حكم اداء الصلاة جماعة في المسجد وفي غير المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على اشرف خلق الله اجمعين، محمد وعلى اله وصحبه
اجمعين، اما بعد:
فان الاسلام قد امر باداء الصلوات الخمس جماعة في المسجد، ورغب في ذلك، وقد دل
على هذا المقصد قوله تعالى: ﴿في بيوت اذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح
له فيها بالغدو والاصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام
الصلاة وايتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار﴾ [النور: 36، 37]. وكذلك فعل النبي
-صلى الله عليه وسلم- في صلاته باصحابه جماعة في المسجد.
ومما لا شك فيه، ان الاصل هو اداء هذه الصلوات جماعة في المسجد، حيث ان
النبي عليه الصلاة والسلام، لم يرخص للاعمى ان يصلي في بيته، طالما انه يسمع النداء،
كما سياتي بيان ذلك في البحث، وان فعل الصلاة فيما كثر فيه المصلون من المساجد
افضل؛ لقول النبي-صلى الله عليه وسلم- «… وان صلاة الرجل مع الرجل، ازكى من صلاته
وحده، وصلاته مع الرجلين، ازكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو احب الى الله
-عز وجل-»(1)، لكن ما هو حكم الصلاة جماعة في البيوت مثلا، او في الصحراء؟
هذا البحث المتواضع، والذي هو بعنوان: (حكم اداء الصلاة جماعة في المسجد، وفي غير المسجد)
ساذكر فيه: تمهيدا عن فضل الصلاة جماعة في المسجد، ثم بيان هذه المسائل، وهي:
1. حكم اداء الصلاة جماعة في المسجد.
2. حكم اداء الصلاة جماعة في غير المسجد، كالبيوت والصحراء مثلا.
3. بيان الحكمة من مشروعية الصلاة جماعة.
تمهيد: فضل الصلاة جماعة في المسجد:
مما يدل على فضل الصلاة جماعة في المسجد، ورود الاحاديث التي فيها بيان الاجر والثواب،
لمن حافظ على اداء الصلاة جماعة في المسجد، ومن هذه الاحاديث ما يلي:
ا- رفع الدرجات بسبب الخطى الى المساجد، عن ابي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في جماعة، تزيد على صلاته في بيته
وصلاته في سوقه خمسا وعشرين درجة، وذلك ان احدهم اذا توضا، فاحسن الوضوء، ثم اتى
المسجد، لا ينهزه(2) الا الصلاة لا يريد الا الصلاة، فلم يخط خطوة، الا رفع له
بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، حتى يدخل المسجد، فاذا دخل المسجد كان في صلاة
ما كانت الصلاة هي تحبسه، والملائكة يصلون على احدكم مادام في مجلسه الذي صلى فيه،
يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه، ما لم يحدث»(3)، وعن جابر بن
عبد الله-رضي الله عنه- قال: خلت البقاع حول المسجد، فاراد بنو سلمة ان ينتقلوا الى
قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لهم: «انه بلغني انكم
تريدون ان تنتقلوا قرب المسجد، قالوا: نعم يا رسول الله، قد اردنا ذلك، فقال: يا
بني سلمة، دياركم تكتب اثاركم، دياركم تكتب اثاركم»(4)، والمعنى: الزموا دياركم، فانكم اذا لزمتموها كتبت
اثاركم وخطاكم الكثيرة الى المسجد(5)، وعن ابي موسى -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى
الله عليه وسلم-: «اعظم الناس اجرا في الصلاة، ابعدهم فابعدهم ممشى، والذي ينتظر الصلاة حتى
يصليها مع الامام، اعظم اجرا من الذي يصلي ثم ينام»(6)، وعن ابي بن كعب -رضي
الله عنه- قال: كان رجل من الانصار، بيته اقصى بيت في المدينة، فكان لا تخطئه
الصلاة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فتوجعنا له، فقلت له: يا فلان
لو انك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الارض، قال: اما والله ما
احب ان بيتي مطنب(7) ببيت محمد – صلى الله عليه وسلم- قال: فحملت به حملا،
حتى اتيت نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فاخبرته، قال: فدعاه، فقال له مثل ذلك،
وذكر له انه يرجو في اثره الاجر، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ان
لك ما احتسبت»(8).
ب- زيادة الاجر بسبب كثرة عدد المصلين في المسجد، عن ابي بن كعب-رضي الله عنه-
قال: «صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوما الصبح، فقال: اشاهد فلان؟ قالوا:
لا. قال: اشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: ان هاتين الصلاتين اثقل الصلوات على المنافقين، ولو
تعلمون ما فيهما لاتيتموهما ولو حبوا على الركب، وان الصف الاول على مثل صف الملائكة،
ولو علمتم ما فضيلته، لابتدرتموه، وان صلاة الرجل مع الرجل، ازكى من صلاته وحده، وصلاته
مع الرجلين، ازكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو احب الى الله عز وجل»(9).
ج- النور التام يوم القيامة، عن بريدة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال: «بشر المشائين في الظلم الى المساجد، بالنور التام يوم القيامة»(10).
د- كتابة الملائكة لمن يدخل المسجد يوم الجمعة، قبل خروج الامام، عن ابي هريرة -رضي
الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اذا كان يوم الجمعة، وقفت الملائكة
على باب المسجد، يكتبون الاول فالاول، ومثل المهجر(11) كمثل الذي يهدي بدنة، ثم كالذي يهدي
بقرة، ثم كبشا ثم دجاجة، ثم بيضة، فاذا خرج الامام طووا صحفهم ويستمعون الذكر»(12).
وبعد ذكر بعض الروايات، التي تدل على فضل الصلاة جماعة في المسجد، اذكر الان المسائل
الثلاث في هذا البحث، وبيان اقوال الفقهاء في كل مسالة على حدة، وهي كالتالي:
1. حكم اداء الصلاة جماعة في المسجد:
اختلف العلماء في حكم اداء الصلوات الخمس جماعة في المسجد، على ثلاثة اقوال:
القول الاول: سنة مؤكدة، وبه قال المالكية، والشافعية، وبعض الحنفية(13).
القول الثاني: واجبة على الكفاية، وهذا هو القول الثاني للشافعية، قال النووي: “صلاة الجماعة هي
في الفرائض غير الجمعة سنة مؤكدة، وقيل: فرض كفاية للرجال، فتجب بحيث يظهر الشعار في
القرية، فان امتنعوا كلهم قوتلوا”(14).
القول الثالث: واجبة على الاعيان، وبه قال عامة الحنفية، والحنابلة، والظاهرية، الا ان الحنابلة لم
يشترطوا الجماعة لصحة الصلاة، واستثنوا من الوجوب العيني من كان تخلفه لعذر شرعي، وهذا هو
المنصوص عن احمد(15). قال البهوتي: “ليست الجماعة شرطا لصحة الصلاة، فتصح صلاة المنفرد بلا عذر،
وفي صلاته فضل، وصلاة الجماعة افضل بسبع وعشرين درجة، لحديث ابن عمر المتفق عليه”(16).
واما الظاهرية، فاشترطوا الجماعة لصحة الصلاة، بمعنى ان من لم يحضر الجماعة لا تصح صلاته
الا لعذر، قال ابن حزم: “ولا تجزئ صلاة فرض احدا من الرجال، اذا كان بحيث
يسمع الاذان ان يصليها الا في المسجد مع الامام، فان تعمد ترك ذلك بغير عذر،
بطلت صلاته، فان كان بحيث لا يسمع الاذان، ففرض عليه ان يصلى في جماعة مع
واحد اليه فصاعدا ولابد، فان لم يفعل فلا صلاة له، الا ان لا يجد احدا
يصليها معه، فيجزئه حينئذ، الا من له عذر فيجزئه حينئذ التخلف عن الجماعة”(17).
حجة من قال بان صلاة الجماعة في الصلوات الخمس سنة مؤكدة:
احتج القائلون بان صلاة الجماعة في الصلوات الخمس سنة مؤكدة، بما يلي:
ا- عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- ان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة»(18)، وعن ابي هريرة -رضي الله
عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «صلاة الجماعة تعدل خمسا وعشرين من
صلاة الفذ»(19)،(20)، ولو كانت صلاة الجماعة واجبة لم تصح صلاة المنفرد، ولم يكن هناك تفضيل
لصلاة الجماعة على صلاة الرجل وحده، قال الشافعي: “ولا احب لاحد ترك الجماعة، ولو صلاها
بنسائه او رقيقه او امه او بعض ولده في بيته، وانما منعني ان اقول صلاة
الرجل لا تجوز وحده، وهو يقدر على جماعة بحال، تفضيل النبي -صلى الله عليه وسلم-
صلاة الجماعة على صلاة المنفرد، ولم يقل لا تجزئ المنفرد صلاته”(21). واما ما ورد في
الحديث، من العدد: خمس وعشرين، وسبع وعشرين، فقد جمع بينهما ابن تيمية، فقال: “حديث الخمس
والعشرين ذكر فيه الفضل الذي بين صلاة المنفرد والصلاة في الجماعة، والفضل خمس وعشرون، وحديث
السبعة والعشرين ذكر فيه صلاته منفردا وصلاته في الجماعة والفضل بينهما، فصار المجموع سبعا وعشرين”(22).
ب- واجابوا عن الحديث الصحيح، والذي فيه ان النبي صلى الله عليه وسلم هم باحراق
بيوت المتخلفين عن الجماعة، بان ذلك انما هو لاجل ترك الجمعة، ولاجل النفاق(23)، قال الشافعي:
“فيشبه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من همه ان يحرق على قوم
بيوتهم، ان يكون قاله في قوم تخلفوا عن صلاة العشاء؛ لنفاق”(24).
حجة من قال بان صلاة الجماعة في الصلوات الخمس واجبة -عينا او كفاية-.
احتج القائلون بان صلاة الجماعة في الصلوات الخمس واجبة على العين، او الكفاية، بما يلي:
ا- قال الله تعالى: ﴿واذا كنت فيهم فاقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك ولياخذوا
اسلحتهم فاذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتات طائفة اخرى لم يصلوا فليصلوا معك ولياخذوا حذرهم
واسلحتهم﴾ [النساء: 102]، فامر سبحانه باداء فريضة الصلاة جماعة في احرج الاوقات، فاذا كان الله
– تعالى- يامر بالقيام الى صلاة الخوف جماعة مع ما يكون فيه المقاتلون من خوف
المباغتة، والاستعداد لعدوهم، فان ذلك يدل على وجوب الجماعة حال الخوف وهو يدل بطريق الاولى
على وجوبها حال الامن، وانما جوز العلماء ان تؤدى صلاة الخوف فرادى، عند الخوف الشديد،
واشتداد القتال.
ب- وعن ابي هريرة-رضي الله عنه- ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي
نفسي بيده، لقد هممت ان امر بحطب، فيحطب، ثم امر بالصلاة، فيؤذن لها، ثم امر
رجلا فيؤم الناس، ثم اخالف الى رجال، فاحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم
احدهم انه يجد عرقا(25) سمينا او مرماتين(26) حسنتين، لشهد(27) العشاء»(28)، فقد هم عليه الصلاة والسلام،
بتحريق من لم يشهد الصلاة، لكن حال دون التنفيذ وجود النساء والذرية في البيوت، ممن
لا يجب عليهم حضور الجماعة بالمسجد، وفى تحريق البيوت قتل من لا يجوز قتله، ويؤيد
هذا ما جاء في المسند وغيره، عن ابي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-: «لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لاقمت صلاة العشاء،
وامرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار»(29).
ج- وعن ابي هريرة -رضي الله عنه- قال: اتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل
اعمى فقال: يا رسول الله: «انه ليس لي قائد يقودني الى المسجد، فسال رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ان يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه،
فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فاجب»(30)، فاذا كان رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- لم يرخص لهذا الرجل الاعمى، ان يصلي في بيته، وهو يسمع النداء، فان
ذلك يدل على وجوب ادائها جماعة في المسجد.
د- وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: “من سره ان يلقى الله
غدا مسلما، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فان الله شرع لنبيكم – صلى
الله عليه وسلم- سنن الهدى، وانهن من سنن الهدى، ولو انكم صليتم في بيوتكم كما
يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من
رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد الى مسجد من هذه المساجد الا كتب الله له
بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رايتنا وما يتخلف
عنها الا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام
في الصف”(31).
و- اجاب اهل الظاهر، عن الحديث الذي فيه فضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد، بان
صلاة الجماعة في حق من فرضه صلاة الجماعة، تفضل صلاة المنفرد الذي سقط عنه وجوب
صلاة الجماعة للعذر، وليس مطلقا لكل من صلى منفردا.(32)
القول الراجح في حكم صلاة الجماعة:
الذي يظهر -والله اعلم- هو قول الجمهور، وهو ان صلاة الجماعة سنة مؤكدة، لان الادلة
التي ذكرها اصحاب الاقوال متعارضة، لكن هنالك طريقة اصولية يجمع بها بين هذه الادلة، وهي
ان احاديث افضلية الجماعة مشعرة بان صلاة المنفرد مجزئة، ومن هذه الاحاديث:
ا- حديث: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة»(33).
ب- حديث: «والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الامام، اعظم اجرا من الذي يصلي ثم
ينام»(34).
ج- حديث ابي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: ان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«ابصر رجلا يصلي وحده، فقال: الا رجل يتصدق على هذا، فيصلي معه»(35).
د- احاديث التعليم لاركان الاسلام، فانه لم يامر من علمه بان لا يصلي الا في
جماعة، وقال لمن قال له: لا يزيد على ذلك ولا ينقص، افلح -وابيه- ان صدق(36).
فيجمع بين الاحاديث الدالة على وجوب الجماعة، والاحاديث الدالة على صحة صلاة المنفرد مع الفضل
بينهما على نفي الكمال لمن صلى منفردا، لا على نفي الصحة.
2. حكم الصلاة جماعة في غير المسجد:
الاصل ان الصلاة بجماعة تقام في المساجد العامة، وفعل الصلاة فيما كثر المصلون من المساجد
افضل؛ لقول النبي-صلى الله عليه وسلم- «… وان صلاة الرجل مع الرجل، ازكى من صلاته
وحده، وصلاته مع الرجلين، ازكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو احب الى الله
-عز وجل-»(37).
ومما يستحب لاهل الثغر-وهو موضع المخافة من البلدان- الاجتماع في مسجد واحد؛ لانه اعلى للكلمة،
واوقع للهيبة، فاذا جاءهم خبر عن عدوهم، سمعه جميعهم، وتشاوروا في امرهم، وان جاء عين
للكفار، راى كثرتهم، فاخبر بها، قال الاوزاعي: “لو كان الامر الي لسمرت ابواب المساجد التي
للثغور؛ ليجتمع الناس في مسجد واحد”(38).
ولبيان حكم صلاة الجماعة بالبيوت والصحراء، فقد صرح الشافعية بالجواز(39)، واجازها الظاهرية(40) بشروط سياتي بيانها.
ومما يدل على جواز الجماعة في غير المسجد، وان كان المسجد افضل، حديث جابر ابن
عبد الله -رضي الله عنه-: ان النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اعطيت خمسا لم
يعطهن احد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا، فايما رجل من
امتي ادركته الصلاة فليصل، واحلت لي المغانم ولم تحل لاحد قبلي، واعطيت الشفاعة، وكان النبي
يبعث الى قومه خاصة وبعثت الى الناس عامة»(41). وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فضلت هذه الامة على الناس بثلاث: جعلت لنا الارض
مسجدا وطهورا، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، واعطيت هذه الايات من اخر سورة البقرة من بيت
كنز تحت العرش، لم يعط منه احد قبلي ولا احد بعدي»(42)، وفي حديث انس بن
مالك -رضي الله عنه-: وفيه:«…وصففت انا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى لنا رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ركعتين، ثم انصرف»(43).
قال الشربيني: “والجماعة في المسجد لغير المراة، افضل منها في غير المسجد كالبيت، وجماعة المراة
في البيت، افضل منها في المسجد، لخبر الصحيحين: «… فصلوا ايها الناس في بيوتكم، فان
افضل الصلاة صلاة المرء في بيته، الا المكتوبة»(44).
والمعنى، ان اداءها في المسجد افضل؛ لان المسجد مشتمل على الشرف والطهارة، واظهار الشعائر، وكثرة
الجماعة”(45).
والظاهرية انما يجيزون الصلاة بجماعة خارج المسجد في مكان لا يسمع فيه اذان. قال ابن
حزم: “ولا تجزئ صلاة فرض احدا من الرجال، اذا كان بحيث يسمع الاذان، ان يصليها
الا في المسجد مع الامام، فان تعمد ترك ذلك بغير عذر بطلت صلاته. فان كان
بحيث لا يسمع الاذان ففرض عليه ان يصلي في جماعة مع واحد اليه فصاعدا ولا
بد، فان لم يفعل فلا صلاة له، الا ان لا يجد احدا يصليها معه، فيجزئه
حينئذ الا من له عذر”(46).
وعلى هذا فمن صلى جماعة باهل بيته، او بضيوفه، فان صلاته تعتبر مؤداة بجماعة، ويدرك
فضيلة الجماعة. قال ابن قدامة: “ولو ام الرجل عبده او زوجته، ادرك فضيلة الجماعة”(47)، واقل
الجماعة اثنان، وقد بوب البخاري لحديث: «اذا حضرت الصلاة فاذنا واقيما، ثم ليؤمكما اكبركما»(48) بقوله:
باب اثنان فما فوقهما جماعة.
3. بيان الحكمة من مشروعية الصلاة جماعة:
ان المقصود من الامر بادائها جماعة في المسجد، الاقامة لهذه الشعيرة في بيوت الله، والتنزه
عن صفات المنافقين في التخلف عنها، ورجاء المثوبة والاجر، وطلب المغفرة من الذنوب، ورفع الدرجات
بالمشي الى بيت الله تعالى من الخطوات، والتعرض لدعوات الملائكة له بالرحمة والمغفرة مادام في
مصلاه، لا يمنعه من انصرافه منها الا انتظاره للصلاة، والذي يتخلف عن شهود الجماعة في
بيت الله من غير عذر شرعي فان هذا يدل على ضعف امتثاله اوامر الشريعة، وبعده
عما يضاعف له به الحسنات، ويرفعه به الى اعلى الدرجات، ويغفر له به السيئات، وخالف
الاوامر الدالة على شهود ادائها في المساجد، واستحق الوعيد الذي توعد به المتخلفون عن شهود
الجماعة في المساجد.
قال ابن نجيم الحنفي، وهو يتكلم عن الحكمة من مشروعية صلاة الجماعة في المساجد: “احدها:
قيام نظام الالفة بين المصلين، ولهذه الحكمة شرعت المساجد في المحال، لتحصيل التعاهد باللقاء في
اوقات الصلوات بين الجيران، ثانيها: دفع حصر النفس ان تشتغل بهذه العبادة وحدها، ثالثها: تعلم
الجاهل من العالم افعال الصلاة”(49).
والله تعالى اعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى اله وصحبه وسلم.