص في عصرنا الحاضر وخصوصا في عصرته تجاربه مع الناس يتبع في
علاقته مع بعض الافراد ما فعله شاعرنا مع الماكرين والمخادعين في عصره كما بين في
بيته الثاني فاذا تبسم او ضحك له شخص ماكر مخادع رد عليه ابتسامة بابتسامة، وضحكة
بضحكة، ولتفشي هذه الظاهرة في عصرنا يشك بعض الناس حتى بصدق اقرب الناس اليه، وقد
يقوم بعض ممن لم تحكه التجارب مع الناس باظهار المودة والصداقة لشخص معين لجمال صورته،
او لمكانته الاجتماعية او حتى لاسمه ومركزه,, اما العاقل المجرب فهو يحب ويصادق على صفاء
الود والصدق والمحبة ان وجدها في الطرف الاخر؟ , يقول السيوفي 1980م في تعليق له
على الابيات السابقة: بعد ان عرف المتنبي في حلب قوة الطموح، وروعة الحلم، ونشوة التحقيق
اذا به هنا في مصر وقدوهم ان الحال قد تتغير يصطدم بهذا الواقع المرير فالخداع
صار هو الغالب، والمظاهر الفارغة الخلب التي سلبت من الابصار دهشتها حتى احالتها جوفاء فارغة
متحجرة، قد صارت هي المقياس والافق,, لقد ذهب الود وصار ماضيا وحل مكانه الخب الدخيل,
واذا بسمة الطهارة تفقد عذريتها لتسجيل قناع من الرياء الكاذب, وحار الشاعر كيف يداوي ذلك,,
هو الذي ما اعتاد غير الصدق والصراحة والاخلاص، وما كان منه الا ان قابل ابتسامة
عصره بابتسامة الرثاء والحسرة والاشفاق فالياس,, لقد تاكد المتنبي مما يقوله بعد طول اختبار وتجربة,
وقال ابو الطيب في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
ما الخل الا من اود بقلبه
وارى بطرف لا يرى بسوائه
يقول العكبري في شرح هذا البيت: الخل: الصديق، وهو الخليل ايضا والمعنى: قال ابو الفتح:
يقول : ليس لك خليل الا نفسك, قال: ويجوز ان يكون المعنى: ما الخل الا
من لا فرق بيني وبينه فاذا وددت فكاني احب بقلبه، واذا نظرت فكاني انظر بطرفه.
والمعنى: خليلك من وافقك في كل شيء، فيود ما وددت ويرى ما ترى وقال ابن
القطاع: ما خليل الا الذي يبالغ في المودة، فكانه يود بقلبي.
لقد بين ابو الطيب في بيته هذا من من الناس الذي تنطبق عليه الشروط والمواصفات
بان يكون خلا وصديقا,, ونعتقد ان ما قاله شاعرنا يعد من ثالث المستحيلات الخل الوفي
بان تجد في عصرنا الراهن خلا وفيا صادقا ولا في عصر شاعرنا ولا في العصور
التي سبقته ولا بالعصور التي تلته، والادهى ان عصرنا عصر اختلطت فيه المفاهيم والقيم ولم
يعد يعرف فيه من هو الحابل ومن هو النابل؟
وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها عضد الدولة:
1- وفي الاحباب مختص بوجد
واخر يدعي معه اشتراكا
2- اذا اشتبهت دموع في خدود
تبين من بكى ممن تباكى
يقول العكبري عن البيت الاول: المعنى: يقول: وفي الاحبة من وجده صحيح لا دعوى، ومنهم
من يدعي المحبة وليس هو من اهلها وليس لدعواه حقيقة او المعنى: انه صحيح الود
ليس كمن يدعي الوداد من غير حقيقة، او لست ممن يدعي محبتك الممدوح ويظهر غير
ذلك، لان ما اشتهر فيك من صحيح المدح يدل على اني صحيح الود، غير مداج
في موالاتك.
لقد بين شاعرنا المتنبي في بيتيه هذين ان بعض الصداقات واظهار الود والمحبة هي في
حقيقتها صادقة، ولكن قد ينخدع المرء بالظاهر فعليه ان يتحرى ويتبين من بكى صادقا ومن
تباكى، ومن يظهر المحبة ويدعيها صدقا ومن يدعيها كذبا,, وهذا التبين نعتقد انه مستحيل في
عصرنا لانه على الاقل اعجز الناس في العصور التي قبلنا.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها بدر بن عمار:
1- اذا صديق نكرت جانبه
لم تعيني في فراقه الحيل
2- في سعة الخافقين مضطرب
وفي بلاد من اختها بدل
يقول العكبري عن البيت الاول: نكرت وانكرت: لغتان وعييت بامري: اذا لم اهتد اليه واعياني
هو, المعنى: يقول: اذا تغير علي صديق وحال عن ودي وانكرت احواله لم تعجزني الحيلة
في فراقه بل افارقه ولم اقم عليه ويقول العكبري عن البيت الاخر الخافقين: الشرق والغرب
لان الريح تخفق فيهما والمضطرب موضع الاضطراب وهو الذهاب والمجيء, والمعنى: يقول : البلاد كثيرة،
والارض واسعة فاذا لم يطب موضع كان لي غيره بدلا.
لقد وضح ابو الطيب في بيتيه السابقين الحل عندما يكتشف المرء تبدل وتغير احوال من
يحبه ويوده ويصادقه فما عليه الا ان يتجنبه ويرحل عنه,, وهذا ما فعله الشاعر في
عصره حيث امتطى ظهر جواده وفر,, اما في عصرنا فماذا نركب؟ وكيف نرحل، والناس هم
الناس في كل مكان,, فما علينا الا المخاتلة والمخادعة.
وقال ابو الطيب المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
1- رضاك رضاي الذي اوثر
وسرك سري فما اظهر
2- كفتك المروءة ما تتقي
وامنك الود ما تحذر
3- وسركم في الحشا ميت
اذا انشر لا ينشر
يقول العكبري في شرح البيت الاول: سرنا واحد، فما اظهر منه واذا رضيت امرا فهو
رضاي، وكذا اذا شخطته سخطته ويقول العكبري عن البيت الثاني: المعنى: يريد اني ذو مروءة
ومحبة خالصة فلا افشي سرك ويقول العكبري عن البيت الثالث نشر الله الموتى وانشرهم فنشروهم،
وكله في الاحياء, والمعنى: يقول: السر لشدة اخفائه في قلبي هو ميت اماتة لا يحيا
بعدها.
لقد حدد ابو الطيب في ابياته هذه ما يجب ان تكون عليه الصداقة والمحبة بين
شخصين من حفظ للمودة وللسر ولكن وبالرغم من قوله هذا فقد انصرفت عرى الصداقة والمحبة
والود وكتمان الاسرار بينه وبين صاحبه سيف الدولة، وهذا لم يترك لنا مجالا الا القول
عما يسمى بالصداقة والود والمحبة في عصرنا الحاضر ماهي الا كلمات جوفاء ليس لها معنى
وهي ضروب من الرياء وخاتمة قولنا في هذا الصدد هو قول شاعرنا حيث يقول في
قصيدة يمدح بها المغيث بن علي العجلي:
خليلك انت لا من قلت خلي
وان كثر التجمل والكلام
يقول العكبري عن هذا البيت: الخليل: الصديق, والانثى خليلة, والخليل ايضا : الفقير المختل الحال,
والمعنى: يقول: ليس لاحد صديق الا نفسه في الحقيقة، وليس من تقول هو: خليلي خليلا
لك وان كثر تملقه ولان لك قوله .