تحفل رواية “غريبة الحسين”[1] لاحمد التوفيق بسمات روائية عديدة. و لعل اول سمة اثارتني فيها
تتمثل في كلمة “غريبة” الواردة في العنوان و التي لها صلة “بالغربة” كما هو واضح
؛ حيث ان قراءة الرواية يمكن ان تحيلنا الى استثمار الغربة بايحاءاتها المتعددة في بناء
عدد من صورها وتشكيلاتها. وتبعا لذلك سيحاول مقالي الاجابة عن عدد من الاسئلة التي دارت
في ذهني منذ اول قرائتي للعنوان:
ما هي تجليات سمة الغربة في الرواية؟ هل هي غربة الانسان مع نفسه و من
ثم مع مجتمعه على اعتبار ان عنوان الرواية يشير الى اسم شخصية الحسين؟ ام ان
الامر يتعلق بتصوير غربة الموسيقى في حد ذاتها، علما ان عنوان الرواية ماخوذ من احدى
نوبات الموسيقى الاندلسية الاحدى عشرة؟
تحكي الرواية قصة “كلود” الفتاة الفرنسية المثقفة، الرقيقة المشاعر، الفاتنة الجمال، التي تحب كل ما
هو شرقي وعربي. تسافر كلود مع والدها الى المغرب من اجل ان ينجز بحثا حول
الموسيقى الاندلسية ويدونها. وفي هذا البلد تتعرف الى شخصيات عربية وفرنسية، و تزور مدنا متعددة
فيثيرها سر تسمية نوبة غريبة الحسين [2] وضياع كثير من النوبات الاندلسية الاخرى. كما تعيش
كلود مواقف سياسية ونفسية وغرامية وثقافية الى ان ينتهي بها الامر الى ان تحب المغربي
“علال” والزواج منه في ظروف متوترة. لكن الامور ستنحل في نهاية المطاف وستعود كلود سالمة
صحبة زوجها الى فرنسا.
وفي ظل ايام وجود كلود في المغرب و مرورها بمجموعة من الاحداث يستشعر القارئ امتداد
خيوط سمة الغربة لتلف مجموعة من شخصيات الرواية: فكلود نفسها توجد في مجتمع غريب عن
مجتمعها و هي تحاول ان تكتشف كل دقائقه و تفاصيله الانسانية. و”روز ” احدى زوجات
“الحاج ادريس” عم عمر ، شخصية انكليزية اختارت الزواج و العيش بعيدا عن وطنها على
الرغم من الاختلافات الموجودة بين ثقافتها وثقافة المجتمع الغربي. و”ام علال” الزمورية تركت بيئتها وقبائلها
الرحل لتستقر وتعيش بعيدا عن تقاليدهم و اعرافهم. بل ان المستعمر نفسه يعيش تلك الغربة،
فهو موجود في ارض غير ارضه، وفي احضان ثقافة غير تلك التي تربى عليها .
ان مفهوم الغربة بمعانى البعد ، و الغياب، و الخفاء، وايضا الغموض يشكل جزءا من
اساليب بناء صور “غريبة الحسين” . ولقد اشار الكاتب الى هذا المصطلح صراحة في احدى
الصور – اضافة الى اثارته في عنوان الرواية – حيث كلود تناجي نفسها و هي
جالسة بين مجموعة من النساء المغربيات: ” كنت ساصدمها لو قلت انني غريبة، انني نصرانية،
انني اسكن الفندق، انني اريد ان اختار من اتزوجه، انني متحيرة في امر شاب لا
يظهر انه يستطيع ان يقرر شيئا من مصيره “[3] . فللغربة في هذه الصورة بعد
اجتماعي، وديني، و غموض غرامي، ومصيري ايضا. و الكاتب يلح على تاكيد جل هذه الابعاد
من خلال تكرار كلمة “انني” واستعمالها في جمل قصيرة ومتواترة خمس مرات، و في كل
مرة نتبين الغربة بامتداداتها المعنوية تغلف نفسية كلود التي وصفها الكاتب برقة مشاعرها، وشعورها الانساني
الرهيف جدا الذي قد لا يتفق مع كثير من انماط السلوك المتداول بين الفرنسيين المقيمين
بالمغرب. و في هذه الحالة يجسد الكاتب غربة نفسية كلود حتى بين بعض الشخصيات التي
تنتمي الى نفس الوسط الاجتماعي والفكري الذي تربت وعاشت فيه. ويترجم الراوي مظاهر غربة هذه
الفئة المستعمرة عن طريق الصورة الاتية :
«من يستطيع ان يقول لي ماذا تقول هذه المغنية؟فبعد اقامة بالمغرب لمدة خمسة عشر عاما
لا اتكلم العربية الا لانهر بعض الموظفين او المتسولين . لقد غشنا المغاربة لانهم يتكلمون
معنا لغتنا و ظلوا في حصنهم اللغوي. و قد حسبنا اننا حطمنا جميع حصونهم »[4]
كذلك تعكس الصورة احد معاني الغربة، غربة الكلام و اللغة، اي غموضهما و خفاءهما. والمستعمر
في هذه الصورة لا يعيش غربة البعد والنزوح عن الوطن وحدها وانما غربة وسائل التواصل
الانساني ايضا. ان اللغة التي يستعملها ويفهمها لغة نهر واوامر، اما لغة التواصل الطبيعية بينه
وبين الشعب المستعمر فلم يصل الى تعرفها وتعلمها. واذا عدنا الى تامل بناء هذه الصورة
لاحظنا ان “السؤال” يشكل لونا بلاغيا خاصا في طريقة صياغته و هو ما نلمسه في
كثير من صور هذه الرواية. ان استعمال هذا الاسلوب الانشائي انما يشكل استفهاما وبحثا عن
تفسير وفهم عديد من مظاهر الغربة و عدم التوافق مع المحيط الثقافي و الاجتماعي و
النفسي الذي تعيشه نماذج من شخصيات الرواية. يتضح ذلك جليا في هذه الصورة من خلال
سؤال جوزيف مالان احد الفرنسيين المقيمين بالمغرب عن معنى ما تقوله المغنية؛ فلغة الغناء بما
فيها من صور انسانية واخيلة لم يستطع [وصف مالان] ادارك معناها. ومن خلال ذلك يتبدى
للقارئ مفهوم الغربة من احدى وجهاته التي تعني البعد و الغموض. انه بعد وغموض فكري
وحضاري لا يتجسد بمظهره الايجابي وانما بمفهومه السلبي الذي يوحي بانكسار العلاقات الانسانية وانقطاعها.
وعلى الرغم من تميز كثير من شخصيات الرواية بسمة الغربة، الا ان الصور التي اثارتني
في “غريبة الحسين” تلك التي تشكل و ترسم “غربة الموسيقى” في حد ذاتها. فالرواية تحفل
بكثير من الصور التي تجسد غربة الموسيقى في عالميها القديم و الحاضر معا، مع ابتعادها
عن ثقافة مجتمعها الموجودة فيه، ثم غربتها بين ابناء بيئتها الذين يجهلون اصولها و علماءها.
ولا ادل على ذلك من هذه الصورة المنبثة في ثاني فصول الرواية:
«…و ظهر من كلام بعضهم انهم من علماء الموسيقى، و قد ارادوا ان يتملقوا عمر
فذكروا اعلاما من المسلمين كان لهم السبق في تدوين الالحان، و خجل عمر مرة اخرى
لجهله بحضارة بلده و لعن في نفسه جميع العلوم و التخصصات التي لا تبدا بمعرفة
الذات الوطنية »[5].
في ظل اسلوب تقريري يشكل الراوي بوضوح مظهر غربة الموسيقى بين ابناء بيئتها. ففي احدى
جلسات “عمر” مع مجموعة من الفرنسيين تبين له “جهله” باحد مظاهر حضارته الفنية، في حين
كان الغرباء اعلم منه بهذا المظهر الثقافي الذي يعكس جانبا من وطنية الانسان وهويته. لكن
غربة الموسيقى لا تتمثل في “جهلها ” من قبل ابناء بيئتها، وانما تتميز كذلك ب”ضياعها”
منهم و “تحويرها” و ابعادها من ثم عن اصلها الاول:
« هذه الموسيقى الاصيلة التي اخترقت القرون و حملت صدى الاجواء التي ولدت و ترعرعت
فيها تمثل لونا من الوان الزخم الحضاري لثقافة هذا البلد، فقد توارثها المعلمون بالتلقين المباشر
و السماع و ربما زاد فيها من زاد او ضاع منها ما ضاع، و لا
نعرف منها الا ما وصلنا، و هذا الذي وصل الينا ارث للانسانية لا بد ان
نحوله الى كتابة موسيقية يستطيع الناس ان يقراوها في كل مكان »[6]
نلمس في هذه الصورة غربة الموسيقى خاصة تلك المسماة بموسيقى الالة او الموسيقى الاندلسية ،
وبعدها عن اصلها الحقيقي: “ربما زاد فيها من زاد او ضاع منها ما ضاع، ولا
نعرف منها الا ما وصلنا” خاصة وان هذا النوع الموسيقى مر بفترات تاريخية صعبة؛ و
تعكس صياغة هذه الصورة في اطار اسلوب تقريري و مباشر الارتباط الحقيقي لهذا الاشكال بواقعنا
الموسيقي والتاريخي، وهي مباشرة اسلوبية نلمسها في عديد من صور الرواية التي تدعونا الى عقد
مقارنات بين التصوير الروائي الذي يستلزم الخيال في كثير من تجلياته و بين حقيقة تلك
الصور في الواقع. وتبعا لذلك تحيلنا تقريرية الصورة اعلاه الى ضرورة العودة الى التاريخ و
التعرف الى ما مرت به الموسيقى من مراحل ادت الى ضياعها؛ فقد تعرضت الموسيقى في
اوائل العصر الموحدي الى كثير من المضايقات، اذ ارتبط موقف ذلك العصر بمقاومة مختلف مظاهر
الترف و منها الموسيقى. كما ان تراجع الحياة السياسية و الثقافية و الاجتماعية في اواخر
العصر المريني ادى الى «تقهقر الحياة الثقافية ، و كانت موسيقى الالة في مقدمة الفنون
التي تضررت من جراء ذلك ، فقد ضاع منها الكثير حسب ما يفهم من كلام
ابن خلدون عندما قال ، متحدثا عن احوالها ببلاد المغرب ، في زمانه، اواخر القرن
الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي):” و بها منها الان صبابة على تراجع عمرانها”»[7]. لكل ذلك
لا نستطيع ان نقول جازمين ان موسيقى الالة التي وصلت الينا اليوم انها هي التي
سادت حقيقة وغنيت واطربت الاندلسين. فالمسافة الزمنية بيننا وبين عصرها طويلة ، و طريقة تلقينها
تمت عن طريق التواتر الشفاهي كما هو معروف، الامر الذي ادى الى الزيادة فيها ،
و النقصان في بعضها، وضياع بعضها الاخر، وعدم معرفتنا بانغامها الا ما وصل الينا اليوم
سماعا.
لكل ذلك ارى ان رواية “غريبة الحسين” تعكس غربة موسيقى الالة في زمننا، و ضياع
كثير منها هو احد مظاهر غربتها. ولذلك كان حل هذا الاشكال بالنسبة الى فيرني –
وهو والد كلود الذي حمل على عاتقه امر تدوين الموسيقى الاندلسية – يكمن في كتابة
ما تبقى من هذه الموسيقى حتى ” يستطيع الناس ان يقراوها في كل مكان”. والحقيقة
اننا اذا عدنا الى الواقع المعاصر نرى انه قد تمت فعلا عديد من محاولات تدوين
بعض هذه النوبات ، من ذلك نوبة الاصبهان التي كتبها اركاديو دي لاريا بالاتين Arcadio
de Larrea Palacín [8]، ونوبة غريبة الحسين التي دونت من قبل محمد ابرويل[9] ، ثم
نوبات العشاق و رمل الماية ورصد الذيل التي عمل على تدوينها يونس الشامي[10]. وقبل ذلك
كانت محاولات من قبل كثير من الاجانب امثال الكسيس شوطان Alexis Chottin الذي دون ميزان
البسيط من نوبة العشاق، و بوستيلو الذي « جمع كثيرا من الطبوع والانغام التي كانت
متفرقة و سجل بعضا منها بالنوطة»[11] .
وعلى الرغم من الجهود الشاقة لعمليات الاستماع والتدوين الموسيقى لهذه النوبات الا انها مازالت تثير
اشكالات موسيقية حقيقية ؛ فنوبة رصد الذيل على سبيل المثال ذكر مدونها ان القارئ سيلاحظ”
اننا تجنبنا اثقال الرموز الموسيقية بعلامات الزخرفة او التحلية التي يزخر بها العزف العربي، وذلك
لعدم اتفاق العازفين على انواعها و مواقعها ، بل و عدم استخدامها مرتين بصورة متطابقة
من لدن نفس العازف. ولذلك تركنا حرية استعمالها للعازف حسب ما يمليه عليه ذوقه و
تتيحه براعته الفنية” [12]
انه اشكال وحيد ضمن مجموعة من الاشكالات الفنية العديدة التي تعرفها الموسيقى الاندلسية او موسيقى
الالة، مما يجعل هذا النوع الموسيقي يعيش “غربة” حقيقية عن اصله الاول.
و لعل تكرار سؤال : ما معنى غريبة الحسين؟ في صفحات متعددة من الرواية، ان
يعد مظهرا بلاغيا اخر يعكس “غربة” هذا النوع الموسيقي. فالسؤال يتكرر في صور متعددة من
الرواية، وفي كل مرة يكون الجواب عنه مستحضرا احد معاني الغربة مع “المقابلة” بين ما
يشكل عناصر غربة الموسيقى وغربة شخصية “كلود” نفسها:
« سالت المعلم عن معنى “غريبة الحسين”، فقال انه غير متاكد من اصل التسمية، و
لكنه يظن ان معلما اسمه الحسين قد وضع هذه النوبة و لم يضع نوبة غيرها،
فهي غريبته كاليتيمة»[13]
ان عبارات من قبيل : “المعلم غير متاكد” ، “لكنه يظن” ، تعكس عدم وقوف
شيوخ الموسيقى الاندلسية انفسهم على سر تسمية هذه النوبة. كما ان تشبيه ابداع معلم الموسيقى
لنوبة وحيدة ب “اليتيمة” انما يمثل مرة اخرى غربتها ووحدتها. لكن هذه المعاني لا تنطبق
فقط على نوبة “غريبة الحسين” في الرواية و انما على شخصية كلود نفسها. فكلود غير
متاكدة من كثير من الاشياء التي تعيشها و منها حبها لعمر، وتوجهات شبكة سرية تدعى
بالنادي، ومستقبلها الذي تجهل مصيره.
وعلى غرار نفس هذه الصيغ التصويرية التي تستدعي “السؤال” ثم الجواب الذي يمكن مقارنته بشخصية
كلود نقرا الصورة الاتية:
« ما معنى”غريبة الحسين”
قال المايسترو:
هي نوبة متاخرة من حيث زمن ظهورها. وضعها رجل اسمه الحسين، متميزة بما صب فيها
من الحنان، متميزة، غريبة بين غيرها من النوبات»[14]
ان اهم ما يميز الجواب عن معنى نوبة “غريبة الحسين” في الصورة وصفها بالحنان الذي
جعلها متفردة الى درجة غربتها بين غيرها من النوبات. ولعل هذا الحنان الموسيقي الغريب هو
ما يميز مشاعر كلود؛ فعواطفها الرهيفة تجعلها طوال الرواية مختلفة عن ثقافة بنات مجتمعها و
جيلها. وفي ظل هذه الطريقة التصويرية المقارنة يمكن ان نتبع نفس النهج في هذه الصورة
الثالثة:
« ما معنى غريبة الحسين؟
قال: الغريبة في لغتنا هي القصة التي يتاثر لها الناس، ونوبة غريبة الحسين صنعها معلم
في ذكرى صديق له اسمه الحسين، مرض حتى قضى من كتم حب امراة»[15]
اثار الجواب عن سؤال معنى غريبة الحسين “ذكرى” الصديق الذي كان “الحب” سببا في “موته”.
وقد كانت هذه المفاهيم الثلاثة “الذكرى”، و”الحب” و”الموت” موجهة الى كثير من احداث الرواية خاصة
تلك التي مرت بها كلود التي عاشت على “ذكرى” امها ، و”احبت” عمر ثم علال،
وواجهت ” الموت” من خلال غرق امها ومن خلال مغامرتها مع علال في اخر الرواية.
لكن المثير في هذه الصورة استعمال مصطلح “القصة” في حد ذاتها بوصفها تفسيرا ل “الغريبة”.
بذلك تكون غريبة الحسين هي قصته التي جعلته يصنع هذه النوبة. والحقيقة ان لنوبة “غريبة
الحسين” في الواقع قصصا متعددة ، فقد «قيل ان المبدعة لها جارية لسلطان اسمه الحسين
كان اسمها غريبة لبعدها عن اهلها ووطنها و كان سيدها لا يسلو عنها فلذلك جاءت
ملاى بالشوق و الحنين. وقيل، على العكس من ذلك، ان سيدها هجرها بعد ان اذاقها
حلاوة الحب فبكته…»[16].
بذلك تكون ل”غريبة الحسين ” في الواقع الخارجي قصص مقترنة بالحب، والحنين، والبكاء، و الشوق،
و الغربة، و كلها عناصر فنية يمكن مقابلتها بشخصية كلود الروائية.
* * *
ان اجمل الصيغ التعبيرية التي تثيرها رواية “غريبة الحسين” اسلوب المقارنة بين صورها الروائية، و
بين الواقع الموسيقي الذي تحياه الموسيقى الاندلسية. و بذلك تقف “الصورة” متارجحة بين لغة الرواية
و بين نقل انسيابات لغة الموسيقى التي يصعب حصرها لغويا، خاصة اذا كانت تعكس سمة
من نوع “الغربة”. ان غربة الموسيقى في رواية “غريبة الحسين” هي تصوير لجوانب من غربة
الانسان في حد ذاته مادام الفن عموما يعد احد مظاهر تكوين هويته و ثقافته.
تتمثل في كلمة “غريبة” الواردة في العنوان و التي لها صلة “بالغربة” كما هو واضح
؛ حيث ان قراءة الرواية يمكن ان تحيلنا الى استثمار الغربة بايحاءاتها المتعددة في بناء
عدد من صورها وتشكيلاتها. وتبعا لذلك سيحاول مقالي الاجابة عن عدد من الاسئلة التي دارت
في ذهني منذ اول قرائتي للعنوان:
ما هي تجليات سمة الغربة في الرواية؟ هل هي غربة الانسان مع نفسه و من
ثم مع مجتمعه على اعتبار ان عنوان الرواية يشير الى اسم شخصية الحسين؟ ام ان
الامر يتعلق بتصوير غربة الموسيقى في حد ذاتها، علما ان عنوان الرواية ماخوذ من احدى
نوبات الموسيقى الاندلسية الاحدى عشرة؟
تحكي الرواية قصة “كلود” الفتاة الفرنسية المثقفة، الرقيقة المشاعر، الفاتنة الجمال، التي تحب كل ما
هو شرقي وعربي. تسافر كلود مع والدها الى المغرب من اجل ان ينجز بحثا حول
الموسيقى الاندلسية ويدونها. وفي هذا البلد تتعرف الى شخصيات عربية وفرنسية، و تزور مدنا متعددة
فيثيرها سر تسمية نوبة غريبة الحسين [2] وضياع كثير من النوبات الاندلسية الاخرى. كما تعيش
كلود مواقف سياسية ونفسية وغرامية وثقافية الى ان ينتهي بها الامر الى ان تحب المغربي
“علال” والزواج منه في ظروف متوترة. لكن الامور ستنحل في نهاية المطاف وستعود كلود سالمة
صحبة زوجها الى فرنسا.
وفي ظل ايام وجود كلود في المغرب و مرورها بمجموعة من الاحداث يستشعر القارئ امتداد
خيوط سمة الغربة لتلف مجموعة من شخصيات الرواية: فكلود نفسها توجد في مجتمع غريب عن
مجتمعها و هي تحاول ان تكتشف كل دقائقه و تفاصيله الانسانية. و”روز ” احدى زوجات
“الحاج ادريس” عم عمر ، شخصية انكليزية اختارت الزواج و العيش بعيدا عن وطنها على
الرغم من الاختلافات الموجودة بين ثقافتها وثقافة المجتمع الغربي. و”ام علال” الزمورية تركت بيئتها وقبائلها
الرحل لتستقر وتعيش بعيدا عن تقاليدهم و اعرافهم. بل ان المستعمر نفسه يعيش تلك الغربة،
فهو موجود في ارض غير ارضه، وفي احضان ثقافة غير تلك التي تربى عليها .
ان مفهوم الغربة بمعانى البعد ، و الغياب، و الخفاء، وايضا الغموض يشكل جزءا من
اساليب بناء صور “غريبة الحسين” . ولقد اشار الكاتب الى هذا المصطلح صراحة في احدى
الصور – اضافة الى اثارته في عنوان الرواية – حيث كلود تناجي نفسها و هي
جالسة بين مجموعة من النساء المغربيات: ” كنت ساصدمها لو قلت انني غريبة، انني نصرانية،
انني اسكن الفندق، انني اريد ان اختار من اتزوجه، انني متحيرة في امر شاب لا
يظهر انه يستطيع ان يقرر شيئا من مصيره “[3] . فللغربة في هذه الصورة بعد
اجتماعي، وديني، و غموض غرامي، ومصيري ايضا. و الكاتب يلح على تاكيد جل هذه الابعاد
من خلال تكرار كلمة “انني” واستعمالها في جمل قصيرة ومتواترة خمس مرات، و في كل
مرة نتبين الغربة بامتداداتها المعنوية تغلف نفسية كلود التي وصفها الكاتب برقة مشاعرها، وشعورها الانساني
الرهيف جدا الذي قد لا يتفق مع كثير من انماط السلوك المتداول بين الفرنسيين المقيمين
بالمغرب. و في هذه الحالة يجسد الكاتب غربة نفسية كلود حتى بين بعض الشخصيات التي
تنتمي الى نفس الوسط الاجتماعي والفكري الذي تربت وعاشت فيه. ويترجم الراوي مظاهر غربة هذه
الفئة المستعمرة عن طريق الصورة الاتية :
«من يستطيع ان يقول لي ماذا تقول هذه المغنية؟فبعد اقامة بالمغرب لمدة خمسة عشر عاما
لا اتكلم العربية الا لانهر بعض الموظفين او المتسولين . لقد غشنا المغاربة لانهم يتكلمون
معنا لغتنا و ظلوا في حصنهم اللغوي. و قد حسبنا اننا حطمنا جميع حصونهم »[4]
كذلك تعكس الصورة احد معاني الغربة، غربة الكلام و اللغة، اي غموضهما و خفاءهما. والمستعمر
في هذه الصورة لا يعيش غربة البعد والنزوح عن الوطن وحدها وانما غربة وسائل التواصل
الانساني ايضا. ان اللغة التي يستعملها ويفهمها لغة نهر واوامر، اما لغة التواصل الطبيعية بينه
وبين الشعب المستعمر فلم يصل الى تعرفها وتعلمها. واذا عدنا الى تامل بناء هذه الصورة
لاحظنا ان “السؤال” يشكل لونا بلاغيا خاصا في طريقة صياغته و هو ما نلمسه في
كثير من صور هذه الرواية. ان استعمال هذا الاسلوب الانشائي انما يشكل استفهاما وبحثا عن
تفسير وفهم عديد من مظاهر الغربة و عدم التوافق مع المحيط الثقافي و الاجتماعي و
النفسي الذي تعيشه نماذج من شخصيات الرواية. يتضح ذلك جليا في هذه الصورة من خلال
سؤال جوزيف مالان احد الفرنسيين المقيمين بالمغرب عن معنى ما تقوله المغنية؛ فلغة الغناء بما
فيها من صور انسانية واخيلة لم يستطع [وصف مالان] ادارك معناها. ومن خلال ذلك يتبدى
للقارئ مفهوم الغربة من احدى وجهاته التي تعني البعد و الغموض. انه بعد وغموض فكري
وحضاري لا يتجسد بمظهره الايجابي وانما بمفهومه السلبي الذي يوحي بانكسار العلاقات الانسانية وانقطاعها.
وعلى الرغم من تميز كثير من شخصيات الرواية بسمة الغربة، الا ان الصور التي اثارتني
في “غريبة الحسين” تلك التي تشكل و ترسم “غربة الموسيقى” في حد ذاتها. فالرواية تحفل
بكثير من الصور التي تجسد غربة الموسيقى في عالميها القديم و الحاضر معا، مع ابتعادها
عن ثقافة مجتمعها الموجودة فيه، ثم غربتها بين ابناء بيئتها الذين يجهلون اصولها و علماءها.
ولا ادل على ذلك من هذه الصورة المنبثة في ثاني فصول الرواية:
«…و ظهر من كلام بعضهم انهم من علماء الموسيقى، و قد ارادوا ان يتملقوا عمر
فذكروا اعلاما من المسلمين كان لهم السبق في تدوين الالحان، و خجل عمر مرة اخرى
لجهله بحضارة بلده و لعن في نفسه جميع العلوم و التخصصات التي لا تبدا بمعرفة
الذات الوطنية »[5].
في ظل اسلوب تقريري يشكل الراوي بوضوح مظهر غربة الموسيقى بين ابناء بيئتها. ففي احدى
جلسات “عمر” مع مجموعة من الفرنسيين تبين له “جهله” باحد مظاهر حضارته الفنية، في حين
كان الغرباء اعلم منه بهذا المظهر الثقافي الذي يعكس جانبا من وطنية الانسان وهويته. لكن
غربة الموسيقى لا تتمثل في “جهلها ” من قبل ابناء بيئتها، وانما تتميز كذلك ب”ضياعها”
منهم و “تحويرها” و ابعادها من ثم عن اصلها الاول:
« هذه الموسيقى الاصيلة التي اخترقت القرون و حملت صدى الاجواء التي ولدت و ترعرعت
فيها تمثل لونا من الوان الزخم الحضاري لثقافة هذا البلد، فقد توارثها المعلمون بالتلقين المباشر
و السماع و ربما زاد فيها من زاد او ضاع منها ما ضاع، و لا
نعرف منها الا ما وصلنا، و هذا الذي وصل الينا ارث للانسانية لا بد ان
نحوله الى كتابة موسيقية يستطيع الناس ان يقراوها في كل مكان »[6]
نلمس في هذه الصورة غربة الموسيقى خاصة تلك المسماة بموسيقى الالة او الموسيقى الاندلسية ،
وبعدها عن اصلها الحقيقي: “ربما زاد فيها من زاد او ضاع منها ما ضاع، ولا
نعرف منها الا ما وصلنا” خاصة وان هذا النوع الموسيقى مر بفترات تاريخية صعبة؛ و
تعكس صياغة هذه الصورة في اطار اسلوب تقريري و مباشر الارتباط الحقيقي لهذا الاشكال بواقعنا
الموسيقي والتاريخي، وهي مباشرة اسلوبية نلمسها في عديد من صور الرواية التي تدعونا الى عقد
مقارنات بين التصوير الروائي الذي يستلزم الخيال في كثير من تجلياته و بين حقيقة تلك
الصور في الواقع. وتبعا لذلك تحيلنا تقريرية الصورة اعلاه الى ضرورة العودة الى التاريخ و
التعرف الى ما مرت به الموسيقى من مراحل ادت الى ضياعها؛ فقد تعرضت الموسيقى في
اوائل العصر الموحدي الى كثير من المضايقات، اذ ارتبط موقف ذلك العصر بمقاومة مختلف مظاهر
الترف و منها الموسيقى. كما ان تراجع الحياة السياسية و الثقافية و الاجتماعية في اواخر
العصر المريني ادى الى «تقهقر الحياة الثقافية ، و كانت موسيقى الالة في مقدمة الفنون
التي تضررت من جراء ذلك ، فقد ضاع منها الكثير حسب ما يفهم من كلام
ابن خلدون عندما قال ، متحدثا عن احوالها ببلاد المغرب ، في زمانه، اواخر القرن
الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي):” و بها منها الان صبابة على تراجع عمرانها”»[7]. لكل ذلك
لا نستطيع ان نقول جازمين ان موسيقى الالة التي وصلت الينا اليوم انها هي التي
سادت حقيقة وغنيت واطربت الاندلسين. فالمسافة الزمنية بيننا وبين عصرها طويلة ، و طريقة تلقينها
تمت عن طريق التواتر الشفاهي كما هو معروف، الامر الذي ادى الى الزيادة فيها ،
و النقصان في بعضها، وضياع بعضها الاخر، وعدم معرفتنا بانغامها الا ما وصل الينا اليوم
سماعا.
لكل ذلك ارى ان رواية “غريبة الحسين” تعكس غربة موسيقى الالة في زمننا، و ضياع
كثير منها هو احد مظاهر غربتها. ولذلك كان حل هذا الاشكال بالنسبة الى فيرني –
وهو والد كلود الذي حمل على عاتقه امر تدوين الموسيقى الاندلسية – يكمن في كتابة
ما تبقى من هذه الموسيقى حتى ” يستطيع الناس ان يقراوها في كل مكان”. والحقيقة
اننا اذا عدنا الى الواقع المعاصر نرى انه قد تمت فعلا عديد من محاولات تدوين
بعض هذه النوبات ، من ذلك نوبة الاصبهان التي كتبها اركاديو دي لاريا بالاتين Arcadio
de Larrea Palacín [8]، ونوبة غريبة الحسين التي دونت من قبل محمد ابرويل[9] ، ثم
نوبات العشاق و رمل الماية ورصد الذيل التي عمل على تدوينها يونس الشامي[10]. وقبل ذلك
كانت محاولات من قبل كثير من الاجانب امثال الكسيس شوطان Alexis Chottin الذي دون ميزان
البسيط من نوبة العشاق، و بوستيلو الذي « جمع كثيرا من الطبوع والانغام التي كانت
متفرقة و سجل بعضا منها بالنوطة»[11] .
وعلى الرغم من الجهود الشاقة لعمليات الاستماع والتدوين الموسيقى لهذه النوبات الا انها مازالت تثير
اشكالات موسيقية حقيقية ؛ فنوبة رصد الذيل على سبيل المثال ذكر مدونها ان القارئ سيلاحظ”
اننا تجنبنا اثقال الرموز الموسيقية بعلامات الزخرفة او التحلية التي يزخر بها العزف العربي، وذلك
لعدم اتفاق العازفين على انواعها و مواقعها ، بل و عدم استخدامها مرتين بصورة متطابقة
من لدن نفس العازف. ولذلك تركنا حرية استعمالها للعازف حسب ما يمليه عليه ذوقه و
تتيحه براعته الفنية” [12]
انه اشكال وحيد ضمن مجموعة من الاشكالات الفنية العديدة التي تعرفها الموسيقى الاندلسية او موسيقى
الالة، مما يجعل هذا النوع الموسيقي يعيش “غربة” حقيقية عن اصله الاول.
و لعل تكرار سؤال : ما معنى غريبة الحسين؟ في صفحات متعددة من الرواية، ان
يعد مظهرا بلاغيا اخر يعكس “غربة” هذا النوع الموسيقي. فالسؤال يتكرر في صور متعددة من
الرواية، وفي كل مرة يكون الجواب عنه مستحضرا احد معاني الغربة مع “المقابلة” بين ما
يشكل عناصر غربة الموسيقى وغربة شخصية “كلود” نفسها:
« سالت المعلم عن معنى “غريبة الحسين”، فقال انه غير متاكد من اصل التسمية، و
لكنه يظن ان معلما اسمه الحسين قد وضع هذه النوبة و لم يضع نوبة غيرها،
فهي غريبته كاليتيمة»[13]
ان عبارات من قبيل : “المعلم غير متاكد” ، “لكنه يظن” ، تعكس عدم وقوف
شيوخ الموسيقى الاندلسية انفسهم على سر تسمية هذه النوبة. كما ان تشبيه ابداع معلم الموسيقى
لنوبة وحيدة ب “اليتيمة” انما يمثل مرة اخرى غربتها ووحدتها. لكن هذه المعاني لا تنطبق
فقط على نوبة “غريبة الحسين” في الرواية و انما على شخصية كلود نفسها. فكلود غير
متاكدة من كثير من الاشياء التي تعيشها و منها حبها لعمر، وتوجهات شبكة سرية تدعى
بالنادي، ومستقبلها الذي تجهل مصيره.
وعلى غرار نفس هذه الصيغ التصويرية التي تستدعي “السؤال” ثم الجواب الذي يمكن مقارنته بشخصية
كلود نقرا الصورة الاتية:
« ما معنى”غريبة الحسين”
قال المايسترو:
هي نوبة متاخرة من حيث زمن ظهورها. وضعها رجل اسمه الحسين، متميزة بما صب فيها
من الحنان، متميزة، غريبة بين غيرها من النوبات»[14]
ان اهم ما يميز الجواب عن معنى نوبة “غريبة الحسين” في الصورة وصفها بالحنان الذي
جعلها متفردة الى درجة غربتها بين غيرها من النوبات. ولعل هذا الحنان الموسيقي الغريب هو
ما يميز مشاعر كلود؛ فعواطفها الرهيفة تجعلها طوال الرواية مختلفة عن ثقافة بنات مجتمعها و
جيلها. وفي ظل هذه الطريقة التصويرية المقارنة يمكن ان نتبع نفس النهج في هذه الصورة
الثالثة:
« ما معنى غريبة الحسين؟
قال: الغريبة في لغتنا هي القصة التي يتاثر لها الناس، ونوبة غريبة الحسين صنعها معلم
في ذكرى صديق له اسمه الحسين، مرض حتى قضى من كتم حب امراة»[15]
اثار الجواب عن سؤال معنى غريبة الحسين “ذكرى” الصديق الذي كان “الحب” سببا في “موته”.
وقد كانت هذه المفاهيم الثلاثة “الذكرى”، و”الحب” و”الموت” موجهة الى كثير من احداث الرواية خاصة
تلك التي مرت بها كلود التي عاشت على “ذكرى” امها ، و”احبت” عمر ثم علال،
وواجهت ” الموت” من خلال غرق امها ومن خلال مغامرتها مع علال في اخر الرواية.
لكن المثير في هذه الصورة استعمال مصطلح “القصة” في حد ذاتها بوصفها تفسيرا ل “الغريبة”.
بذلك تكون غريبة الحسين هي قصته التي جعلته يصنع هذه النوبة. والحقيقة ان لنوبة “غريبة
الحسين” في الواقع قصصا متعددة ، فقد «قيل ان المبدعة لها جارية لسلطان اسمه الحسين
كان اسمها غريبة لبعدها عن اهلها ووطنها و كان سيدها لا يسلو عنها فلذلك جاءت
ملاى بالشوق و الحنين. وقيل، على العكس من ذلك، ان سيدها هجرها بعد ان اذاقها
حلاوة الحب فبكته…»[16].
بذلك تكون ل”غريبة الحسين ” في الواقع الخارجي قصص مقترنة بالحب، والحنين، والبكاء، و الشوق،
و الغربة، و كلها عناصر فنية يمكن مقابلتها بشخصية كلود الروائية.
* * *
ان اجمل الصيغ التعبيرية التي تثيرها رواية “غريبة الحسين” اسلوب المقارنة بين صورها الروائية، و
بين الواقع الموسيقي الذي تحياه الموسيقى الاندلسية. و بذلك تقف “الصورة” متارجحة بين لغة الرواية
و بين نقل انسيابات لغة الموسيقى التي يصعب حصرها لغويا، خاصة اذا كانت تعكس سمة
من نوع “الغربة”. ان غربة الموسيقى في رواية “غريبة الحسين” هي تصوير لجوانب من غربة
الانسان في حد ذاته مادام الفن عموما يعد احد مظاهر تكوين هويته و ثقافته.