الحب احتياج بشري فطري يولد به الانسان، يؤكد ذلك تجربة شهيرة قام بها علماء النفس
لبيان تاثير العاطفة في النمو، اجريت التجربة على مجموعتين من حديثي الولادة اللقطاء، كانت الممرضات
تعطي المجموعة الاولى احتياجاتها من الغذاء والرعاية فقط، اما المجموعة الثانية فاضيف اليها الحب والهدهدة
والمداعبة والابتسام وكل صور الامومة الحانية، وكانت النتيجة شديدة القسوة، فبينما نمت مجموعة الحب نموا
رائعا، فان المجموعة الاخرى ذبلت وماتت، ماتت بسبب الحرمان العاطفي.
d8add8a8_opt.jpegللحب مصادر متعددة اولها حب الله ورسوله، ذلك الحب الذي يشعر المرء انه ياوي لركن
شديد، وانه اذا ضاقت به السبل يمكنه ان يرفع يديه للسماء داعيا «يا رب»، واذا
كانت الحضارة المادية قد استطاعت ان توفر الكثير من سبل التقدم والرفاهية للانسان فانها عجزت
عن سد ثغرة الخواء الروحي وجعلت الانسان يحيا في ظلها كانه «بينوكيو» او «رجل الصفيح
وخيال الماتة» الذي يشبه البشر تماما الا انه بلا قلب.
المصدر الثاني حب الوالدين وبرهما، ويتضح اثره في الدنيا قبل الاخرة، ثم حب الابناء الذين
هم امتداد المرء ووسيلته للتخلص من الاحساس بقصر الحياة التي سرعان ما يختتمها الموت.. ان
دافع العمل من اجل الاجيال القادمة وتوريثهم خلاصة جهدنا من اهم اسباب الشعور باستمرارية الحياة
والتفاؤل بالمستقبل.
ياتي بعد ذلك حب العائلة الممتدة عندما تجلس وسطهم تشعر انك تنتمي لتلك الفصيلة بالفعل،
فلقد صار عمك شديد الشبه بوالدك- رحمه الله، اما ابن عمتك فهو نسخة منك في
شبابك، تستمتع بنوادر وحكايات العائلة، وتسمع للمرة الالف قصة خالك عندما ضرب «الحرامي» وانبهرت العائلة
بشجاعته ثم اكتشفوا انه صديق اتفق معه على هذه التمثيلية ليتخلص من شهرته بانه يخاف
من خياله، تضحك من قلبك وانت تستعيد التفاصيل من خالتك الصغرى التي تخلت عن لقب
«جميلة العائلة» بعد ان فعل الزمن افاعيله.
حب الوطن والانتماء له مصدر مهم للحب والفخر وتحديد الهوية، في القائمة ايضا الجيران والاصدقاء
والهوايات، واخيرا ياتي حب الزوج او شريك الحياة، ذلك الحب الخاص جدا والذي يستوطن بؤرة
القلب بسهمه المعروف، انه حبيبك ونديم خيالك ونصفك الاخر وبه تكتمل منظومة الحب البشري التي
ترتبط تماما بمعاني السعادة والنجاح والقدرة على العطاء.
تم التركيز على المصدر الاخير فقط واستغلاله تجاريا على نطاق واسع، فاذا اطلق لفظ الحب
كان المقصود منه فقط حب الرجل والمراة، كل الاغاني والافلام والروايات تدور حوله، وتم تدويره
والمبالغة فيه بكل السبل الممكنة واحيانا غير الممكنة ايضا، ومن هنا جاءت ازمة الحب، فصار
هناك من ينفر من كلمة الحب نفسها لما ترتبط به من معان يرفضها وهناك من
يغرق في الحب حتى يهلكه.
والحقيقة ان الشباب الحديث صار اكثر وعيا، وتخلص من بعض المفاهيم الخاطئة التي ارتبطت بالحب
زمنا طويلا، فلم يعد مقبولا فكرة التمسك بشخص معين وحب مستحيل والا كان البديل هو
الموت او الجنون كما في قصص «روميو وجولييت» و«قيس وليلى»، طبعا هناك جاذبية خاصة تجعل
شخصا بعينه مقبولا وغيره مرفوضا، ولكن تلك الجاذبية قابلة للتكرار بدليل ان الكثيرين يتزوجون ويقعون
في الحب مرات عديدة طيلة حياتهم، كما ان فكرة ان الحب يعلو ولا يعلى عليه
ايضا صارت مرفوضة من شباب اليوم المستنير اكثر مما نتصور، لن نجد حاليا «الاميرة انجي»
التي تصر على حب «علي» ابن الجنايني، صار التكافؤ مهما مع جيل جديد عملي جدا.
ولكن الفكرة التجارية التي مازالت مستمرة هي ان الحب بمعنى الغرام هو مصدر السعادة الوحيد
في الحياة، تخبئ الفتاة الصغيرة احلامها في وسادتها وتكبح مشاعرها بين جوانحها وتغذي خيالها بحب
الاغاني والافلام، فاذا تزوجت البست زوجها ثوب فارس الاحلام وخلعت عليه تاج الجزيرة السحري، ومن
هنا تنشا المشكلة.
انها تغرقه بمشاعرها وتتوقع منه اكثر مما يسمح به واقع الحياة اليومية، وبعد فترة العسل
الاولى يصبح ذلك الاهتمام الزائد عبئا على العلاقة الزوجية وحائلا دون نموها وتطورها الطبيعي، ومن
ناحية اخرى فان كل مبالغة في اتجاه يصاحبها تقصير في اتجاهات اخرى، فلن نعطي باقي
مصادر الحب حقها، كما ان فرط الارتباط يحول دون نمو الشخصية المستقلة وتتحول تدريجيا لمجرد
تابع او ظل للزوج، واذا كان هذا يسعد بعض الازواج في البداية الا انه سرعان
ما يشعر بعبء تحمل شخص اخر لا يمكنه السير الا مستندا على عكازه، وتزداد الامور
تعقيدا اذا صادفت الاسرة بعض المتاعب التي تحتاج يدين تدفعان سويا لان يدا واحدة لا
تصفق.
الحب كالشهد الذي يجمعه النحل من كل الزهور الجميلة ثم يضخه عسلا مصفى، وكلما تعددت
مصادره ازدادت حلاوته وتاكدت فائدته، اما الحب من مصدر واحد فهو راكد قليل الفائدة، اذا
لم تكن تحب انشغل بمصادر الحب الاخرى فهي تغذي نفسك وقلبك وعندما تعثر على الحب
مارسه بقانونه الداخلي ولا تهمل باقي مصادره.
كل شيء في الدنيا له قانونه الداخلي الذي يحكمه، والقانون العام هو العدل، بمعنى الاعتدال
والوسطية، حتى الحب، فان مقداره المضبوط هو المطلوب، مقداره المناسب هو توقف قبل التخمة بخطوة
وانشغل احيانا بالمصادر الاخرى ولا تنس ان تنمي شخصيتك وتطورها ثم تعيد الكرة وكانك شخص
جديد.
والزواج كما يعرفونه حاليا هو علاقة بين راشدين يقوم كل منهما بدوره في الحياة على
اكمل وجه ثم يتعاونان فيما بينهما لتحقيق السعادة المتبادلة.
واذا كان للحب معادلة فلن تكون واحد + صفر على الشمال= واحد يحمل العبء كله
ويمل من ذلك الحب المزعوم، ولكنها ستكون واحد + واحد= اثنان ناجحان متعاونان يتنفسان حبا
صحيا.