فصل في تصدي الصديق لقتال اهل الردة ومانعي الزكاة
قد تقدم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي ارتدت احياء كثيرة من
الاعراب، ونجم النفاق بالمدينة، وانحاز الى مسيلمة الكذاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة، والتفت على
طليحة الاسدي بنو اسد، وطيء، وبشر كثير ايضا.
وادعى النبوة ايضا كما ادعاها مسيلمة الكذاب وعظم الخطب، واشتدت الحال، ونفذ الصديق جيش اسامة
فقل الجند عند الصديق فطمعت كثير من الاعراب في المدينة، وراموا ان يهجموا عليها فجعل
الصديق على انقاب المدينة حراسا يبيتون بالجيوش حولها، فمن امراء الحرس علي ابن ابي طالب،
والزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الله، وسعد ابن ابي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف،
وعبد الله بن مسعود.
وجعلت وفود العرب تقدم المدينة يقرون بالصلاة، ويمتنعون من اداء الزكاة، ومنهم من امتنع من
دفعها الى الصديق، وذكر ان منهم من احتج بقوله تعالى: « خذ من اموالهم صدقة
تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم ».
قالوا: فلسنا ندفع زكاتنا الا الى من صلاته سكن لنا، وانشد بعضهم:
اطعنا رسول الله اذ كان بيننا * فواعجبا ما بال ملك ابي بكر
وقد تكلم الصحابة مع الصديق في ان يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة ويتالفهم
حتى يتمكن الايمان في قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يزكون فامتنع الصديق من ذلك واباه.
وقد روى الجماعة في كتبهم سوى ابن ماجه عن ابي هريرة ان عمر بن الخطاب
قال لابي بكر: علام تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
امرت ان اقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله
فاذا قالوها عصموا مني دماءهم واموالهم الا بحقها ».
فقال ابو بكر: والله لو منعوني عناقا، وفي رواية: عقالا كانوا يؤدونه الى رسول الله
صلى الله عليه وسلم لاقاتلنهم على منعها، ان الزكاة حق المال، والله لاقاتلن من فرق
بين الصلاة والزكاة.
قال عمر: فما هو الا ان رايت الله قد شرح صدر ابي بكر للقتال فعرفت
انه الحق.
قلت: وقد قال الله تعالى: { فان تابوا واقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم }
[التوبة: 5] .
وثبت في الصحيحين: « بني الاسلام على خمس شهادة ان لا اله الا الله، وان
محمدا رسول الله، واقام الصلاة، وايتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان ».
وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريقين عن شبابة ابن سوار، ثنا عيسى بن يزيد
المديني، حدثني صالح بن كيسان قال: لما كانت الردة قام ابو بكر في الناس فحمد
الله واثنى عليه ثم قال: الحمد لله الذي هدى فكفى، واعطى فاغنى، ان الله بعث
محمد صلى الله عليه وسلم والعلم شريد، والاسلام غريب طريد، قد رث حبله، وخلق عهده،
وضل اهله منه، ومقت الله اهل الكتاب فلا يعطيهم خيرا لخير عندهم، ولا يصرف عنهم
شرا لشر عندهم، قد غيروا كتابهم والحقوا فيه ما ليس منه، والعرب الامنون يحسبون انهم
في منعة من الله لا يعبدونه ولا يدعونه، فاجهدهم عيشا، واضلهم دينا في ظلف من
الارض مع ما فيه من السحاب، فختمهم الله بمحمد وجعلهم الامة الوسطى، نصرهم بمن اتبعهم،
ونصرهم على غيرهم حتى قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم فركب منهم الشيطان مركبه
الذي انزله عليه، واخذ بايديهم وبغى هلكتهم { وما محمد الا رسول قد خلت من
قبله الرسل افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر
الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } [ال عمران: 144] .
ان من حولكم من العرب منعوا شاتهم وبعيرهم ولم يكونوا في دينهم، وان رجعوا اليه
ازهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم اقوى منكم يومكم هذا على ما قد
تقدم من بركة نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد وكلكم الى المولى الكافي الذي وجده
ضالا فهداه، وعائلا فاغناه، { وكنتم على شفا حفرة من النار فانقذكم منها } [ال
عمران: 103] .
والله لا ادع ان اقاتل على امر الله حتى ينجز الله وعده ويوفي لنا عهده،
ويقتل من قتل منا شهيدا من اهل الجنة، ويبقى من بقي منها خليفته وذريته في
ارضه، قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له { وعد الله الذين امنوا منكم
وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض } [النور: 55] . ثم نزل.
وقال الحسن وقتادة وغيرهما في قوله تعالى: « يا ايها الذين امنوا من يرتد منكم
عن دينه فسوف ياتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » الاية
قالوا: المراد بذلك ابو بكر واصحابه في قتالهم المرتدين ومانعي الزكاة.
وقال محمد بن اسحاق: ارتدت العرب عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
خلا اهل المسجدين مكة والمدينة.
وارتدت اسد، وغطفان، وعليهم طليحة بن خويلد الاسدي الكاهن.
وارتدت كندة ومن يليها وعليهم الاشعث بن قيس الكندي.
وارتدت مذحج ومن يليها وعليهم الاسود بن كعب العنسي الكاهن.
وارتدت ربيعة مع المعرور ابن النعمان بن المنذر.
وكانت حنيفة مقيمة على امرها مع مسيلمة بن حبيب الكذاب.
وارتدت سليم مع الفجاة واسمه انس بن عبد ياليل.
وارتدت بنو تميم مع سجاح الكاهنة.
وقال القاسم بن محمد: اجتمعت اسد وغطفان وطيء على طليحة الاسدي، وبعثوا وفودا الى المدينة،
فنزلوا على وجوه الناس فانزلوهم الا العباس، فحملوا بهم الى ابي بكر على ان يقيموا
الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فعزم الله لابي بكر على الحق وقال: لو منعوني عقالا لجاهدتهم،
فردهم، فرجعوا الى عشائرهم فاخبروهم بقلة اهل المدينة وطمعوهم فيها، فجعل ابو بكر الحرس على
انقاب المدينة، والزم اهل المدينة بحضور المسجد، وقال: ان الارض كافرة، وقد راى وفدهم منكم
قلة، وانكم لا تدرون ليلا ياتون ام نهارا، وادناهم منكم على بريد، وقد كان القوم
يؤملون ان نقبل منهم ونوادعهم، وقد ابينا عليهم، فاستعدوا واعدوا فما لبثوا الا ثلاثا حتى
طرقوا المدينة غارة، وخلفوا نصفهم بذي حسى ليكونوا ردءا لهم، وارسل الحرس الى ابي بكر
يخبرونه بالغارة، فبعث اليهم ان الزموا مكانكم، وخرج ابو بكر في اهل المسجد على النواضح
اليهم فانفش العدو واتبعهم المسلمون على ابلهم حتى بلغوا ذا حسي، فخرج عليهم الردء، فالتقوا
مع الجمع فكان الفتح، وقد قال:
اطعنا رسول الله ما كان وسطنا * فيالعباد الله ما لابي بكر
ايورثنا بكرا اذا مات بعده * وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
فهلا رددتم وفدنا بزمانه * وهلا خشيتم حس راعية البكر
وان التي سالوكمو فمنعتمو * لكالتمر او احلى الي من التمر
وفي جمادى الاخرة ركب الصديق في اهل المدينة وامراء الانقاب الى من حول المدينة من
الاعراب الذين اغاروا عليها، فلما تواجه هو واعداؤه من بني عبس، وبني مرة، وذبيان، ومن
ناصب معهم من بني كنانة، وامدهم طليحة بابنه حبال، فلما تواجه القوم كانوا قد صنعوا
مكيدة وهي انهم عمدوا الى انحاء فنفخوها، ثم ارسلوها من رءوس الجبال فلما راتها ابل
اصحاب الصديق نفرت وذهبت كل مذهب، فلم يملكوا من امرها شيئا الى الليل وحتى رجعت
الى المدينة، فقال في ذلك الخطيل بن اوس:
فدى لبني ذبيان رحلي وناقتي * عشية يحدى بالرماح ابو بكر
ولكن يدهدى بالرجال فهبنه * الى قدر ما تقيم ولا تسري
ولله اجناد تذاق مذاقه * لتحسب فيما عد من عجب الدهر
اطعنا رسول الله ما كان بيننا * فيالعباد الله ما لابي بكر
فلما وقع ما وقع ظن القوم بالمسلمين الوهن وبعثوا الى عشائرهم من نواحي اخر فاجتمعوا،
وبات ابو بكر رضي الله عنه قائما ليله يعبي الناس، ثم خرج على تعبئة من
اخر الليل وعلى ميمنته النعمان ابن مقرن، وعلى الميسرة اخوه عبد الله بن مقرن، وعلى
الساقة اخوهما سويد بن مقرن، فما طلع الفجر الا وهم والعدو في صعيد واحد، فما
سمعوا للمسلمين حسا ولا همسا حتى وضعوا فيهم السيوف، فما طلعت الشمس حتى ولوهم الادبار،
وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقتل حبال، واتبعهم ابو بكر حتى نزل بذي القصة وكان اول
الفتح، وذل بها المشركون، وعز بها المسلمون، ووثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من
المسلمين فقتلوهم، وفعل من وراءهم كفعلهم، فحلف ابو بكر ليقتلن من كل قبيلة بمن قتلوا
من المسلمين وزيادة، ففي ذلك يقول زياد بن حنظلة التميمي:
غداة سعى ابو بكر اليهم * كما يسعى لموتته حلال
اراح على نواهقها عليا * ومج لهن مهجته حبال
وقال ايضا:
اقمنا لهم عرض الشمال فكبكبوا * ككبكبة الغزى اناخوا على الوفر
فما صبروا للحرب عند قيامها * صبيحة يسمو بالرجال ابو بكر
طرقنا بني عبس بادنى نباجها * وذبيان نهنهنا بقاصمة الظهر
فكانت هذه الوقعة من اكبر العون على نصر الاسلام واهله، وذلك انه عز المسلمون في
كل قبيلة، وذل الكفار في كل قبيلة، ورجع ابو بكر الى المدينة مؤيدا منصورا، سالما
غانما، وطرقت المدينة في الليل صدقات عدي بن حاتم، وصفوان، والزبرقان: احداها في اول الليل،
والثانية في اوسطه، والثالثة في اخره، وقدم بكل واحدة منهن بشير من امراء الانقاب، فكان
الذي بشر بصفوان سعد ابن ابي وقاص، والذي بشر بالزبرقان عبد الرحمن بن عوف، والذي
بشر بعدي بن حاتم عبد الله ابن مسعود، ويقال: ابو قتادة الانصاري رضي الله عنه
وذلك على راس ستين ليلة من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قدم اسامة بن زيد بعد ذلك بليال فاستخلفه ابو بكر على المدينة، وامرهم ان
يريحوا ظهرهم، ثم ركب ابو بكر في الذين كانوا معه في الوقعة المتقدمة الى ذي
القصة فقال له المسلمون: لو رجعت الى المدينة وارسلت رجلا.
فقال: والله لا افعل، ولاواسينكم بنفسي، فخرج في تعبئته الى ذي حسى، وذي القصة والنعمان
وعبد الله وسويد بنو مقرن على ما كانوا عليه، حتى نزل على اهل الربذة بالابرق
وهناك جماعة من بني عبس وذبيان وطائفة من بني كنانة فاقتتلوا فهزم الله الحارث وعوفا،
واخذ الحطيئة اسيرا فطارت بنو عبس، وبنو بكر، واقام ابو بكر على الابرق اياما، وقد
غلب بني ذبيان على البلاد، وقال: حرام على بني ذبيان ان يتملكوا هذه البلاد اذ
غنمناها الله وحمى الابرق بخيول المسلمين، وارعى سائر بلاد الربذة، ولما فرت عبس وذبيان صاروا
الى مؤازرة طلحة وهو نازل على بزاخة، وقد قال في يوم الابرق زياد بن حنظلة:
ويوم بالابارق قد شهدنا * على ذبيان يلتهب التهابا
اتيناهم بداهية نسوف * مع الصديق اذ ترك العتابا