كان ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر رجالا صالحين احبهم الناس، فلما ماتوا حزنوا عليهم حزنا
شديدا، واستغل الشيطان هذه الفرصة فوسوس للناس ان يصنعوا لهم تماثيل تخليدا لذكراهم، ففعلوا، ومرت
السنوات، ومات الذين صنعوا تلك التماثيل، وجاء احفادهم، فاغواهم الشيطان وجعلهم يظنون ان تلك التماثيل
هي الهتهم فعبدوها من دون الله، وانتشر الكفر بينهم، فبعث الله اليهم رجلا منهم، هو
نوح -عليه السلام- فاختاره الله واصطفاه من بين خلقه، ليكون نبيا ورسولا، واوحى اليه ان
يدعو قومه الى عبادة الله وحده لا شريك له.
وظل نوح -عليه السلام- يدعو قومه الى عبادة الله وحده وترك
عبادة الاصنام، فقال لهم: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره اني اخاف
عليكم عذاب يوم عظيم} [الاعراف:59] فاستجاب لدعوته عدد من الفقراء والضعفاء، اما الاغنياء والاقوياء فقد
رفضوا دعوته، كما ان زوجته واحد ابنائه كفرا بالله ولم يؤمنا به، وظل الكفار يعاندونه،
وقالوا له: {ما نراك الا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك الا الذين هم اراذلنا بادي
الراي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} [هود:27].
ولم يياس نوح -عليه السلام- من عدم استجابتهم له، بل ظل يدعوهم بالليل والنهار، وينصحهم
في السر والعلن، ويشرح لهم برفق وهدوء حقيقة دعوته التي جاء بها، الا انهم اصروا
على كفرهم، واستمروا في استكبارهم وطغيانهم، وظلوا يجادلونه مدة طويلة، واخذوا يؤذونه ويسخرون منه، ويحاربون
دعوته.
وذات يوم ذهب بعض الاغنياء الى نوح -عليه السلام- وطلبوا منه ان يطرد الفقراء الذين
امنوا به؛ حتى يرضى عنه الاغنياء ويجلسوا معه ويؤمنوا بدعوته فقال لهم نوح: {ما انا
بطارد الذين امنوا انهم ملاقوا ربهم ولكني اراكم قوما تجهلون . ويا قوم من ينصرني
من الله ان طردتهم افلا تذكرون}
[هود:29-30] فغضب قومه واتهموه بالضلال، وقالوا: {انا لنراك في ضلال
مبين } [الاعراف:60].
فقال لهم: {يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين . ابلغكم رسالات
ربي وانصح لكم واعلم من الله ما لا تعلمون} [الاعراف:61-62] واستمر نوح -عليه السلام- يدعو
قومه يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، دون ان يزيد عدد المؤمنين، وكان اذا ذهب
الى بعضهم يدعوهم الى عبادة الله، ويحدثهم عن الايمان به، وضعوا اصابعهم في اذانهم حتى
لا يسمعوا كلامه، واذا ذهب الى اخرين يحدثهم عن نعم الله عليهم وعن حسابهم يوم
القيامة، وضعوا ثيابهم على وجوههم حتى لا يروه، واستمر هذا الامر طويلا حتى قال الكفار
له:
{يا نوح قد جادلتنا فاكثرت جدالنا فاتنا بما تعدنا ان كنت من
الصادقين} [هود:32].
فقال لهم نوح: {انما ياتيكم به الله ان شاء وما انتم بمعجزين . ولا ينفعكم
نصحي ان اردت ان انصح لكم ان كان الله يريد ان يغويكم هو ربكم واليه
ترجعون} [هود: 33-34] وحزن نوح -عليه السلام- لعدم استجابة قومه وطلبهم للعذاب، لكنه لم يياس،
وظل لديه امل في ان يؤمنوا بالله -تعالى- ومرت الايام والسنون دون نتيجة او ثمرة
لدعوته، واتجه نوح -عليه السلام- الى ربه يدعوه، ويشكو له ظلم قومه لانفسهم، فاوحى الله
اليه: {انه لن يؤمن من قومك الا من قد امن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون}
[هود:36].
وظل نوح -عليه السلام- يدعو قومه الف سنة الا خمسين (950 سنة) دون ان يجد
منهم استجابة، فقال: {رب ان قومي كذبون . فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي
من المؤمنين} [الشعراء:117-118] ودعا عليهم بالهلاك، فقال: {رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا
. انك ان تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفارا} [نوح: 26-27] فامره الله
ان يصنع سفينة، وعلمه كيف يتقن صنعها، وبدا نوح -عليه السلام- والمؤمنون معه في صنع
السفينة، وكلما مر الكفار عليهم سخروا منهم واستهزءوا بهم؛ اذ كيف يصنعون سفينة وهم يعيشون
في صحراء جرداء لا بحر فيها ولا نهر، وزاد استهزاؤهم حينما عرفوا ان هذه السفينة
هي التي سوف ينجو بها نوح ومن معه من المؤمنين حينما ينزل عذاب الله.
واتم نوح -عليه السلام- صنع السفينة، وعرف ان الطوفان سوف يبدا، فطلب من كل المؤمنين
ان يركبوا السفينة، وحمل فيها من كل حيوان وطير وسائر المخلوقات زوجين اثنين، واستقر نوح
-عليه السلام- على ظهر السفينة هو ومن معه، وبدا الطوفان، فامطرت السماء مطرا غزيرا، وتفجرت
عيون الماء من الارض وخرج الماء منها بقوة، فقال نوح: {بسم الله مجراها ومرساها ان
ربي لغفور رحيم} [هود:41] .
وبدات السفينة تطفو على سطح الماء، وراى نوح -عليه السلام- ابنه، وكان كافرا لم يؤمن
بالله، فناداه: {يا بني اركب معنا ولا تكن من
الكافرين} [هود:42] فامتنع الابن ورفض ان يلبي نداء ابيه، وقال: {ساوي الى جبل يعصمني من
الماء} [هود:43] فقد ظن ان الماء لن يصل الى رءوس الجبال وقممها العالية، فحذره نوح
-عليه السلام- وقال له: {لا عاصم اليوم من امر الله الا من رحم} [هود: 43].
وراى المشركون الماء يملا بيوتهم، ويتدفق بسرعة رهيبة، فادركوا انهم هالكون فتسابقوا في الصعود الى
قمم الجبال، ولكن هيهات .. هيهات، فقد غطى الماء قمم الجبال، واهلك الله كل الكافرين
والمشركين، ونجى نوحا -عليه السلام- والمؤمنين؛ فشكروا الله على نجاتهم، وصدر امر الله -تعالى- بان
يتوقف
المطر، وان تبتلع الارض الماء: {وقيل يا ارض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء
وقضي الامر واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين} [هود: 44] وابتلعت الارض الماء، وتوقفت
السماء عن المطر، ورست السفينة على جبل يسمى الجودى.
ثم امر الله نوحا -عليه السلام- ومن معه من المؤمنين بالهبوط من السفينة، قال تعالى:
{يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى امم ممن معك وامم سنمتعهم ثم يمسهم
منا عذاب اليم} [هود:48] وناشد نوح -عليه السلام- ربه في ولده، وساله عن غرقه استفسارا
واستخبارا عن الامر، وقد وعده ان ينجيه واهله، فقال سبحانه: {انه ليس من اهلك انه
عمل غير صالح} [هود:46] وكان ابن نوح من الكافرين فلم يستحق رحمة الله، فامتثل نوح
لامر الله، وهبط من السفينة ومعه المؤمنون، واطلق سراح الحيوانات والطيور، لتبدا دورة جديدة من
الحياة على الارض، وظل نوح يدعو المؤمنين، ويعلمهم احكام الدين، ويكثر من طاعة الله من
الذكر والصلاة الصيام الى ان توفي ولقى ربه.