يوصف عصرنا بانه عصر المعلومات ولكنه قلما يوصف بانه عصر المعرفة. وهناك فرق بين المعلومات
والمعرفة، فرق كبير ويحتاج الى تامل.
المعلومات المتيسرة في عصرنا من الكثرة والتنوع والانتشار بحيث لا نحتاج الى تبرير الاشارة اليها
بوصفها سمة للعصر وعلامة كبرى من علامات الحضارة المعاصرة. وحين اخذت الانترنت في الانتشار مع
ثمانينات القرن الماضي كانت المعلومات هي بضاعة الشبكة العالمية ومادتها الرئيسة. لكن سرعان ما تبين
ان تلك المعلومات انما هي امشاج يختلط فيها الصواب بالخطا والمهم بغير المهم والعميق بالسطحي،
الى غير ذلك من متغيرات الثقافة الانسانية. فالواحد منا يتجه الى الصحيفة او الكتاب او
الموسوعة او غير ذلك من مصادر المعلومة فيجد منها الوانا واحجاما واقدارا متفاوتة. وقد يتجه
الى تلك عبر الانترنت او يتجه الى مصادر معلوماتية اختصت بها الانترنت وتطورت معها مثل
محركات البحث المختلفة وعلى راسها “غوغل” حيث يمثل امامنا ما يمكن ان يعد اكبر معين
للمعلومات في عالمنا المعاصر. ندخل في اي من تلك فتاتي الخيارات بالعشرات او المئات او
الالوف او حتى الملايين، خليط هائل من المعلومات التي هي في نهاية المطاف اجتهادات الناس
على اختلافهم حيث يختلط الصالح بالطالح ويجد المرء نفسه حائرا امام ذلك الركام المعلوماتي يحاول
سبر صحته من خطئه وقوته من ضعفه.
ما يميز عصرنا ليس صحة المعلومة وانما كثرتها وسهولة انتشارها. المعلومات منتج انساني رافق وجود
الانسان منذ البدء وعلى مر العصور واختلاف المجتمعات والثقافات. لقد ظلت المعلومات تنتج وتتداول حسب
متغيرات اقتصادية وسياسية وثقافية كثيرة ومعقدة. ذلك الانتاج والتداول كانا دائما نسبيين، فلم يكن هناك
عصر دون معلومات ووسائل انتشار توصلها الى اماكن مختلفة. المعلومات التي تيسرت للصينيين قبل ما
يقارب السبعة الاف عام او لليونانيين قبل اربعة الاف او للعرب والمسلمين قبل الف عام
تزيد او تنقص تناسبت مع اوضاعهم المختلفة، لكن عصورهم كانت كلها عصور معلومات والا لما
استطاعوا ان يعيشوا اصلا ناهيك عن ان ينتجوا علوما ومعارف وحضارات. ومما يؤكد التحيز الواضح
في وصف عصرنا بانه عصر المعلومات ليس توفر تلك المعلومات في الماضي وحده وانما ما
يتوقع توفره منها في المستقبل ايضا حيث المتوقع ان يزداد حجم المتوفر من المعلومات وتتطور
اساليب تداولها ويسر الحصول عليها على نحو لم نعهده وقد يصعب تصوره. فاذا وصفنا عصرنا
بانه عصر المعلومات، فماذا سنسمي العصور التالية؟
لكن لعل الاهم من هذا كله هو ان المعلومة ليست المعرفة، بل انها لا تفضي
بالضرورة اليها، اي لا تتطور لتصير معرفة. المعرفة شيء اخر قد تتطور اليه المعلومات وقد
لا تتطور. ويعني هذا ان المعلومة اكثر اساسية من المعرفة، لكنها ليست اكثر اهمية منها.
بلا معلومة يستحيل تصور المعرفة، ولكن بلا معرفة يمكن تصور المعلومة. وبصياغة اخرى قد توجد
المعلومة ولا توجد المعرفة، لكن المعرفة غير قابلة للوجود بلا معلومة. نحن ازاء عملية تخلق
او بناء. المعلومات مداميك او لبنات، لا يمكن للبناء ان يقوم بدونها. لكن البناء ليس
اللبنات وانما هو المجموع او الكل الذي تتطور اليه وتؤدي بذلك وظيفة مختلفة او دلالة
مختلفة ايضا. المعلومات كلمات، والمعرفة جمل او نصوص.
لنتخيل المثال التالي: لو قلنا ان الانترنت بدات في امريكا، او ان القطار اخترع في
بريطانيا او ان الجاحظ الف كتاب الحيوان، فاننا نقدم معلومات ليس الا. لكن لو اضفنا
ان الانترنت هي حصيلة تطور علمي وصناعي كان من مراحله المهمة اختراع القطار، او ان
كتاب الجاحظ كان حصيلة تطور معلوماتي ومعرفي في الثقافة العربية، لو قلنا ذلك لما قدمنا
مجرد معلومة وانما قدمنا معرفة ايضا. اي اننا اضفنا شيئا لم يكن اصلا موجودا في
المعلومات. ما اضفناه هو قراءتنا او تفسيرنا لتلك المعلومات على نحو يربطها بعضها ببعض ويستنتج
دلالة كلية، اي اننا استثمرنا الوحدات الصغرى، او المعلومات لنخرج بمعرفة هي بطبيعتها اكثر استيعابا
وشمولا.
من هنا امكن القول بان المعلومات وحدات دلالية قابلة للسير في اتجاهات مختلفة، او قابلة
للتشكل ضمن بنى اكبر منها، حسب احتياجات الفكر او مقتضيات الرؤية. ولعل الاحصائيات نموذج واضح
للمعلومات في قابليتها للتشكل او التحرك المشار اليه. فحين نقرا تلك الارقام الدلالية، اي الاحصائيات،
نجد انها بلا قيمة ان لم تفسر او توظف لخدمة معرفة ما، فالاحصائيات تشكيل معلوماتي
يحتاج بل يستجدي التفسير، وفوق ذلك من الصعب جدا المرور على احصائية دون استنتاج شيء
منها. والتفسير قد يكون مجرد تعجب او دهشة عابرة، لكنه قد يكون قراءة استدلالية عميقة
وربطا يخرج بتلك الارقام الى فضاء المعرفة الضخم والمعقد.
ان مما يؤكد الدور الاساسي للارقام ان صفة الرقمية صارت صفة رئيسة لما ينتجه العصر
من معلومات. فالمعلومات الحاسوبية تتشكل من خلال الارقام والرموز التي يقراها الحاسب، وفي اسمه ما
يدل على وظيفته. لكن السؤال يتصل من عملية التشكل في ذاكرة الحاسب الى التشكل في
ذاكرة الانسان. المعلومة التي ينتجها الحاسب وغير الحاسب محتاجة الى عملية تشكل اخرى تنقلها من
كينونتها الرقمية او الرمزية او الوقائعية البكماء الى معرفة تنظر نحو الكليات او التكوينات الشاملة
التي لا تستقيم حياة الانسان المتحضر بدونها. يعيدنا هذا الى السؤال الاساسي في عنوان هذه
المقالة: هل نحن في عصر المعلومات ام في عصر المعرفة؟ الاجابة نسبية ومتغيرة بطبيعة الحال.
فالمؤكد ان المجتمعات البشرية لا تعيش عصرا واحدا في كل شؤونها. فالعصر الذي تعيشه النرويج
او فنلندا مثلا حيث ترتفع معدلات الانتاج الى اقصى مستوياتها غير العصر الذي يعيشه مجتمع
افريقي او اسيوي يعاني من الامية والفقر. صحيح ان المعلومات والمعرفة متاحة للجميع لكن الوصول
اليها والافادة منها، وقبل ذلك انتاجها ليس متساويا.
في بعض المجتمعات المعاصرة يمكن القول ان العصر عصر معلومات ومعرفة في الوقت نفسه وفي
اقصى المعدلات الممكنة حاليا، وفي مجتمعات اخرى هناك معلومات ومعرفة لكنها متوسطة في الانتشار وفي
الافادة من ذلك الانتشار على حد سواء، واظن ان معظم المجتمعات العربية تقع في هذا
الحيز المتوسط. المعلومات التي لدينا عن انفسنا وعن العالم المحيط بنا اقل بكثير من المعلومات
التي تتوفر للسويدي او الامريكي او الالماني عن نفسه وعن العالم المحيط به. اما المعرفة،
ذلك التكوين الارقى والاصعب فنحن في العالم النامي حاليا بعيدون عن انتاجها بالكم او الكيف
الذي يمكن مقارنته بما ينتج في الغرب. نعم الجميع في عصر المعلومات ولكن المعلومات ليست
متيسرة للجميع انتاجا واستهلاكا، اما المعرفة فشان اخر.
يوصف عصرنا بانه عصر المعلومات ولكنه قلما يوصف بانه عصر المعرفة. وهناك فرق بين المعلومات
والمعرفة، فرق كبير ويحتاج الى تامل.
المعلومات المتيسرة في عصرنا من الكثرة والتنوع والانتشار بحيث لا نحتاج الى تبرير الاشارة اليها
بوصفها سمة للعصر وعلامة كبرى من علامات الحضارة المعاصرة. وحين اخذت الانترنت في الانتشار مع
ثمانينات القرن الماضي كانت المعلومات هي بضاعة الشبكة العالمية ومادتها الرئيسة. لكن سرعان ما تبين
ان تلك المعلومات انما هي امشاج يختلط فيها الصواب بالخطا والمهم بغير المهم والعميق بالسطحي،
الى غير ذلك من متغيرات الثقافة الانسانية. فالواحد منا يتجه الى الصحيفة او الكتاب او
الموسوعة او غير ذلك من مصادر المعلومة فيجد منها الوانا واحجاما واقدارا متفاوتة. وقد يتجه
الى تلك عبر الانترنت او يتجه الى مصادر معلوماتية اختصت بها الانترنت وتطورت معها مثل
محركات البحث المختلفة وعلى راسها “غوغل” حيث يمثل امامنا ما يمكن ان يعد اكبر معين
للمعلومات في عالمنا المعاصر. ندخل في اي من تلك فتاتي الخيارات بالعشرات او المئات او
الالوف او حتى الملايين، خليط هائل من المعلومات التي هي في نهاية المطاف اجتهادات الناس
على اختلافهم حيث يختلط الصالح بالطالح ويجد المرء نفسه حائرا امام ذلك الركام المعلوماتي يحاول
سبر صحته من خطئه وقوته من ضعفه.
ما يميز عصرنا ليس صحة المعلومة وانما كثرتها وسهولة انتشارها. المعلومات منتج انساني رافق وجود
الانسان منذ البدء وعلى مر العصور واختلاف المجتمعات والثقافات. لقد ظلت المعلومات تنتج وتتداول حسب
متغيرات اقتصادية وسياسية وثقافية كثيرة ومعقدة. ذلك الانتاج والتداول كانا دائما نسبيين، فلم يكن هناك
عصر دون معلومات ووسائل انتشار توصلها الى اماكن مختلفة. المعلومات التي تيسرت للصينيين قبل ما
يقارب السبعة الاف عام او لليونانيين قبل اربعة الاف او للعرب والمسلمين قبل الف عام
تزيد او تنقص تناسبت مع اوضاعهم المختلفة، لكن عصورهم كانت كلها عصور معلومات والا لما
استطاعوا ان يعيشوا اصلا ناهيك عن ان ينتجوا علوما ومعارف وحضارات. ومما يؤكد التحيز الواضح
في وصف عصرنا بانه عصر المعلومات ليس توفر تلك المعلومات في الماضي وحده وانما ما
يتوقع توفره منها في المستقبل ايضا حيث المتوقع ان يزداد حجم المتوفر من المعلومات وتتطور
اساليب تداولها ويسر الحصول عليها على نحو لم نعهده وقد يصعب تصوره. فاذا وصفنا عصرنا
بانه عصر المعلومات، فماذا سنسمي العصور التالية؟
لكن لعل الاهم من هذا كله هو ان المعلومة ليست المعرفة، بل انها لا تفضي
بالضرورة اليها، اي لا تتطور لتصير معرفة. المعرفة شيء اخر قد تتطور اليه المعلومات وقد
لا تتطور. ويعني هذا ان المعلومة اكثر اساسية من المعرفة، لكنها ليست اكثر اهمية منها.
بلا معلومة يستحيل تصور المعرفة، ولكن بلا معرفة يمكن تصور المعلومة. وبصياغة اخرى قد توجد
المعلومة ولا توجد المعرفة، لكن المعرفة غير قابلة للوجود بلا معلومة. نحن ازاء عملية تخلق
او بناء. المعلومات مداميك او لبنات، لا يمكن للبناء ان يقوم بدونها. لكن البناء ليس
اللبنات وانما هو المجموع او الكل الذي تتطور اليه وتؤدي بذلك وظيفة مختلفة او دلالة
مختلفة ايضا. المعلومات كلمات، والمعرفة جمل او نصوص.
لنتخيل المثال التالي: لو قلنا ان الانترنت بدات في امريكا، او ان القطار اخترع في
بريطانيا او ان الجاحظ الف كتاب الحيوان، فاننا نقدم معلومات ليس الا. لكن لو اضفنا
ان الانترنت هي حصيلة تطور علمي وصناعي كان من مراحله المهمة اختراع القطار، او ان
كتاب الجاحظ كان حصيلة تطور معلوماتي ومعرفي في الثقافة العربية، لو قلنا ذلك لما قدمنا
مجرد معلومة وانما قدمنا معرفة ايضا. اي اننا اضفنا شيئا لم يكن اصلا موجودا في
المعلومات. ما اضفناه هو قراءتنا او تفسيرنا لتلك المعلومات على نحو يربطها بعضها ببعض ويستنتج
دلالة كلية، اي اننا استثمرنا الوحدات الصغرى، او المعلومات لنخرج بمعرفة هي بطبيعتها اكثر استيعابا
وشمولا.
من هنا امكن القول بان المعلومات وحدات دلالية قابلة للسير في اتجاهات مختلفة، او قابلة
للتشكل ضمن بنى اكبر منها، حسب احتياجات الفكر او مقتضيات الرؤية. ولعل الاحصائيات نموذج واضح
للمعلومات في قابليتها للتشكل او التحرك المشار اليه. فحين نقرا تلك الارقام الدلالية، اي الاحصائيات،
نجد انها بلا قيمة ان لم تفسر او توظف لخدمة معرفة ما، فالاحصائيات تشكيل معلوماتي
يحتاج بل يستجدي التفسير، وفوق ذلك من الصعب جدا المرور على احصائية دون استنتاج شيء
منها. والتفسير قد يكون مجرد تعجب او دهشة عابرة، لكنه قد يكون قراءة استدلالية عميقة
وربطا يخرج بتلك الارقام الى فضاء المعرفة الضخم والمعقد.
ان مما يؤكد الدور الاساسي للارقام ان صفة الرقمية صارت صفة رئيسة لما ينتجه العصر
من معلومات. فالمعلومات الحاسوبية تتشكل من خلال الارقام والرموز التي يقراها الحاسب، وفي اسمه ما
يدل على وظيفته. لكن السؤال يتصل من عملية التشكل في ذاكرة الحاسب الى التشكل في
ذاكرة الانسان. المعلومة التي ينتجها الحاسب وغير الحاسب محتاجة الى عملية تشكل اخرى تنقلها من
كينونتها الرقمية او الرمزية او الوقائعية البكماء الى معرفة تنظر نحو الكليات او التكوينات الشاملة
التي لا تستقيم حياة الانسان المتحضر بدونها. يعيدنا هذا الى السؤال الاساسي في عنوان هذه
المقالة: هل نحن في عصر المعلومات ام في عصر المعرفة؟ الاجابة نسبية ومتغيرة بطبيعة الحال.
فالمؤكد ان المجتمعات البشرية لا تعيش عصرا واحدا في كل شؤونها. فالعصر الذي تعيشه النرويج
او فنلندا مثلا حيث ترتفع معدلات الانتاج الى اقصى مستوياتها غير العصر الذي يعيشه مجتمع
افريقي او اسيوي يعاني من الامية والفقر. صحيح ان المعلومات والمعرفة متاحة للجميع لكن الوصول
اليها والافادة منها، وقبل ذلك انتاجها ليس متساويا.
في بعض المجتمعات المعاصرة يمكن القول ان العصر عصر معلومات ومعرفة في الوقت نفسه وفي
اقصى المعدلات الممكنة حاليا، وفي مجتمعات اخرى هناك معلومات ومعرفة لكنها متوسطة في الانتشار وفي
الافادة من ذلك الانتشار على حد سواء، واظن ان معظم المجتمعات العربية تقع في هذا
الحيز المتوسط. المعلومات التي لدينا عن انفسنا وعن العالم المحيط بنا اقل بكثير من المعلومات
التي تتوفر للسويدي او الامريكي او الالماني عن نفسه وعن العالم المحيط به. اما المعرفة،
ذلك التكوين الارقى والاصعب فنحن في العالم النامي حاليا بعيدون عن انتاجها بالكم او الكيف
الذي يمكن مقارنته بما ينتج في الغرب. نعم الجميع في عصر المعلومات ولكن المعلومات ليست
متيسرة للجميع انتاجا واستهلاكا، اما المعرفة فشان اخر.