ع نهاية كل عام هجري وبداية عام هجري جديد، ينبغي لكل منا ان يتدبر في
امره، ويسارع الى محاسبة نفسه، شرط ان يخرج منها بخطط واقعية وخطوات عملية، يسعى من
خلالها الى احسان عمله، لتحسن خاتمته وترتفع درجاته في الاخرة.. فما الوقفات التي ينبغي الوقوف
عليها مع بداية العام الهجري؟ وكيف نستقبل عاما جديدا؟
ن من فضل الله علينا ان امهلنا لعام اخر، واملى لنا كي نرجع اليه، فنحن
نودع اليوم عاما، ونستقبل اخر، نودع عاما بحسناته وسيئاته، بتقصيرنا وتفريطنا، بخيرنا وشرنا، ونستقبل عاما
ينادينا.. يا ابن ادم، انا عام جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فاني لا اعود الى
يوم القيامة.
ان التاجر الناصح هو الذي يعد دراسة شاملة في بداية صفقته، ويعد كشف حساب في
نهايتها؛ ليرى اين مواطن قوته وربحه، واين مواطن ضعفه وخسارته، هذا في امر الدنيا.. اما
في امر الاخرة فاننا نحتاج الى محاسبة للنفس قبل الحساب…
في ذلك اليوم العصيب الذي {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما ارضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى
وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}[الحج: 2].
في ذلك اليوم الذي يشيب فيه الوليد، ويصيح فيه اطهر الناس، وهم الرسل والانبياء (يا
رب سلم، يا رب سلم).
في ذلك اليوم الذي تنطق فيه الارض {يومئذ تحدث اخبارها}[الزلزلة: 4].
في ذلك اليوم الذي يحشر الناس فيه عراة حفاة غرلا على صعيد واحد، في ذلك
اليوم تتنزل فيه الشمس على قدر ميل من الرءوس، حتى يعرق الناس فيبلغ عرقهم في
الارض سبعين ذراعا، ويلجمهم حتى يبلغ اذانهم.
في ذلك اليوم يحاسب الناس على ما قدموه في الدنيا، وما طبقوا من الهدف الذي
خلقوا من اجله، يحاسبون حسابا دقيقا لا يخطر على بال الانسان، فيقول عندما يرى كتابه
ملئ بما لا يتوقع {مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها}[الكهف: 49]، حتى الذرة يسال عنها {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره*ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}[الزلزلة: 7، 8].
مما يحاسب عليه الانسان يوم القيامة سؤاله عن اربع، كما روى الترمذي -وصححه الالباني- ان
النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسال عن اربع: عن عمره فيما افناه، وعن
علمه ما عمل به، وعن ماله من اين اكتسبه وفيما انفقه، وعن جسمه فيما ابلاه
“.
وان اول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، كما روى ابو داود في الحديث
الصحيح انه صلى الله عليه وسلم قال: “ان اول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من اعمالهم الصلاة، يقول ربنا لملائكته: انظروا
في صلاة عبدي، اتمها ام نقصها؟ فان كانت تامة كتبت له تامة، وان كان انتقص
منها شيئا قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فان كان له تطوع، اتموا لعبدي فريضته
من تطوعه. ثم تؤخذ الاعمال على ذلك“.
وتشهد الجوارح والجلود على صاحبها وهي تعلن قائلة: {انطقنا الله الذي انطق كل شيء}[فصلت: 21].
فمن اراد ان ينجو من هذا الخزي والسؤال يوم القيامة، فليحاسب نفسه في الدنيا قبل
حسابها في الاخرة، ذلك ما ذكرنا به الله -سبحانه وتعالى- عندما قال: {يا ايها الذين امنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد}[الحشر: 18].
وها هو ذا الفاروق -رضي الله عنه- يفهم هذه الاية فهما دقيقا ويقول لرعيته: (حاسبوا
انفسكم قبل ان تحاسبوا، وزنوا انفسكم قبل ان توزنوا، وتزينوا للعرض الاكبر).
هكذا كان داب الصحابة جميعا -رضي الله عنهم- لشدة خوفهم من السؤال يوم القيامة، يقول
عامر بن عبد الله رضي الله عنه: (رايت نفرا من اصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم وصحبتهم، فحدثونا ان احسن الناس ايمانا يوم القيامة اكثرهم محاسبة لنفسه).
وجاء جيل التابعين ليكرر ما فعله الرعيل الاول…
فهذا الحسن البصري: يبكي في الليل حتى يبكي جيرانه، فياتي احدهم اليه في الغداة يقول
له: لقد ابكيت الليلة اهلنا. فيقول له: (اني قلت: يا حسن، لعل الله نظر الى
بعض هناتك فقال: اعمل ما شئت فلست اقبل منك شيئا).
بهذا الحس كانوا يعيشون، وبهذا العمق الايماني كانوا يهنئون، عرفوا ما يريد منهم ربهم، فكانوا
مصاحف متحركة، وكان الواحد منهم الفا منا ويزيد، فاذا اردنا ان يعاد لنا المجد والسؤدد،
فلا مناص من اقتفاء اثارهم، فهل نحن فاعلون؟!.. هذه هي الوقفة الاولى.
الوقفة الثانية: الى متى الغفلة ؟!
حتى متى نظل في غفلة.. حتى متى تظل القلوب بالدنيا متعلقة.. اما ان لك يا
نفس من عودة.. لا بد ايها الاحبة من توبة واوبة وعودة.
– لا تقنط من رحمة الله، فانت لست اسوا من قاتل التسعة والتسعين نفسا.
– لا تقنط فلست اسوا من الزاني، لست اسوا من المتكبرين، لست من المشركين الذين
يدعون مع الله الها اخر.
– الحبيب يقسم برحمة الله بك ايها العاصي.. عن ابى هريرة -رضي الله عنه- عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ثم لجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون
فيغفر لهم“[1].
– والمراد بهذا: ان لله تعالى حكمة في القاء الغفلة على قلوب عباده احيانا، حتى
تقع منهم بعض الذنوب، فانه لو استمرت لهم اليقظة التي يكونون عليها في حال سماع
الذكر لما وقع منهم ذنب، وفي ايقاعهم في الذنوب احيانا فائدتان عظيمتان:
احداهما: اعتراف المذنبين بذنوبهم، وتقصيرهم في حق مولاهم، وتنكيس رءوس عجبهم، وهذا احب الى الله
من فعل كثير من الطاعات، فان دوام الطاعات قد توجب لصاحبها العجب، وفي الحديث الذي
حسنه البيهقي، عن انس -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “
لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو اشد من ذلك العجب“.
– قال الحسن: لو ان ابن ادم كلما قال اصاب، وكلما عمل احسن، اوشك ان
يجن من العجب.
– وقال بعضهم: ذنب افتقر به اليه احب الي من طاعة ادل بها عليه، انين
المذنبين احب اليه من زجل المسبحين؛ لان زجل المسبحين ربما شابه الافتخار، وانين المذنبين يزينه
الانكسار والافتقار.
– وقال الحسن: ان العبد ليعمل الذنب فلا ينساه، ولا يزال متخوفا منه حتى يدخل
الجنة.
الفائدة الثانية: حصول المغفرة والعفو من الله لعبده، فان الله يحب ان يعفو ويغفر، ومن
اسمائه الغفار والعفو والتواب، فلو عصم الخلق فلمن كان العفو والمغفرة.
– قال بعض السلف: اول ما خلق الله القلم كتب اني انا التواب, اتوب على
من تاب.
– قال يحيى بن معاذ: لو لم يكن العفو احب الاشياء اليه لم يبتل بالذنب
اكرم الخلق عليه.
يا ربي انت رجائي *** وفيك حسنت ظني
يا رب فاغفر ذنوبي *** وعافني واعف عني
العفو منك الهي *** والذنب قد جاء مني
والظن فيك جميل *** حقق بحقك ظني
اسرق نفسك من الذنوب والمعاصي:
جاء لص ليسرق دار مالك بن دينار، فدخل البيت في جوف الليل، وكان مالك يصلي،
وتسلل يبحث عن شيء يسرقه، فلم يجد شيئا يسرقه، فاراد ان يخرج كما دخل، فناداه
مالك: تخرج هكذا كما دخلت؟ اتحسن الوضوء؟ فقال: نعم. ووضع له ليتوضا، ووقف الرجل يصلي
حتى اذن لصلاة الفجر، وخرج وقد تاب، فسئل عن سر ذلك، فقال: جئت لاسرقه فسرقني.
الوقفة الثالثة: مع شهر الله المحرم
هو خير الاشهر.. عن ابي ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال: سالت النبي صلى الله
عليه وسلم: اي الليل خير؟ واي الاشهر افضل؟ فقال: “خير الليل جوفه، وافضل الاشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم“[2].
ومن فضله رغب النبي في صيامه، فقال: “افضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم“.
– وعن قتادة: ان الفجر الذي اقسم الله به في اول سورة الفجر، هو فجر
اول يوم من المحرم تنفجر منه السنة.
– ولما كانت الاشهر الحرم افضل الاشهر بعد رمضان او مطلقا، وكان صيامها كلها مندوبا
اليه كما دلنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم ختام السنة الهلالية، وبعضهم
مفتاحا لها، فمن صام شهر ذي الحجة -سوى الايام المحرم صيامها منه- وصام المحرم فقد
ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة.. فيرجى ان تكتب له السنة كلها طاعة، فان من كان
اول عمله طاعة، واخره طاعة، فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين.
– قال ابن المبارك: (من ختم نهاره بذكر كتب نهاره كله ذكرا). يشير هذا القول
الى ان الاعمال بالخواتيم، فان كان البداءة والختام ذكرا فهو اولى ان يكون حكم الذكر
شاملا للجميع، ويتعين افتتاح العام بتوبة نصوح تمحو ما سلف من الذنوب السالفة في الايام
الخالية.
شهر الحرام مبارك ميمون *** والصوم فيه مضاعف مسنون
وثواب صائمه لوجه الهه *** في الخلد عنه مليكه مخزون
فاللهم اختم لنا عاما مضى بالقبول والغفران، واجعل عامنا هذا عام فتح ونصر وطاعة.. يا
رب العالمين.