ما هو الغرور؟ وما هي الاسباب المؤدية اليه؟ وما هي كيفية اجتنابه والتخلص منه اذا
اصيبت النفس بهذه الافة؟!
فهذا السؤال سؤال عظيم القدر؛ فان هذه الافة – الغرور – من محبطات الاعمال ومن
اعظم ما يضر العبد في دينه بل وفي دنياه ايضا، ويظهر ذلك عند بيان حقيقة
الغرور الذي طلبت تعريفه وذكر اسبابه وكيفية الخلاص منه.
فاما عن الغرور فهو انواع، الا ان سؤالك يسال عن نوع خاص من الغرور، ويمكن
ان نحدد هذا النوع بان نقول: انه الذي يتعلق بالكبر والعجب، فالكبر والعجب مجموعان يرادفان
الغرور الذي قد اشرت اليه، واصل الغرور هو: ان يغتر العبد بما اتاه الله تعالى
من النعمة، وهذا الاغترار انما يحصل من مجموع امرين اثنين: فالاول انه ينظر الى هذه
النعمة بعين الاستعظام، كمن اوتي علما او اوتي عبادة او اوتي مالا او اوتي جاها
او نسبا؛ فهو يستعظم هذه النعمة، ثم يحصل له الامر الثاني: وهو ان يغفل عن
المنعم بها، فينظر الى هذه النعمة وكانها من تحصيله وكسبه وكانها من جهته هو، فيكون
غافلا في قلبه عن ردها الى الله جل وعلا.
وقد يقع ها هنا امر دقيق غاية الدقة، وهو انه بلسانه يرد النعمة الى الله
تعالى ولكن في حقيقة قلبه وفي طوايا نفسه ينظر الى هذه النعمة وكانها من جهته
هو، فيحصل له مجموع امرين اثنين: فاولهما العجب وثانيهما الكبر، والعجب هو ان ينظر الى
هذه النعمة بعين الاستعظام وان ينسبها الى نفسه اما باطنا واما باطنا وظاهرا، ولكن لا
يلزم من هذه الحالة ان يتكبر على الناس وان يتكبر على الخلق، فحقيقة العجب: شعور
باطن في النفس يؤدي الى استعظام هذه النعمة او هذا العمل مع قطع النظر الى
مسببها والمنعم بها وهو الله جل وعلا، ولكن العجب لابد ان يولد الكبر، وهو ان
يتكبر في نفسه ويتعاظم بحيث يرى لنفسه فضلا على غيره، فان حصل له هذا المعنى
وهذا الشعور – وهو الكبر في النفس – ادى ذلك الى التكبر في الافعال وهذا
هو الغالب، وقد يقع ان يكون في القلب كبر ولا يكون في الاعمال تكبر، كمن
يخفي شجرة الكبر في نفسه ولا يريها للناس لانه يكبح جماحها حتى لا يسقط من
اعين الناس وان كان هو في داخلة نفسه متكبرا متعاظما.
فثبت بهذا ان الذي يغتر بعمله انما خدع نفسه وانما خدعه الشيطان بان نظر الى
عمله ونظر الى عبادته ونظر الى صلاحه فاغتر بذلك وظن ان لنفسه عند الله شانا
وان له عند ربه منزلة، فصار يتعاظم في نفسه وصار يدل بعمله واصبح ينظر الى
الناس بعين الانتقاص، وهذا له اسباب كثيرة، وهو جواب سؤالك الثاني:
فان من اسباب الغرور ومن اعظم اسبابه ان يقع الانسان في الغرور لاجل العمل الصالح،
كمن يحافظ على الطاعة ويحافظ على عبادة ربه وعلى البعد عن معاصيه؛ فيقع في نفسه
تعاظم لهذه النعمة التي من الله عليه بها، ويصبح ينظر الى غيره نظرة الاحتقار، فاذا
راى رجلا وقع في معصية نظر اليه نظرة الازدراء ونظرة الاحتقار وتعاظم في نفسه، ولم
ينظر الى هذا العاصي على انه قد وقع في معصية ولابد ان يحذر هو نفسه
مما وقع فيه، ولم ينظر اليه بعين الشفقة وعين الرحمة، بل لم ينظر الى هذا
العاصي على انه قد وقع في الخطا بحكم الطبيعة البشرية، ولكنه نظر اليه نظرة المتعالي
المتغطرس الذي يرى من نفسه الفضل ويرى من نفسه وكانه عصم من هذا العمل فهو
يتعالى على الناس بخلقه، وهذا يظهر في الافعال ويظهر في الاقوال؛ فتجده ان خاطب الناس
خاطبهم باستعلاء او عاملهم على انه هو صاحب الفضل وعلى انهم دونه في ذلك، وربما
صدرت منه افعال كافعال المتكبرين من اهل الدنيا، وهذا كثير في العادة لا يسلم منه
الا من سلم الله تعالى، ولذلك كان الخلاص من الغرور من اوكد ما ينبغي ان
يحرص عليه المؤمن كما سياتينا ان شاء الله تعالى.
ومن اسباب الغرور كذلك: المال والجاه والنسب الشريف، ومن اسبابه ايضا سداد الراي بحيث يجد
الانسان من نفسه اصابة في الراي وان الناس يرجعون اليه، فيحصل له في ذلك تعاظم
وتيه وكبر.
والمقصود ان الاسباب عديدة وضابطها انها نعمة يراها الانسان بنظرة التعظيم ويغفل عن مصدرها وعن
مسببها وهو الخالق الجليل، فيحصل له بذلك هذا الغرور وهذا العجب وهذا الكبر.
واما عن علاج هذا البلاء العظيم فان ذلك يكون باسباب:
والمقصود ان دواء الكبر يكون بمجموع امور:
ومن الدواء العظيم ان يجعل الانسان همه اذا راى عباد الله ان ينظر اليهم على
انهم عباد مؤمنون وان لهم خيرا وفضلا مستورا، وقد يكونون عند الله خيرا منه وقد
يكونون عند الميزان اثقل منه وارجح، فينظر الى كبيرهم على انه اكثر منه عملا واقدم
سابقة في الاسلام، وينظر الى صغيرهم على انه اقل منه ذنبا وانه قد عوفي من
كثير مما وقع فيه، فيحصل له بذلك انخفاض في النفس ويحصل له بعد ذلك شعور
بان المؤمنين فيهم خير وفيهم فضل وان وقعوا في بعض الاخطاء، ومن هنا يجتث شجرة
الكبر من نفسه، ولذلك لما جاء عبد الله بن المبارك الى بعض الزهاد العباد –
ممن يتعاظمون وممن لهم الدعاوى الفارغة – فدخل عليه لم يكترث هذا الزاهد بعبد الله
بن المبارك مع فضل هذا الامام ومع قدره؛ لانه لم يعرفه انه عبد الله بن
المبارك، ولما خرج عبد الله قيل لهذا الزاهد: ان هذا هو عبد الله بن المبارك
امير المؤمنين في الحديث! فخرج اليه هذا العابد يسرع يطلبه فقال له: لم اعرفك؟ يعتذر
عما بدر منه، ثم قال: يا ابا عبد الله! عظني، فقال له عبد الله بن
المبارك: نعم. لا تقع عيناك على رجل من المسلمين الا رايت انه خير منك. فهذه
هي العظة البالغة، وهكذا فليداو الانسان نفسه.
وهذا السؤال الذي قدمته هو سؤال عظيم القدر وهو يحتمل ان يصنف في مجلدة كاملة،
وقد كفينا المؤنة بما صنفه الائمة الاعلام في ذلك من الابواب والفصول، فراجعي ان شئت
للاستزادة ما ذكره الامام ابو عبد الله ابن القيم – عليه رحمة الله – في
كتابه (مدارك السالكين)، وما ذكره الشيخ ابو حامد الغزالي – عليه رحمة الله – في
كتاب (احياء علوم الدين) في الجزء الثاني، ففيهما كلام نافع غاية النفع.
نسال الله عز وجل ان يشرح صدرك وان يعافيك من كل سوء وان يجعلك من
عباد الله الصالحين، وان يتمم لك الخير والفضل، وان يفرج كربك وان يجعل لك من
لدنه سلطانا نصيرا.
وبالله التوفيق.