احلى مواضيع جديدة

كن في الدنيا كعابر سبيل

كن في الدنيا كعابر سبيل 7F487D2A93Bb16E6Eb2B68C593Da8683

كن في الدنيا كعابر سبيل 8273

شرح الحديث الشريف – احاديث متفرقة – الدرس (053 – 127 ) : كن في
الدنيا كانك غريب او عابر سبيل.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الامين، اللهم لا علم
لنا الا ما علمتنا، انك انت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا
وزدنا علما، وارنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وارنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون
القول فيتبعون احسنه، وادخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ايها الاخوة الكرام: النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
((حب الدنيا راس كل خطيئة))
وفي حديث اخر:
((حبك الشيء يعمي ويصم))
موضوع الدنيا اكثر الناس يرون الدنيا بحجم اكبر بكثير من حجمها الحقيقي، فخطؤهم انها غرتهم،
وانهم اعطوها حجما كبيرا، وهي دون ذلك، فاحد اسباب هلاك الانسان ان الدنيا تلتمع امامه،
ويقبل عليها بكل طاقاته على حساب اخرته، وعلى حساب ايمانه، وعلى حساب مصيره الاخير، فلذلك
جزء من ايمان المؤمن ان يعرف حقيقة الدنيا، بل ان حقيقة العلم ان ترى الشيء
على ما هو عليه، ان رايته باكبر ما هو عليه، او اقل مما هو عليه،
فانت لست بعالم، هذا يسميه العلماء الموضوعية، يعني هذا كاس ان رايتها ابريقا فلست عالما،
وان رايتها فنجانا فلست عالما، هذا كاس ماء، اذا فهمت الشيء بحجمه الحقيقي دون مبالغة
او دون تقليل فانت عالم، لذلك قالوا في تعريف العلم: ادراك الشيء على ما هو
عليه، ان ادركته بحجم اكبر مما هو عليه فلست عالما، ان ادركته بحجم اقل مما
هو عليه فلست عالما، نحن مع العلم، نحن مع الواقع، نحن مع النظرة الموضوعية، نحن
مع ان نفهم الشيء بحجمه الحقيقي، لكن الانسان اذا نظر الى الدنيا على انها هي
كل شيء، ونظر الى الدنيا على انها نهاية الامال، ومحط الرحال، ما شعور هذا الانسان
حينما يدنو اجله، وحينما يدرك انه لابد من مفارقة الدنيا ؟ هذا شعور لا يوصف،
شعور الاحباط، شعور المفاجاة، لذلك اخترت لكم في هذا الدرس حديثا من احاديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم الصحيحة، الذي رواه الامام البخاري.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:
((اخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال كن في الدنيا كانك غريب او
عابر سبيل وكان ابن عمر يقول اذا امسيت فلا تنتظر الصباح واذا اصبحت فلا تنتظر
المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك))
[ البخاري، احمد، ابن ماجه، الترمذي ]
ذكرت سابقا ان انسانا اشترى بيت في شقتين، والبيت مكسو، فما اعجبته هذه الكسوة، كسر
البلاط، وكسر الرخام، وقلع الرخام، واعاد كسوة هذين البيتين بطريقة نادرة، وهو صاحب ذوق رفيع،
وبدا يعمل في اكساء هذين البيتين مدة تزيد على سنتين، الى ان اصبح البيتان بشكل
نادر قل مثيلهما بين البيوت.
يروي لي اخ كريم يسكن في البناء نفسه، وهو من اخوتنا لكرام ان هذا البيت
ما ان انتهى، ومضى على انتهائه اسبوع واحد حتى جاءته المنية.
روى لي صديق اخر جاءه انسان يريد شراء غرفة نوم، اقسم بالله انه ذهب واشترى
الخشب، وابقاه عامين كي يصبح جيدا، وصار يزوره كل اسبوع، اشرف على صنع هذه الغرفة
قرابة سنة، قال لي: مرة انبطح تحت التخت ليرى ما اذا كان في رجل السرير
عقدة، ومضى ستة اشهر في البحث عن تزييناتها، وعن مسكاتها فلما اصبحت جاهزة اتصل صاحب
الغرفة بالذي اشتراها ليرسلها له فشعر في البيت ضجة غير طبيعية، ثم علم انه مات،
هناك الاف القصص، هاتان قصتان ارويهما كثيرا، الاف القصص، البيت لم يسكن، والمزرعة لم تدرك،
الشهادة لم تستخدم، الدنيا تغر، وتضر، وتمر.
الحقيقة اقول لكم هذه الكلمة: هناك ملايين الملايين الذين ضحكت عليهم الدنيا، وجعلتهم يركضون خلفها
كالسراب، كانهم حمر مستنفرة، ملايين الملايين ضحكت عليهم الدنيا، تماما كالجزرة التي توضع امام الدابة،
والمسافة بينهما ثابتة، وهذه الدابة تسعى جهدها كي تصل اليها، والمسافة ثابتة، اوحى ربك الى
الدنيا انه من خدمك فاستخدميه، ومن خدمني فاخدميه، لذلك لئلا تضحك علينا الدنيا، لئلا نفاجا
بملك الموت، ونحن صفر اليدين، لئلا نندم ندما لا يوصف، لئلا نقول: يا حسرتي على
ما فرطت في جنب الله، لئلا نقول: يا ليتني قدمت لحياتي، لئلا يعض الظالم على
يديه، يقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، لئلا يقول: ما اغنى عني مالي هلك
عني سلطانيا، خذوه، فغلوه، ثم الجحيم صلوه، لئلا يقع الرجل في هذا المطب الخطير، لئلا
تضحك عليه الدنيا ينبغي ان يضحك عليها هو.
لا تستطيع ان تضحك على الدنيا الا اذا عرفت الله، وعرفت حقيقتها، وتحركت فيها حركة
صحيحة.
فلذلك ايها الاخوة الكرام: الانسان في شبابه مخدر، الناس نيام، لكن متى يستيقظ ؟ في
خريف العمر، اذا جاء مرض عضال، اذا جاء مرض متعلق بعضو خطير، وشعر ان النهاية
قد اقتربت، الذي لم يعد لهذه الساعة عدتها، الذي لم يبال بهذه الساعة تصيبه الام
لا توصف، الام نفسية، فلئلا نفاجا يجب ان نتوقع ساعة الرحيل، اذا توقعنا ساعة الرحيل،
وادخلناها في حساباتنا اليومية، عجيب، تجد الانسان يحسب حسابا لكل شيء، لكل شيء ورقة، احيانا
احتمال احتياجها واحد بالمليون، يقول: احتمال ان نحتاجها، ضعها على السقيفة، وضع اضبارة يحسب، حسابا
لكل شيء، فلماذا اكبر حدث في حياته، واخطر حدث في حياته لا يحسب له حسابا،
لذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((كن في الدنيا كانك غريب او عابر سبيل))
انسان غريب نزل بفندق، لو ان الجلالة فيها خلل يتالم ؟ ليلة واحدها كلها، اذا
كان في القطعة الكهربائية خلل يهتم، يبحث عن مصلح ؟ ليلة واحدة.
(( كن في الدنيا كانك غريب))
ايها الاخوة الكرام: الانسان لا يسعد الا اذا ابتعد عنها، ولا يشقى الا اذا اقترب
منها، يقول عليه الصلاة والسلام:
((ان اسعد الناس بها ارغبهم عنها واشقاهم فيها ارغبهم فيها))
خذ من الدنيا ما شئت، وخذ بقدرها هما، ومن اخذ من الدنيا فوق ما يكفيه
اخذ من حتفه، وهو لا يشعر.
((… وكان ابن عمر يقول اذا امسيت فلا تنتظر الصباح واذا اصبحت فلا تنتظر المساء
وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك))
هذا الحديث محور هذا الدرس، عن ابن عمر قال:
((اخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال يا عبد الله كن في
الدنيا كانك غريب او عابر سبيل واعدد نفسك في الموتى))
هذه رواية اخرى.
احيانا الانسان يستاجر بيتا في المصيف، الاثاث متواضع جدا، الادوات كلها مستعملة، وعتيقة، وفيها خلل،
هو من اسعد الناس، يقول لك: صيفية فقط، مدة شهرين، الانسان اذا شعر ان القضية
مؤقتة يسعد، اما القضية الدائمة اي خلل يزعجه، اي تقصير يؤلمه، اي خطا يكبر عليه،
اما اذا كانت القضية مؤقتة فلا يبالي، انسان استاجر سيارة قلت له: فيها صوت، قال
لي: هي مؤقتة، شهر واحد، اما اذا كانت سيارته فلا يتحمل، يصلحها، مادامت مستاجرة مؤقتة
فلا عليه، راقب نفسك اذا كان البيت مستاجرا، والسيارة مستاجرة، اذا كان البيت في المصيف،
اذا كانت القضية مؤقتة، القضية سريعة فلا مشكلة، مرتاح، اما حينما تشعر ان مكان الاستقرار
دائم وفيه خلل هنا تبدا المتاعب، هذا الحديث الشريف قال عنه العلماء: هذا الحديث اصل
في قصر الامل في الدنيا.
مرة كنت في دائرة حكومية انتظر، والى جانبي شخص جالس يحدث شخصا اخر، قال له:
فلان هلكنا، سيدخل المدفاة الى البيت، لكن اماتنا موتا، قال: لماذا ؟ قال له: منذ
ثلاثة اشهر وهو محتار، يعملها خارجية ام داخلية، اقنعوه بالداخلي اجمل، والخارجي اذا صار فيها
خلل لا يكسر البلاط، قال: بعد ستة اشهر استقر رايه على ان يجعلها داخلية، وبعد
عشرين عاما اذا حصل خلل يجعله خارجيا.
ومن عد غدا من اجله فقد اساء صحبة الموت، وما من انسان جاءته المنية الا
ويخطط لعشرين عاما قادمة، والقصة التي رويتها لكم عشرات المرات، كنت عند مدير ثانوية شكا
لي همه، وقال لي: في العام القادم سيذهب الى بلد عربي استعارة، وسيمضي فيه خمس
سنوات، ولن ياتي الى هذا البلد في هذه السنوات الخمس، سيمضي الصيف الاول في بريطانيا،
والصيف الثاني في فرنسا، والثالث في ايطاليا، والرابع في اسبانيا، قال لي: اريد ان اتملى
منها، اريد ان اعرف الاماكن الاثرية، والمتاحف، والمقاصف، وبعد ان اعود اتقاعد، واشتري محلا تجاريا،
واضع فيه اولادي، واجعله للتحف، لا يتلف، والتموين لا علاقة به، كل شيء حسبه، وحدثني
ساعة، جلست عنده يحدثني عما سيفعله بعد عشرين عاما، وانتهت الجلسة، وذهبت الى صفي، وفي
الظهيرة ذهب الى البيت، وعدت مساء الى العمل في مدرسة خاصة، وفي طريق عودتي الى
البيت، والله الذي لا اله هو وجدت نعيه على الجدران في اليوم نفسه.
لهذا قال عليه الصلاة والسلام:
(( كن في الدنيا كانك غريب او عابر سبيل واعدد نفسك في الموتى))
كبرها تكبر، صغرها تصغر، لما يرى الانسان انه غريب او عابر سبيل كل شيء يرضيه
في الدنيا، اما اذا راها مديدة فلا يرضيه شيء، كل شيء يزعجه، يقول لك: لا
حظ لي، ما وفقنا في هذا البيت، ما وفقنا في هذه الزوجة، اولادي ليس كما
اشتهي ابدا، دائما يشكو، اما اذا راى الدنيا سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، يرضيه فيها كل
شيء، ماذا قال مؤمن ال فرعون ؟
﴿وان الاخرة هي دار القرار﴾
[ سورة غافر: 39]
هذه دار ممر، اما المقر ففي الاخرة، عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال:
((ما لي وللدنيا انما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم
صائف ثم راح وتركها))
[ احمد ]
كلما رايت واحدا توفي فهو صفحة طويت، صار خبرا، كان شخصا له بيت، له اولاد،
له غرفته الخاصة، خزانته الخاصة، مقتنياته الخاصة، مفاتيح مركبته، مسطر دفاتره، مذكراته، فلما انتهى اجله
صار خبرا، الانسان في اول ليلة يموت فيها الانسان يقول الله عز وجل: “عبدي رجعوا
وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك الا انا، وانا
الحي الذي لا يموت “.
حينما يموت الانسان، حينما يخرج من بيته افقيا، والانسان طوال حياته يدخل قائما، ويخرج قائما،
الا في مرة واحدة، وهذه لابد منها، وياتي على بيت الله كثيرا مؤمن طالب علم
كل يوم خمس صلوات، لابد من ان يدخل المسجد مرة افقيا لا ليصلي، بل ليصلى
عليه، هذه حقائق.
عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((ما لي وللدنيا انما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم
صائف ثم راح وتركها))
من وصايا السيد المسيح لاصحابه قال:
((اعبروها ولا تعمروها))
وروي عنه ايضا انه قال:
((من ذا الذي يبني على موج البحر دارا، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارا ))
ما تستقر، فيها مفاجات، وتغيرات، دخل رجل على بيت ابي ذر الغفاري فجعل يقلب بصره
في البيت، فقال: يا ابا ذر اين متاعكم ؟ اين الاثاث والغرف ؟ فقال: انا
لنا بيتا نتوجه اليه، فقال: انه لا بد لك من متاع مادمت هاهنا، قال: ان
صاحب المنزل لا يدعنا هنا، قصد انه لابد من الخروج.
دخلوا على بعض الصالحين فقلبوا بصرهم فيه فقالوا: انا نرى بيتك بيت رجل مرتحل كانه
ماش منقول، فقال: لا ارتحل، ولكن اطرد طردا.
المرتحل باختياره، لكن هنا طرد، سيدنا علي يقول:
((ان الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وان الاخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منها بنون، فكونوا من
ابناء الاخرة، ولا تكونوا من ابناء الدنيا))
تشعر احيانا بشخص ان الدنيا متغلغلة الى اعمق اعمق نفسه، صباحه مساؤه، ليله نهاره، مناماته
خواطره، مزحه لقاءاته، حتى في النزهة يتكلم على تجارته، هذه متغلغلة الى اعمق اعماقه.
فكونوا من ابناء الاخرة، ولا تكونوا من ابناء الدنيا، فان اليوم عمل ولا حساب، وغدا
حساب ولا عمل.
بعض الحكماء قال: عجبت من الدنيا مولية عنه، والاخرة مقبلة اليه، مثلا هنا ولادته، وهنا
وفاته، وهو يتقدم يبتعد عن ميلاده، ويقترب من وفاته، ما معنى ذلك ؟ ان الدنيا
مدبرة عنه، قال لي اخ كريم: سبحان الله ! انا منذ اربعين سنة انشط من
الان، طبعا الانسان الشاب يصعد كل خمس درجات، بعد هذا اثنتين اثنتين، بعد ذلك واحدة
واحدة، ثم يصعد، ويقف بالتسلسل، لاحظ الشاب والمتقدم بالسن، يقول سيدنا علي:
((فكونوا من ابناء الاخرة، ولا تكونوا من ابناء الدنيا، فان اليوم عمل ولا حساب، وغدا
حساب ولا عمل))
عجبت من الدنيا مولية عنه، والاخرة مقبلة اليه، يشتغل بالمدبرة، وينسى المقبلة، والله شيء كبير
هذه الدنيا التي تدبر عنك وانت متعلق بها، والاخرة التي هي مقبلة اليك تعرض عنها،
سيدنا عمر بن عبد العزيز يقول في خطبة: “ان الدنيا ليست دار قرار، كم كتب
الله فيها الفناء، وكتب الله على اهلها منهم الظعن، فكم من عامر عن قليل سيرتحل،
وكم من مقيم مغتبط عما قليل سيظعن، احسنوا رحمكم الله منها الرحلة باحسن ما بحضرتكم
من النقلة
يعني احسن هذه الرحلة خذ منها الى الدار الاخرة، وتزودوا، فان خير الزاد التقوى.
الفضيل بن عياض يقول:
((من علامة صدق المؤمن انه في الدنيا مهموم حزين ))
مهموم يخشى الا يكون قد انتفع من الدنيا، انتفع منها للاخرة، لا ترضيه الدنيا، ولكن
يرضيه ان ينتفع منها لاخرته.
كلمة رائعة جدا للامام الحسن قال:
((المؤمن كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها))
لو تحمل متاعب في سبيل الله يرضى بذلك، اما مناصبها الرفيعة، اموالها الطائلة، بساتينها الغناء،
مركباتها الفارهة فلا ينافس فيها.
المؤمن كالغريب، لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شان، وللناس شان اخر،
هو بواد، وهم بواد، هو بواد معرفة الله، بواد العمل للاخرة، لا يتالم، المؤمن كالغريب،
لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شانه، وللناس شان اخر.
هناك انسان استنبط استنباطا لطيفا، قال: لما الله خلق ادم عليه السلام اسكنه هو وزوجته
الجنة، ثم هبطا منها، ووعدا بالرجوع اليها، وصالحي ذريتهما، فالمؤمن ابدا يحن الى وطنه الاول.

الانسان يولد بقرية، وسكن في الشام مثلا، في بيت فخم بارقى احياء دمشق، فيه كل
وسائل الرفاه والراحة، حينما ياتي العيد لا يتمنى الا ان يعود الى قريته مسقط راسه،
فمن علامة المؤمن انه يحن الى الجنة، موطنه الاول، استنباط لطيف.
كان بعض العلماء يقول في دعائه: اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في القبر، وحشتي،
وارحم موقفي غدا بين يديك.
ارحم في الدنيا غربتي، انت غريب في الدنيا، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غدا
بين يديك.
الانسان لا يبتعد، يدخل الى غرفة فارهة في بيت، ويقفل الضوء، كم ساعة يتحمل ؟
اين يجلس ؟ يا جماعة اذا ما كان اهله معه على الطعام يغضب، هذا القبر،
بل على اسوء، القبر هنا فيه سرير، اطفئ المصباح، وارتج الباب، واجلس، القبر اسوء على
التراب.
مرة حضرت دفن اخ كريم انا اعرفه في الدنيا جيدا، رجل انيق اناقة تفوق حد
الخيال، نظيف، موسوس، بعد ان وضع في القبر وضعت البلاطة، البلاطة اصغر من الفتحة بكثير،
يعني هناك مسافة عشرة سنتمترات فرق، جاء الحفار بعد ما انتهى من الدفن وضع البلاطة
جرف التراب بالمجرفة، نزل فوقه خمسة كيلو من التراب، كان في الدنيا انيقا..
اعقل انسان هو الذي يسعى الى هذه الساعة التي لابد منها، اعقل انسان ليس هناك
شيء واقعي وحتمي عنده كالموت، ما نجا منه مخلوق حتى الانبياء، النبي صلى الله عليه
وسلم قال:
((سبحان الله ان للموت لسكرات))
النبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق ما نجا الصحابة، ما نجوا، استغفروا لاخيكم، انه
الان يسال، هناك قصص لا اساس لها من الصحة، ان واحدا له شيخ، لما دفن
وجاء الملكان ليسالاه تلقيا رفسة من شيخه، قيل لهم: امثل هذا يسال ؟ هذا من
جماعتي.
هذه القصص كلها غير صحيحة، كلها كذب بكذب، النبي صلى الله عليه وسلم حينما دفن
سيدنا سعد، مشى على رؤوس اصابعه، وقال:
((استغفروا لاخيكم فانه الان يسال))
وقال:
((سبحان الله ان للموت لسكرات))
ما من حدث واقعي واقعي، قلها مئة مرة، وهو ات لا محالة، سالت طبيبا اذا
نفد انسان من الفشل الكلوي، ومن ضيق الشريان التاجي، ومن ارتفاع الضغط، ونفد من… كيف
يموت ؟ قال لي: بتصلب الشرايين، هذا اخر واحد نفد من القلب، وما حدث معه
جلطة، ولا انفجار بالدماغ، ولا سكتة دماغية، نفد من كل الامراض، ولا بالعظام، ولا بالعضلات،
ولا ورم خبيث، كيف يموت ؟ قال لي: بتصلب الشرايين، تنشف الشرايين، والنبي ماذا قال
؟
((لكل داء دواء الا الهرم))
هناك انسان ما ركب طائرة في حياته كلها، ياكل يوما الدجاج، ويوما السمك، مساء فواكه،
وصباحا وجبات خفيفة جدا، ورياضة، ومشي، وخاف ان يركب الطائرة لئلا تحترق في الجو، وعاش
حياة هنيئة، وما من انسان فيما اعلم يعتني بصحته مثله، ومع ذلك مات في الاخير.

قال يحيى بن معاذ الرازي: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يفق الا في
عسكر الموت نادما مع الخاسرين.
احيانا تجد الانسان سكران في حب الدنيا، اذا قلت له كلمة عن الله تراه ضاق،
وتكلم له في الدنيا يجلس معك عشر ساعات، نسي ماذا قال لك، اعتذر، وعنده موعد،
تكلمت بالاسعار، الدولار نازل، الان شراء ممتاز، تكلم في العملات، جلس معك ساعة ساعتين ثلاثا،
تكلم عن الله صار عنده موعد، او يتثاءب حتى يكرهك ان تتكلم.
الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يفق الا في عسكر الموت نادما مع الخاسرين.

قيل لمحمد بن واسع: كيف اصبحت ؟ فقال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة
الى الاخرة.
لو فرضنا انسانا واقفا على شريط في ادراج متحركة في المطارات، والدرج يمشي، ويقف، تصور
انك واقف على شريط متحرك، كل يوم ينقلك نقلة، مضى يوم العمر، قصر يوم النهاية،
فالحركة تقرب، كيف اصبحت ؟ فقال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة الى الاخرة،
دفع دفعة.
سيدنا الحسن يقول: قول معروف عندكم انما انت ايام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك.

وقال بعضهم: ابن ادم، انما انت بين راحلتين مطيتين يضعانك، هما الليل والنهار، الليل ينقلك
الى النهار، والنهار ينقلك الى الليل، حتى يسلمانك الى الاخرة، الليل اليوم ستة عشر في
الشهر مضى اليوم، جاء الليل، صار سبعة عشر، كل يوم مرحلة حتى يسلمانك الى الاخرة.

قال بعض السلف: يخيل لك انك مقيم، بل انت دائم السير، تساق سوقا حثيثا الى
الموت.
انسان قضى كل حياته يجمع المال، حتى اشترى البيت، الان السفارة الكويتية نفسها كانت اجمل
بيت مشرف على الشام كلها، امامه غوطة غناء، شرفة فخمة، بشكل بيضوي، بعد ما سكن
في البيت، يقال: انه كان يعيش في بيت قبو اربعين سنة جمع المال حتى اشترى
هذا البيت، ويوم اشتراه، وفرشه جلس على الشرفة قال هذه الكلمة بالحرف الواحد: الان امنا
مستقبلنا، ثلاثة ايام بعدها مات.
يروون قصة طرفة عن انسان ضاقت به الدنيا كثيرا، فاتخذ قرارا ان ينتحر، قصة رمزية،
ما لها اصل، فجاءه ملك الموت قال له: لماذا تنتحر ؟ قال: من ضيق ذات
يدي، لا يوجد شيء اكله، قال: انا ادلك على طريقة ترتزق بها، قال: ما هي
؟ قال: اعمل طبيبا، الان هناك شهادات منذ القديم، ما كانت الشهادات، فاذا دخلت على
مريض، ورايتني امام راسه فاياك ان تعالجه، اهرب من البيت، هذا سيموت، وان رايتني امام
قدميه، فعالجه صف له ما شئت، فسوف يشفى، فهذا اخذ التعليمات، وجاء بمحفظة، ووضع بها
قارورات فيها سائل ابيض واحمر واصفر واخضر، ان وجد ملك الموت عند ارجل المريض يقول
له: خذ ثلاث نقاط بيض، واثنتين صفر، واثنتين قبل الطعام، واثنتين بعد الطعام، يعصدها عليه،
يكتب، يخطط، يستعمل الدواء، يطيب، اسمه راج جدا حتى مرضت بنت الملك جاء فوجد الملك
يقف عند رجليها، اعطاها التعليمات، فطابت، وكان مرضها خطيرا، فلما شفاها الله عز وجل الملك
لشدة فرحه قرر ان يزوجه هذه الفتاة، صار زوج بنت الملك، وطبعا جاءته الدنيا من
اوسع ابوابها، عز، وجاه، وملك، ومال، ليلة عرسه جاء ملك الموت اليه، وقال تشرف، فقال
له: كنت اخذني وقتها اهون بكثير، قال الان.
قد يسقط الانسان من عل، قد يخيل للانسان انه مقيم، بل هو دائم السير، يساق
مع ذلك سوقا حثيثا الى الموت.
قال بعض الحكماء: كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، الايام تاكل الشهر وشهره يهدم
سنته كل شهر يهدم جزءا من العام، ثم عام جديد، فالايام تهدم الاسابيع، والاشهر تاكل
السنوات.
كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، كيف يفرح
بالدنيا من يقوده عمره الى اجله، وتقوده حياته الى موته.
احد الاشخاص دعا دعاء، لكنه دعاء لطيف، قال: اللهم خذ بيدي اليك حينما ياخذ الناس
بيدي، اذا احتاج من يمسكه، المؤمن غال على الله، يموت بعز، قال لي اخ: والدتي
مربوطة، قلت: لماذا ؟ قال: تاكل من نجسها، نربط يديها، وتخلع ثيابها امام الناس، قال:
انه شيء لا يوصف، يدعو لها في كل صلاة ان يخفف عنها، احيانا الانسان يتمنى
الموت فلا يجده، تاتي بعض الحالات على الانسان اعظم شيء ان يموت، واحيانا يعاقب بتاخير
الموت، كيف ان الناس يخافون من الموت، وفي حالات صعبة جدا يعاقب بتاخير الموت.
والفضيل قال: كم اتت عليك ؟ قال ستون سنة، قال: فانت منذ ستين سنة تسير
الى ربك.
انسان زار مريضا معه مرض صعب قال له: كيف صحتك ؟ قال: الحمد لله، قال:
ماذا معك ؟ قال المرض الفلاني، قال له: حاجتك، من باب المزاح.
ولكن هذه حقيقة اذا وصل انسان الى الستين، النبي ماذا قال ؟ معترك المنايا بين
الستين والسبعين، من دخل في الاربعين دخل في اسواق الاخرة.
الانسان اذا ذهب الى نزهة ستة ايام، سبت، احد، اثنين..، الاربعاء يفكر في العودة، الاربعاء
التفكير في قطع بطاقات العودة، تحضير الاغراض، شراء الهدايا، اخر ثلث الرحلة تفكر بالعودة، قال
رجل للاخر: هل تعلم ما معنى قوله تعالى:
﴿انا لله وانا اليه راجعون﴾
[ سورة البقرة: 156]
قال من عرف انه لله عبده، انا لله، نحن في ملكه، ومن علم انه موقوف
فليعلم انه مسؤول، ومن علم انه مسؤول فليعد للسؤال جوابا، انت لله، اذا عليك ان
تعبده، مادمت راجعا اليه فاعلم انك موقوف بين يديه، وما دمت موقوفا بين يديه فاعلم
انك مسؤول، ما دمت مسؤولا فاعد الجواب لهذا السؤال، لذلك انا اقول دائما لاخواننا: البطل
الذي يهيئ جوابا لاي موقف يفعله لله الجواب.
قال لي موظف: انصحني، هو تموين، الان التموين خف اما في ايام خلت كان شديدا
جدا يستطيع ان يفعل مشاكل كبيرة، قال لي: انصحني، قلت له: اكتب ضبوطا كثيرة قال:
هذه النصيحة ؟ قلت له: كما اقول لك، ضع الناس في السجن على قدر ما
تستطيع، وافعل ما شئت، اذا كنت بطلا هيئ لله جوابا عن كل ضبط تكتبه لله،
وليس لعبد الله، اذا كنت بطلا.
ان كنت لله فاعبده، وان ايقنت انك راجع اليه انت موقوف بين يديه، وان وقفت
بين يديه فلا بد من ان يسالك، وان سالك فاعد الجواب، فقال:ما الحيلة قال:يسيرة سهلة،
قال وما هي ؟ دققوا في الجواب قال:تحسن فيما بقي يغفر الله لك ما مضى.

الان تبت، اذا تبت توبة نصوحا احسنت فيما بقي غفر الله لك ما مضى، فانك
ان اسات فيما بقي اخذت بما مضى، وما بقي اذا تبت الى الله، واحسنت فيما
بقي غفر الله لك ما مضى، اما اذا اسات فيما بقي اخذك الله بما بقي
وما مضى.
الامام الاوزاعي مدفون في لبنان من كبار الامة كتب الى اخ له رسالة، قال له:اما
بعد، فقد احيط بك من كل جانب، واعلم انه يسار بك في كل يوم وليلة،
فاحذر الله، والمقام بين يديه، وان يكون اخر عهدك به والسلام.
سئل احد العلماء:كيف اكون زاهدا في الدنيا ؟ فقال:بقصر الامل، ان اصبحت يجب ان تعتقد
انك لا تمسي.
سمعت قصة نائم الى جانب زوجته من دون ان تنتبه مست يده وجدتها باردة، فقامت
مذعورة فاذا هو ميت، فقال بقصر الامل، ان اصبحت يجب ان تعتقد انك لا تمسي.

اجتمع ثلاثة اشخاص، فقالوا لاحدهم:ما املك في الدنيا ؟ قال:والله ما اتى علي شهر الا
ظننت اني ساموت فيه، فقال:صاحباه ان هذا هو الامل، شهر، فقالا لاحدهم:ما املك انت، قال:والله
ما اتت علي جمعة الا ظننت انني ساموت فيها، فقالا صاحباه:ان هذا هو الامل، جمعة،
فقالا للاخر:ما املك انت قال:ما امل من نفسه في يد غيره، لا اريد شيئا.
انا اسمع كل اسبوع تقريبا قصة لا يشكو من شيء، ما من مقدمة، ما من
مرض ثابت، ما من قصة بالمرض، فجاة فارق الحياة.
قال بعض السلف: ما نمت نوما قط فحدثت نفسي اني استيقظ منه، لذلك الدعاء:اللهم ان
امسكت نفسي فارحمها، وان ارسلتها فاحفظها، معنى هذا ممكن لا يستيقظ انسان.
احد الصالحين اذا اراد النوم يقول لاهله:استودعكم الله، فلعلها ان تكون اخر ليلة، سامحونا، قبل
ان ينام كل ليلة.
وقال بعض العلماء:ان استطاع احدكم الا يبيت وعهده عند راسه فليفعل، شيء ليس له منزل
باسمه، وهو ليس له في شراكة اموال استثمار، وضعهم مع انسان.
اويس القرني من التابعين سئل كيف الزمان عليك ؟ قال:كيف الزمان على رجل ان امسى
ظن انه لا يصبح، وان اصبح ظن انه لا يمسي، فمبشر بالجنة او بالنار.
وقال بعضهم: ما انزل الموت كره منزلته من عد غدا من اجله، الذي يعد ان
غدا ساعيشه، وسافعل غدا كذا، وكذا، هذا ما عرف حقيقة الموت.
امراة متعبدة بمكة اذا امست قالت:يا نفس الليلة ليلتك لا ليلة لك غيرها، فاجتهدت، واذا
اصبحت قالت:يا نفس اليوم يومك، لا يوم لك غيره، فاجتهدت.
ماذا قال احد الصحابة ؟ والله لو علمت ان غدا اجلي ما قدرت ان ازيد
في عملي، من شدة اقباله على الله، وعمله الصالح واستنفاره.
قال بعض العارفين:اذا اردت ان تنفعك صلاتك فقل لعلي لا اصلي غيرها، وهذا ماخوذ من
قول النبي صلى الله عليه وسلم:
((صل صلاة مودع ))
اذا اردت ان تنتفع بصلاتك قبل ان تنوي الصلاة قل لعلي لا اصلي غير هذه
الصلاة، يعني صل صلاة مودع.
طرق شخص باب صديقه، قيل له:ليس في البيت، قال:متى يرجع، فقالت له جارية في البيت،
بنت صغيرة:من كانت نفسه بيد غيره هل يعلم متى يرجع.
اخر حديث قبل ان ننهي الدرس:
عن ابي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((بادروا بالاعمال سبعا هل تنتظرون الا فقرا منسيا او غنى مطغيا او مرضا مفسدا او
هرما مفندا او موتا مجهزا او الدجال فشر غائب ينتظر او الساعة فالساعة ادهى وامر
))
[ احمد، الترمذي ]
الانسان اذا ترك طريق الدين، وترك طريق الاخرة لابد ان ينتظره احد هذه السبعة، غنى
مطغ، مرض مفسد، فقر منس، هرم مفند، موت مجهز، الدجال، الساعة.

  • حديث الرسول كن في الدنيا
  • كن في الدنيا كمسافر
  • كُنْ في الدُّنْيا كأَنَّكَ غريبٌ، أَوْ عَابِرُ سبيلٍ
  • صورة كن في الدنيا كمسافر
السابق
خلفيات قران
التالي
الحيرة بين القلب والعقل