ان ما يسمى بعلوم القران الكريم مندرج تحت نزول القران الكريم ولازم له، وعليه فلابد
من الالمام في الاسطر التالية بالامور التالية اجمالا من غير تفصيل في الدقائق، فذلك شان
الموضوعات الخاصة بالنزول الذي هو موضوع البحث.
اعلم ان الامة اعتنت بنص القران الكريم وحفظه وعلى راس الامة نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم فقد بلغ من عنايته بالقران الكريم وحرصه على حفظه ان كان يعاجل جبريل
حين يقرئه القران حتى انزل الله عليه “لا تحرك به لسانك لتعجل به* ان علينا
جمعه وقرانه* فاذا قراناه فاتبع قرانه* ثم ان علينا بيانه”القيامة : 16-19 وانزل عليه “انا
نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون”الحجر : 9 فعندئذ اطمان الرسول صلى الله عليه وسلم
على القران وكان جبريل يعارض الرسول صلى الله عليه وسلم القران في كل سنة وعارضه
القران في سنته التي توفي فيها مرتين. وكان صلى الله عليه وسلم يعتني بكتابة القران
الكريم فكان له كتبه يكتبون القران الكريم، يقول لهم ضعوا اية كذا في مكان كذا
من السورة كذا، وكتب القران كله في حياته محمد صلى الله عليه وسلم في الرقاع
واللخاف باقراره صلى الله عليه وسلم. ومما يدل على عناية المسلمين بالقران الكريم انه حفظه
منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عدد لا باس به، ثم تتابع الحفظ
بعد ذلك حتى قيل انه قتل يوم بئر معونة سبعون من القراء.
ومن مظاهر العناية به انه لما استحر القتل في الحفظة عمد ابو بكر الى جمعه
في مكان واحد في الصحف، واحتاط لذلك الجمع، حيث الف نخبة من الحفظة، على راسهم
زيد بن ثابت الذي كان كاتب الوحي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقد
كان امير المؤمنين ابو بكر الصديق موفقا في هذا الجمع، ثم بعد هذا الجمع ظلت
الصحف عند امير المؤمنين ابي بكر في خلافته ثم بعد وفاته انتقلت الى امير المؤمنين
عمر رضي الله عنه ثم بعد وفاته كانت عند حفصة رضي الله عنها حتى كانت
خلافة امير المؤمنين عثمان رضي الله عنه فحصل في زمن عثمان اختلاف بين القراء في
الامصار، فكان من توفيق الله ان جمع امير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه
الصحابة، وعرض عليهم اختلاف القراء في الامصار وفي المدينة، وكان رايه ان يجمع القران في
مصحف واحد، فوافقه الصحابة بالاجماع على ذلك، فارسل الى حفصة واخذ منها الصحف، وجمع القران
في مصحف واحد ووزعه على الامصار، فكان بذلك موفقا حيث ادرك الناس قبل ان يختلفوا.
ومن مظاهر العناية بالقران الكريم عند المسلمين، انهم حرروا القراءات وفرقوا بين المتواتر والشاذ، وجعلوا
قواعد لا يثبت القران الا بها وهي:
اولا:-الاسناد المتصل للقراءة في كل طبقة.
ثانيا:-موافقة القراءة لوجه نحوي.
ثالثا:-ان يحتملها الرسم العثماني.
وكل قراءة لا تتوفر فيها هذه الشروط، فاعتبرها العلماء شاذة لا تسمى قرانا، ولاتجوز القراءة
بها(1).
ومن مظاهر العناية بالقران الكريم عند هذه الامة، انه لابد فيه من التلقي مشافهة، تلقاه
النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام شفاها، وتلقاه الصحابة الاثبات العدول من
النبي صلى الله عليه وسلم ثم تلقاه التابعون الاخيار من الصحابة، كذلك، ثم تلقاه اتباع
التابعين من التابعين كذلك، الى ان وصل الينا غضا طريا كما انزل، فالقراءة سنة متبعة
لا مدخل للقياس فيها، والاعتماد فيها على التلقي والتواتر.
وقد اعتنى المسلمون بالقران عناية فائقة، حيث الفوا في كل جزء منه، فرقوا بين مكيه،
ومدنيه. وعرفوا مكيه بانه ما نزل قبل الهجرة ،كما عرفوا المدني بانه ما نزل بعد
الهجرة، هذا التعريف المختار، ومع تعريف المكي والمدني، فقد جمعوا المكي، وميزوه دون المدني وكل
ذلك عناية بالقران الكريم.
كما اعتنوا بسور القران الكريم واياته، وذكروا ان ترتيب الايات توقيفي، من النبي محمد صلى
الله عليه وسلم كما هو الان، واما ترتيب السور ففيه خلاف بينهم(2)، كما الفوا في
اسماء السور، وعدد الايات ومن هذه العناية الدقيقة اعتناؤهم برسمه الذي رسم به في زمن
النبي صلى الله عليه وسلم وباقراره، واجمع عليه الصحابة بعد ذلك في زمن عثمان، وذهب
الكثير من العلماء الى ان رسم القران توقيفي لا تجوز مخالفته، حتى ان بعضهم كان
يرى ان تكتب الكتابات الاخرى كما كتب القران على رسمه وعلى نمطه. وخلاصة القول ان
العلماء لم يتركوا شيئا يتعلق بالقران الكريم الا وكتبوا فيه مثل ناسخه ومنسوخه، واقسامه، ومطلقه
ومجمله، ولما كان هذا البحث الذي كلفنا بالكتابة فيه، تحت عنوان (نزول القران) اخترنا الكتابة
فيما له صلة وثيقة بالنزول.
التعريف بالقران الكريم وانه المعجزة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم
التعريف بالقران الكريم وانه المعجزة العظمى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وقد تحدى القران
باساليب منوعة، وكونه معجزا بالفاظه ومعانيه، وان الناس لم يصرفوا عنه، والرد على من قال
بالصرفة
.
اعلم ان تعريف القران الكريم: هو كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم
المتعبد بتلاوته، وقد عرفه صاحب المراقي في الفيته بقوله(3) : لفظ منزل على محمد لاجل
الاعجاز وللتعبد(4)
ويطلق بالاشتراك اللفظي على مجموع القران، وعلى كل اية من اياته
(5) فاذا سمعت من يتلو اية من القران صح ان تقول انه يقرا القران “واذا
قرىء القران فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون”الاعراف : 204
والقران الكريم هو المعجزة الخالدة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الى يوم القيامة لان
المعجزات على ضربين الاول ما اشتهر نقله وانقرض عصره بموت النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: ما تواترت الاخبار بصحته وحصوله واستفاضت بثبوته ووجوده ووقع لسامعها العلم بذلك ضرورة، ومن
شرطه ان يكون الناقلون له خلقا كثيرا وجما غفيرا، وان يكونوا عالمين بما نقلوه علما
ضروريا، وان يستوي في النقل اولهم واخرهم ووسطهم في كثرة العدد، حتى يستحيل عليهم التواطؤ
على الكذب، وهذه صفة نقل القران، ونقل وجود النبي صلى الله عليه وسلم قال القرطبي(6):
“لان الامة رضي الله عنها لم تزل تنقل القران خلفا عن سلف والسلف عن سلفه
الى ان يتصل ذلك بالنبي عليه الصلاة والسلام، المعلوم وجوده بالضرورة وصدقه بالادلة المعجزات، والرسول
اخذه عن جبريل عليه السلام عن ربه عز وجل، فنقل القران في الاصل رسولان معصومان
من الزيادة والنقصان، ونقله الينا بعدهم اهل التواتر الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلونه
ويسمعونه لكثرة العدد، ولذلك وقع لنا العلم الضروري بصدقهم فيما نقلوه من وجود محمد صلى
الله عليه وسلم ، ومن ظهور القران على يديه وتحديه به، فالقران معجزة نبينا صلى
الله عليه وسلم الباقية بعده الى يوم القيامة مع ان معجزة كل نبي انقرضت بانقراضه
او دخلها التبديل كالتوراة والانجيل، فلما عجزت قريش عن الاتيان بمثله وقالت: ان النبي صلى
الله عليه وسلم تقوله انزل الله تحديا لهم قوله “ام يقولون تقوله بل لا يؤمنون*
فلياتوا بحديث مثله ان كانوا صادقين”الطور : 33-34 ثم تحداهم وانزل تعجيزا ابلغ من ذلك
فقال “ام يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات” هود: 13. فلما عجزوا حطهم
عن هذا المقدار الى مثل سورة من السور القصار فقال جل وان كنتم في ريب
مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله”البقرة : 23. فافحموا عن الجواب وتقطعت بهم
الاسباب، وعدلوا الى الحروب والعناد واثروا سبي الحريم والاولاد، ولو قدروا على المعارضة لكان اهون
كثيرا وابلغ في الحجة واشد تاثيرا مع كونهم ارباب البلاغة وعنهم تؤخذ الفصاحة.
واعلم ان القران نفسه هو المعجز بالفاظه ومعانيه لان فصاحته وبلاغته امر خارق للعادة اذ
لم يوجد كلام قط على هذا الوجه، وما قاله النظام ومن على شاكلته من ان
وجه الاعجاز في القران هو انهم منعوا منه وصرفوا عنه قول فاسد، لان اجماع الامة
قبل حدوث المخالف ان القران هو المعجز، فلو قلنا ان المنع والصرفة هو المعجز لخرج
القران عن ان يكون معجزا، وذلك خلاف الاجماع.
هذا وقد ذكر العلماء اوجها كثيرة للاعجاز نلخص منها ما ياتي بايجاز:-
20887. النظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب لان، نظمه ليس من نظم
الشعر في شيء وكذلك قال رب العزة الذي تولى نظمه “وما علمناه الشعر وما ينبغي
له”يس : 69. وفي صحيح مسلم ان انيسا اخا ابي ذر قال لابي ذر: لقيت
رجلا بمكة على دينك يزعم ان الله ارسله. قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر
كاهن ساحر وكان انيس احد الشعراء قال انيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم،
ولقد وضعت قوله على اقراء الشعر(7) فلم يلتئم على لسان احد بعدي انه شعر والله
انه لصادق وانهم لكاذبون(8).
الاسلوب المخالف لجميع اساليب العرب.
الجزالة التي لا تصح من مخلوق بحال، قال القرطبي(9): وتامل ذلك في سورة ق والقران
المجيد الى اخرها وقوله سبحانه “والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه”الزمر:67 الى اخر
السورة، وكذا قوله “ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون” ابراهيم : 42 الى اخر
السورة قال ابن الحصار: فمن علم ان الله سبحانه وتعالى هو الحق علم ان مثل
هذه الجزالة لا تصح في خطاب غيره، ولا يصح من اعظم ملوك الدنيا ان يقول
“لمن الملك اليوم”غافر : 16 ولا ان يقول “ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء” الرعد
: 13
التصرف في لسان العرب على وجه لا يستقل به عربي حتى يقع منهم الاتفاق من
جميعهم على اصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه.
20888. الاخبار عن الامور التي تقدمت في اول الدنيا الى وقت نزوله، من امي ما
كان يتلو من قبله من كتاب ولا يخطه بيمينه، مع انه اخذ بما كان من
قصص الانبياء مع اممها، وذكر ما ساله اهل الكتاب عنه، وتحدوه به من قصة اهل
الكهف، وشان موسى والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين.
20889. الوفاء بالوعد المدرك بالحس في العيان في كل ما وعد الله سبحانه،20890. وينقسم الى
اخباره المطلقة كوعده بنصر رسوله عليه السلام، واخراج الذين اخرجوه من وطنه والى وعد مقيد
بشرط كقوله ” ومن يتوكل على الله فهو حسبه”الطلاق : 3 وقوله “ومن يؤمن بالله
يهد قلبه”التغابن :11
الاخبار عن المغيبات في المستقبل التي لا يطلع عليها الا بالوحي فمن ذلك ما وعد
الله نبيه عليه السلام انه سيظهر دينه على الاديان بقوله تعالى “هو الذي ارسل رسوله
بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله”التوبة :33 اية ففعل ذلك، وكان ابو بكر رضي
الله عنه اذا اغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله في اظهار دينه ليثقوا بالنصر، وليستيقنوا
بالنجاح، وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك، فلم يزل الفتح يتوالى شرقا وغربا، برا
وبحرا.
ما تضمنه القران الكريم من العلم الذي هو قوام جميع الانام في الحلال والحرام وسائر
الاحكام.
التناسب في جميع ما تضمنه ظاهرا وباطنا من غير اختلاف. قال تعالى ” ولو كان
من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا”النساء:82 .
الحكم الكثيرة التي لم تجر العادة بان تصدر في كثرتها وشرفها من ادمي.
التعريف بعلوم القران فنا مستقلا ومتى ظهر هذا الاصطلاح
هو علم ذو مباحث تتعلق بالقران الكريم من حيث نزوله وترتيبه وكتابته وجمعه وقراءاته وتفسيره
واعجازه وناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه الى غير ذلك من المباحث التي تذكر في هذا العلم(10)،
وقد يسمى هذا العلم باصول التفسير لانه يتناول العلوم التي لابد للمفسر منها(11).
واول ظهور هذا المصطلح لعلوم القران فنا مستقلا كان على يد الحوفي المتوفي 430ه في
كتابه “البرهان في علوم القران”، ثم تبعه ابن الجوزي المتوفى سنة 597ه في كتابه “فنون
الافنان في عجائب القران” ثم جاء بدر الدين الزركشي المتوفى سنة 794ه بكتاب واف سماه
“البرهان في علوم القران” ثم جاء البلقيني المتوفى سنة 824ه فالف كتابه “مواقع العلوم من
مواقع النجوم” ثم جاء خاتمة الحفاظ وفارس الميدان جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911ه بكتابه
“الاتقان في علوم القران”، وصار الناس بعده عيالا عليه، كل ياخذ منه، والبعض يلخص والبعض
يختصر.
وقد نشط التاليف في علوم القران في العصر الحديث مثل كتاب مصطفى صادق الرافعي في
اعجاز القران، والنبا العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز، وكتاب الشيخ طاهر الجزائري (التبيان في
علوم القران) وكتاب مناهل العرفان في علوم القران للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني وكتاب المدخل
في علوم القران لشيخنا الشيخ الدكتور محمد محمد ابو شهبة رحمه الله وكتاب مباحث في
علوم القران للشيخ مناع القطان رحمه الله الى غير ذلك من التاليف الكثيرة في هذا
العصر.
متى بدا النزول وكم كانت مدة النزول
ان بحث نزول القران وتاريخ نزوله، لمن اهم المباحث اذ به تعرف تنزلات القران الكريم،
ومتى نزل، وكيف نزل، وعلى من نزل وكيف كان يتلقاه جبريل من الله تبارك وتعالى؟
ولاشك ان العلم بذلك يتوقف على كمال الايمان، بان القران من عند الله، وانه المعجزة
العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم ، كما ان كثيرا من المباحث التي تذكر في
هذا الفن يتوقف على العلم بنزوله، فهو كالاصل بالنسبة لغيره.
انزل الله القران الكريم على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لهداية البشر واخراجهم من
الظلمات الى النور، فكان نزوله حدثا جللا مؤذنا بمكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند
اهل السماء والارض.
فانزاله الاول في ليلة القدر نبه العالم العلوي على شرف هذه الامة، وانها القائدة التي
جعلها الله خير امة اخرجت للناس.
قال تعالى “شهر رمضان الذي انزل فيه القران هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان” البقرة
الاية 185 ، فقد مدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بانه اختاره من
بينها لانزال القران العظيم فيه، قال ابن كثير(12): “وكما اختصه بذلك فقد ورد الحديث بانه
الشهر الذي كانت الكتب الالهية تنزل فيه على الانبياء “.
قال الامام احمد بن حنبل(13) رحمه الله حدثنا ابو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عمران
ابو العوام عن قتادة عن ابي المليح عن واثلة – يعني ابن الاسقع- ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: انزلت صحف ابراهيم في اول ليلة من رمضان، والانجيل
لثلاث عشرة خلت من رمضان وانزل الله القران لاربع وعشرين خلت من رمضان.
وقد روى من حديث جابر بن عبد الله وفيه ان الزبور انزل لثنتي عشرة خلت
من رمضان والانجيل لثماني عشرة والباقي كما تقدم رواه ابن مردويه(14).
اما الصحف والتوراة والزبور والانجيل فنزل كل منها على النبي الذي انزل عليه جملة واحدة
واما القران فكان نزوله الاول جملة واحدة الى بيت العزة من سماء الدنيا، كما تدل
عليه الايات: “شهر رمضان …”البقرة: 185 “انا انزلناه في ليلة مباركة”الدخان : 3 .
اما تاريخ نزول القران منجما وهو النزول الثاني، فقد كان بعد الاربعين من عمره صلى
الله عليه وسلم حينما بعث في يوم الاثنين وكان اول ما نزل عليه صدر سورة
اقرا كما ذكر ذلك محققو اهل العلم من اهل التفسير والحديث والسير، قال العلامة الفاسي
في نظمه قرة الابصار في سيرة المشفع المختار(15):
صلى عليه اشرف العباد
من بعد اربعين عاما غبرا
صلى عليه الله فالق الفلق
توحيد رب العالمين مرسلا
احصاءه من معجزات كالمطر
نورا ورفعة مع ابتهاجى
كما اتت بذلك الاخبار
لو شاء لكن جاد بالتاخير
منهم ومن اصلابهم ابناء
وايد الحق به واظهره
بيان مبعث النبي الهاد
وجاءه جبريل في غار حرا
في يوم الاثنين بسورة العلق
فقام يدعو الانس والجن الى
مؤيدا منه برا اعيا البشر
نفعا وكثرة وكالسراج
ومع ذا حاصره الفجار
وكان قادرا على التدمير
حتى هدى الله به من شاء
ثم اعز دينه ونصره
قال في الاتقان(16): “اما انزاله الثاني مفرقا على حسب الوقائع خلافا لما كان معهودا عندهم
في الكتب السابقة فقد اثار الضجة عند القوم حتى حملهم على المحادة والمساءلة حتى ظهر
لهم الحق فيما بعد من اسرار الحكم الالهية في انزاله منجما على حسب الوقائع حتى
اكمل الله الدين”.
هذا وقد يظن البعض ان الايات من قوله “شهر رمضان الذي انزل فيه القران”البقرة:185 الخ
وقوله “حم* والكتاب المبين* انا انزلناه في ليلة مباركة انا كنا منذرين” الدخان:1-3 وقوله “انا
انزلناه في ليلة القدر”القدر : 1. بينها تعارض والواقع انه لا تعارض بينها، فالليلة المباركة
هي ليلة القدر من شهر رمضان، وانما يتعارض ظاهرها مع الواقع العملي في حياة الرسول
صلى الله عليه وسلم لان القران نزل عليه خلال ثلاث وعشرين سنة.
وقد روى من غير وجه عن ابن عباس كما قال اسرائيل عن السدي عن محمد
بن ابي المجالد عن مقسم عن ابن عباس انه ساله عطية بن الاسود فقال وقع
في قلبي الشك من قول الله تعالى “شهر رمضان الذي انزل فيه القران”وقد انزل في
شوال وذي القعدة وفي ذي الحجة ومحرم، وصفر وشهر ربيع فقال ابن عباس وجمهور العلماء:ان
المراد بنزول القران في تلك الايات الثلاث، نزوله جملة واحدة الى بيت العزة من السماء
الدنيا تعظيما لشانه عند الملائكة، ثم انزل بعد ذلك منجما على مواقع النجوم ترتيلا في
الشهور والايام في ثلاث وعشرين سنة، حسب الوقائع والاحداث منذ بعثه صلى الله عليه وسلم
الى ان توفى حيث اقام بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة بعد الهجرة عشر
سنين وهذا المذهب هو الذي جاءت به الاخبار الصحيحة عن ابن عباس في عدة روايات
منها:
1- عن ابن عباس قال انزل القران جملة واحدة الى السماء الدنيا(17) ليلة القدر ثم
انزل بعد ذلك في عشرين سنة ثم قرا “ولا ياتونك بمثل الا جئناك بالحق واحسن
تفسيرا”الفرقان : 33. وقوله “وقرانا فرقناه لتقراه على الناس على مكث” الاسراء : 106.
2- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: فصل القران من الذكر فوضع في بيت
العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم.
3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: انزل الله القران جملة واحدة الى السماء
الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه اثر
بعض. رواه الحاكم والبيهقي(18).
4- وعنه رضي الله عنه قال انزل القران في ليلة القدر في شهر رمضان الى
السماء الدنيا جملة واحدة ثم انزل نجوما “رواه الطبراني”.
2- المذهب الثاني: هو المروي عن الشعبي ان المراد بنزول القران في الايات الثلاث ابتداء
نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد ابتدا نزوله في ليلة القدر
من شهر رمضان وهي الليلة المباركة، ثم تتابع نزوله بعد ذلك مندرجا مع الوقائع والاحداث
في قرابة ثلاث وعشرين سنة.
قال: فليس للقران الا نزول واحد هو نزوله منجما على رسول الله صلى الله عليه
وسلم لان هذا هو الذي جاء به القران قال تعالى “وقرانا فرقناه لتقراه على الناس
على مكث”الاسراء:106، ولهذا جادل فيه المشركون لكون الكتب السماوية نقل اليهم نزولها جملة واحدة قال
تعالى “وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القران جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه
ترتيلا* ولا ياتونك بمثل الا جئناك بالحق واحسن تفسيرا”الفرقان:32-33.
قال: ولا يظهر للبشرية مزية لشهر رمضان وليلة القدر التي هي الليلة المباركة الا اذا
كان المراد بالايات الثلاث نزول القران على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يوافق
ما جاء في قوله تعالى في غزوة بدر “وما انزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم
التقى الجمعان والله على كل شيء قدير” الانفال:41. وقد كانت غزوة بدر في رمضان، ويؤيد
هذا ما عليه المحققون في حديث بدء الوحي.
عن عائشة قالت: “اول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي
الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا الا جاءت مثل فلق الصبح”(19) فالمحققون على
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبئ اولا بالرؤيا في الشهر الذي ولد فيه
وهو شهر ربيع الاول، وكانت المدة بين الرؤيا والوحي اليه يقظة ستة اشهر ثم اوحي
اليه يقظة ب “اقرا”
قال الشيخ مناع القطان رحمه الله(20) “وبهذا تتازر النصوص على معنى واحد”.
3-المذهب الثالث:يرى ان القران انزل الى السماء الدنيا في ثلاث وعشرين ليلة قدر في كل
ليلة منها ما يقدر الله انزاله في كل السنة، وهذا القدر الذي ينزل في ليلة
القدر الى السماء الدنيا لسنة كاملة ينزل بعد ذلك منجما على رسول صلى الله عليه
وسلم في جميع السنة.
ولاشك ان هذا المذهب اجتهاد من بعض المفسرين فليس هناك ما يدل عليه، اما المذهب
الثاني فانه لا تعارض بينه وبين المذهب الاول الذي هو مذهب ابن عباس والجمهور.
فالراجح ان القران الكريم له تنزلان، كما علمت:
الاول:نزوله الى بيت العزة من سماء الدنيا جملة.
وقد نقل القرطبي(21) الاجماع على هذا النزول عن مقاتل بن حيان وممن قال بقوله الخليمي
والماوردي(22). الثاني:نزوله من السماء الدنيا مفرقا على مدى ثلاث وعشرين سنة.
الحكمة في انزال القران جملة الى السماء
1-تفخيم امره وامر من نزل عليه، وذلك باعلام سكان السموات السبع ان هذا اخر الكتب
المنزلة على خاتم الرسل لاشرف الامم. قال السيوطي: نقلا عن ابي شامة في المرشد الوجيز
” لولا ان الحكمة الالهية اقتضت وصوله اليهم منجما بحسب الوقائع لهبط به الى الارض
جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الامرين: انزاله جملة
ثم انزاله مفرقا تشريفا للمنزل عليه”(23).
2- وقال السخاوي في جمال القراء:” نزوله الى السماء الدنيا جملة تكريم لبني ادم وتعظيم
لشانهم عند الملائكة، وتعريفهم عناية الله بهم ورحمته لهم “.
والقران بالاستقراء كان ينزل حسب الحاجة خمس ايات وعشر ايات واكثر واقل، وصح نزول عشر
ايات في قصة الافك جملة.
ونزول عشر ايات من اول سورة المؤمنون جملة، كما صح نزول “غير اولي الضرر”وحدها وهي
بعض اية وكذا قوله “وان خفتم عيلة” الى اخر الايات.
ويوضح ذلك ما اخرجه البخاري(24) عن عائشة رضي الله عنها قالت: انما نزل اول ما
نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى اذا ثاب الناس الى الاسلام
نزل الحلال والحرام، ولو نزل اول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر ابدا،
ولو نزل “لاتزنوا” لقالوا لا ندع الزنى ابدا.
اعلم ان القران الكريم له وجودات ثلاثة:-
1- وجوده في اللوح المحفوظ.
2- وجوده في السماء الدنيا.
3- وجوده في الارض.
بنزوله على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يقترن النزول الا بالوجود الثاني والثالث
وقد دل القران الكريم انه كان قبل نزوله في اللوح المحفوظ حيث يقول الله تعالى
“بل هو قران مجيد* في لوح محفوظ”البروج : 21-22.
وهذا اللوح المحفوظ هو الكتاب المكنون الذي قال الله عنه “انه لقران كريم* في كتاب
مكنون* لا يمسه الا المطهرون* تنزيل من رب العالمين”الواقعة: 77-80 والذي عليه جمهور المفسرين ان
الكتاب المكنون هو اللوح المحفوظ، واللوح المحفوظ هو السجل العام الذي كتب الله فيه في
الازل كل ما كان وكل ما يكون، والواجب علينا ان نؤمن به وانه موجود ثابت،
اما البحث فيما وراء ذلك فلسنا مطالبين به.
اما كيف كان جبريل يتلقى الوحي، فلا يركن الى شيء مما قيل في ذلك الا
ما اوما له الدليل، واولى قول في هذا المجال هو ما ذكره البيهقي في تفسير
قوله تعالى “انا انزلناه في ليلة القدر” القدر : 1 قال: يريد والله اعلم ”
انا اسمعنا الملك وافهمناه اياه وانزلناه بما سمع، وهذا القول يشهد له ما رواه الطبراني
من حديث النواس بن سمعان” مرفوعا الى النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اذا تكلم
الله بالوحي اخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله فاذا سمع بذلك اهل السماء صعقوا
وخروا سجدا، فيكون اولهم يرفع راسه جبريل فيكلمه الله بوحيه بما اراد فينتهي به حيث
امر” والحديث وان لم يكن نصا في القران الا ان الوحي يشمل وحي القران وغيره(25).
اما قول من قال ان جبريل اخذ القران من الكتاب، لم يسمعه من الله، فهذا
قول باطل كما ذكر شيخ الاسلام ابن تيمية(26) وقد اخبر تعالى بانه منزل منه قال
تعالى “والذين اتيناهم الكتاب يعلمون انه منزل من ربك بالحق” الانعام : 114 وقال تعالى
“حم* تنزيل من الرحمن الرحيم” فصلت : 1-2. وقال “حم
“تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم” الاحقاف: 1-2. فجبريل رسول الله من الملائكة جاء به
الى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشر والله يصطفي من الملائكة رسلا ومن
الناس. وكلاهما مبلغ له.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية(27): ” وهو مع هذا كلام الله ليس لجبريل ولا لمحمد
فيه الا التبليغ والاداء كما ان المعلمين له في هذا الزمان والتالين له في الصلاة
او خارج الصلاة ليس لهم فيه الا ذلك لم يحدثوا شيئا من حروفه ولا معانيه
“.
قال الامام السيوطي(28) قال الجويني: كلام الله المنزل قسمان:
ا – قسم قال الله لجبريل قل للنبي صلى الله عليه وسلم الذي انت مرسل
اليه ان الله يقول افعل كذا وكذا، ففهم جبريل ما قاله ربه، ثم نزل على
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ما قاله ربه ولم تكن العبارة تلك
العبارة، كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان يقول لك الملك اجتهد في الخدمة
واجمع جندك للقتال. فان قال الرسول بقول الملك لا تتهاون في خدمته ولا تترك الجند
تتفرق وحثهم على المقاتلة لا ينسب الى كذب ولا تقصير في اداء الرسالة.
ب – قسم اخر قال الله لجبريل اقرا على النبي هذا الكتاب فنزل جبريل بكلمة
من الله من غير تغيير كما يكتب الملك كتابا ويسلمه الى امين ويقول له اقراه
على فلان فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفا.
قال السيوطي: القران هو القسم الثاني، والقسم الاول هو السنة، وقد ورد ان جبريل كان
ينزل بالسنة كما ينزل بالقران قال: ولهذا جازت رواية السنة بالمعنى بخلاف القران الكريم فانه
نزل جبريل بالفاظه ومعانيه فلا تجوز روايته بالمعنى. والسر في ذلك ان القران يقصد التعبد
بالفاظه وهو كذلك معجز فلا يمكن لاحد مهما اوتي من البلاغة والفصاحة ان ياتي بلفظ
يقوم مقامه.
كما ان فيه تخفيفا على الامة حيث جعل المنزل اليهم على قسمين قسم يروونه بلفظه
الموحي به وقسم يروونه بالمعنى، ولو جعل كله مما يروي باللفظ، لشق، او بالمعنى لم
يؤمن التبديل. قال صاحب المدخل(29) : “وكذلك ليس للنبي صلى الله عليه وسلم في القران
شيء الا مجرد التبليغ فقط وهذا هو الحق الذي يجب على كل مسلم ان يعتقده
ويؤمن به “.
قال: ولا يلتفت الى ما زعمه بعض من يهرف بما لايعرف، او من يفتري ويختلق
من ان جبريل اوحي اليه المعنى، وانه عبر بهذه الالفاظ الدالة على المعاني بلغة العرب،
ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم كذلك او ان جبريل اوحى الى النبي
صلى الله عليه وسلم المعنى ان النبي صلى الله عليه وسلم عبر عن هذه المعاني
بلفظ من عنده فهذا القول زعم وخرص لم تقم عليه اثارة من علم.
وهو خلاف ما تواتر عليه القران والسنة، وانعقد عليه اجماع الامة من ان القران لفظه
ومعناه كلام الله ومن عند الله منه بدا واليه يعود.
الى ان قال: وهذا الزعم لا يقول به الا جاهل استولى الجهل والغفلة عليه او
زنديق قد يدس في الدين والعلم ما ليس منه.
ولا يغتر بوجوده في بعض الكتب الاسلامية، فاغلب الظن انه مدسوس على الاسلام والمسلمين هذا
وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم القران الكريم من غير تحريف ولا تبديل ولا
تغيير لشيء منه ولا كتمان له، ولو كان كاتما شيئا [حاشاه من ذلك] لكتم تبليغ
الايات التي عوتب فيها ويكفي ان تقرا قول الحق تبارك وتعالى “ايها الرسول بلغ ما
انزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته”المائدة، : 67 وقوله “واذا تتلى
عليهم اياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقران غير هذا او بدله قل
ما يكون لي ان ابدله من تلقاء نفسي ان اتبع الا ما يوحى الي اني
اخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم” يونس : 15 وقوله “ولو تقول علينا بعض
الاقاويل* لاخذنا منه باليمين* ثم لقطعنا منه الوتين* فما منكم من احد عنه حاجزين” الحاقة
: 44-47