احلى مواضيع جديدة

قصص الانبياء بالتفصيل الممل

قصص الانبياء بالتفصيل الممل 206880 115163638562343 4071727 N

ملف كامل عن قصص الانبياء مهم جدا(حياتهم واعمارهم كل شئ عن الانبياء)ارجو التثبيت

الموضوع يضم ملف كامل عن قصص الانبياء كلهم كل شئ عن الانبياء رضى الله عنهم

ياريت يتم تثبيت الموضوع علشان الكل يقدر يستفيد منة لانه موضوع مهم جدا فى ناس
كتير متعرفش حاجات عن الانبياء.ارجو التثبيت.
_____________
ابراهيم

الجزء الاول

نبذة:

هو خليل الله، اصطفاه الله برسالته وفضله على كثير من خلقه، كان ابراهيم يعيش في
قوم يعبدون الكواكب، فلم يكن يرضيه ذلك، واحس بفطرته ان هناك الها اعظم حتى هداه
الله واصطفاه برسالته، واخذ ابراهيم يدعو قومه لوحدانية الله وعبادته ولكنهم كذبوه وحاولوا احراقه فانجاه
الله من بين ايديهم، جعل الله الانبياء من نسل ابراهيم فولد له اسماعيل واسحاق، قام
ابراهيم ببناء الكعبة مع اسماعيل.

سيرته:

منزلة ابراهيم عليه السلام:

هو احد اولي العزم الخمسة الكبار الذين اخذ الله منهم ميثاقا غليظا، وهم: نوح وابراهيم
وموسى وعيسى ومحمد.. بترتيب بعثهم. وهو النبي الذي ابتلاه الله ببلاء مبين. بلاء فوق قدرة
البشر وطاقة الاعصاب. ورغم حدة الشدة، وعنت البلاء.. كان ابراهيم هو العبد الذي وفى. وزاد
على الوفاء بالاحسان.
وقد كرم الله تبارك وتعالى ابراهيم تكريما خاصا، فجعل ملته هي التوحيد الخالص النقي من
الشوائب. وجعل العقل في جانب الذين يتبعون دينه.
وكان من فضل الله على ابراهيم ان جعله الله اماما للناس. وجعل في ذريته النبوة
والكتاب. فكل الانبياء من بعد ابراهيم هم من نسله فهم اولاده واحفاده. حتى اذا جاء
اخر الانبياء محمد صلى الله عليه وسلم، جاء تحقيقا واستجابة لدعوة ابراهيم التي دعا الله
فيها ان يبعث في الاميين رسولا منهم.
ولو مضينا نبحث في فضل ابراهيم وتكريم الله له فسوف نمتلئ بالدهشة. نحن امام بشر
جاء ربه بقلب سليم. انسان لم يكد الله يقول له اسلم حتى قال اسلمت لرب
العالمين. نبي هو اول من سمانا المسلمين. نبي كان جدا وابا لكل انبياء الله الذين
جاءوا بعده. نبي هادئ متسامح حليم اواه منيب.
يذكر لنا ربنا ذو الجلال والاكرام امرا اخر افضل من كل ما سبق. فيقول الله
عز وجل في محكم اياته: (واتخذ الله ابراهيم خليلا) لم يرد في كتاب الله ذكر
لنبي، اتخذه الله خليلا غير ابراهيم. قال العلماء: الخلة هي شدة المحبة. وبذلك تعني الاية:
واتخذ الله ابراهيم حبيبا. فوق هذه القمة الشامخة يجلس ابراهيم عليه الصلاة والسلام. ان منتهى
امل السالكين، وغاية هدف المحققين والعارفين بالله.. ان يحبوا الله عز وجل. اما ان يحلم
احدهم ان يحبه الله، ان يفرده بالحب، ان يختصه بالخلة وهي شدة المحبة.. فذلك شيء
وراء افاق التصور. كان ابراهيم هو هذا العبد الرباني الذي استحق ان يتخذه الله خليلا.

حال المشركين قبل بعثة ابراهيم:

لا يتحدث القران عن ميلاده او طفولته، ولا يتوقف عند عصره صراحة، ولكنه يرسم صورة
لجو الحياة في ايامه، فتدب الحياة في عصره، وترى الناس قد انقسموا ثلاث فئات:
فئة تعبد الاصنام والتماثيل الخشبية والحجرية.
وفئة تعبد الكواكب والنجوم والشمس والقمر.
وفئة تعبد الملوك والحكام.

نشاة ابراهيم عليه السلام:

وفي هذا الجو ولد ابراهيم. ولد في اسرة من اسر ذلك الزمان البعيد. لم يكن
رب الاسرة كافرا عاديا من عبدة الاصنام، كان كافرا متميزا يصنع بيديه تماثيل الالهة. وقيل
ان اباه مات قبل ولادته فرباه عمه، وكان له بمثابة الاب، وكان ابراهيم يدعوه بلفظ
الابوة، وقيل ان اباه لم يمت وكان ازر هو والده حقا، وقيل ان ازر اسم
صنم اشتهر ابوه بصناعته.. ومهما يكن من امر فقد ولد ابراهيم في هذه الاسرة.
رب الاسرة اعظم نحات يصنع تماثيل الالهة. ومهنة الاب تضفي عليه قداسة خاصة في قومه،
وتجعل لاسرته كلها مكانا ممتازا في المجتمع. هي اسرة مرموقة، اسرة من الصفوة الحاكمة.
من هذه الاسرة المقدسة، ولد طفل قدر له ان يقف ضد اسرته وضد نظام مجتمعه
وضد اوهام قومه وضد ظنون الكهنة وضد العروش القائمة وضد عبدة النجوم والكواكب وضد كل
انواع الشرك باختصار.
مرت الايام.. وكبر ابراهيم.. كان قلبه يمتلا من طفولته بكراهية صادقة لهذه التماثيل التي يصنعها
والده. لم يكن يفهم كيف يمكن لانسان عاقل ان يصنع بيديه تمثالا، ثم يسجد بعد
ذلك لما صنع بيديه. لاحظ ابراهيم ان هذه التماثيل لا تشرب ولا تاكل ولا تتكلم
ولا تستطيع ان تعتدل لو قلبها احد على جنبها. كيف يتصور الناس ان هذه التماثيل
تضر وتنفع؟!
مواجهة عبدة الكواكب والنجوم:
قرر ابراهيم عليه السلام مواجهة عبدة النجوم من قومه، فاعلن عندما راى احد الكواكب في
الليل، ان هذا الكوكب ربه. ويبدو ان قومه اطمانوا له، وحسبوا انه يرفض عبادة التماثيل
ويهوى عبادة الكواكب. وكانت الملاحة حرة بين الوثنيات الثلاث: عبادة التماثيل والنجوم والملوك. غير ان
ابراهيم كان يدخر لقومه مفاجاة مذهلة في الصباح. لقد افل الكوكب الذي التحق بديانته بالامس.
وابراهيم لا يحب الافلين. فعاد ابراهيم في الليلة الثانية يعلن لقومه ان القمر ربه. لم
يكن قومه على درجة كافية من الذكاء ليدركوا انه يسخر منهم برفق ولطف وحب. كيف
يعبدون ربا يختفي ثم يظهر. يافل ثم يشرق. لم يفهم قومه هذا في المرة الاولى
فكرره مع القمر. لكن القمر كالزهرة كاي كوكب اخر.. يظهر ويختفي. فقال ابراهيم عدما افل
القمر (لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين) نلاحظ هنا انه عندما يحدث قومه
عن رفضه لالوهية القمر.. فانه يمزق العقيدة القمرية بهدوء ولطف. كيف يعبد الناس ربا يختفي
ويافل. (لئن لم يهدني ربي) يفهمهم ان له ربا غير كل ما يعبدون. غير ان
اللفتة لا تصل اليهم. ويعاود ابراهيم محاولته في اقامة الحجة على الفئة الاولى من قومه..
عبدة الكواكب والنجوم. فيعلن ان الشمس ربه، لانها اكبر من القمر. وما ان غابت الشمس،
حتى اعلن براءته من عبادة النجوم والكواكب. فكلها مغلوقات تافل. وانهى جولته الاولى بتوجيهه وجهه
للذي فطر السماوات والارض حنيفا.. ليس مشركا مثلهم.
استطاعت حجة ابراهيم ان تظهر الحق. وبدا صراع قومه معه. لم يسكت عنه عبدة النجوم
والكواكب. بدءوا جدالهم وتخويفهم له وتهديده. ورد ابراهيم عليهم قال:
اتحاجوني في الله وقد هدان ولا اخاف ما تشركون به الا ان يشاء ربي شيئا
وسع ربي كل شيء علما افلا تتذكرون (80) وكيف اخاف ما اشركتم ولا تخافون انكم
اشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فاي الفريقين احق بالامن ان كنتم تعلمون
(81) (الانعام)
لا نعرف رهبة الهجوم عليه. ولا حدة الصراع ضده، ولا اسلوب قومه الذي اتبعه معه
لتخويفه. تجاوز القران هذا كله الى رده هو. كان جدالهم باطلا فاسقطه القران من القصة،
وذكر رد ابراهيم المنطقي العاقل. كيف يخوفونه ولا يخافون هم؟ اي الفريقين احق بالامن؟
بعد ان بين ابراهيم عليه السلام حجته لفئة عبدة النجوم والكواكب، استعد لتبيين حجته لعبدة
الاصنام. اتاه الله الحجة في المرة الاولى كما سيؤتيه الحجة في كل مرة.
سبحانه.. كان يؤيد ابراهيم ويريه ملكوت السماوات والارض. لم يكن معه غير اسلامه حين بدا
صراعه مع عبدة الاصنام. هذه المرة ياخذ الصراع شكلا اعظم حدة. ابوه في الموضوع.. هذه
مهنة الاب وسر مكانته وموضع تصديق القوم.. وهي العبادة التي تتبعها الاغلبية.

الجزء الثاني

مواجهة عبدة الاصنام:

خرج ابراهيم على قومه بدعوته. قال بحسم غاضب وغيرة على الحق:
اذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي انتم لها عاكفون (52) قالوا وجدنا اباءنا
لها عابدين (53) قال لقد كنتم انتم واباؤكم في ضلال مبين (54) قالوا اجئتنا بالحق
ام انت من اللاعبين (55) قال بل ربكم رب السماوات والارض الذي فطرهن وانا على
ذلكم من الشاهدين (56) (الانبياء)
انتهى الامر وبدا الصراع بين ابراهيم وقومه.. كان اشدهم ذهولا وغضبا هو اباه او عمه
الذي رباه كاب.. واشتبك الاب والابن في الصراع. فصلت بينهما المبادئ فاختلفا.. الابن يقف مع
الله، والاب يقف مع الباطل.
قال الاب لابنه: مصيبتي فيك كبيرة يا ابراهيم.. لقد خذلتني واسات الي.
قال ابراهيم:
يا ابت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42) يا
ابت اني قد جاءني من العلم ما لم ياتك فاتبعني اهدك صراطا سويا (43) يا
ابت لا تعبد الشيطان ان الشيطان كان للرحمن عصيا (44) يا ابت اني اخاف ان
يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا (45) (مريم)
انتفض الاب واقفا وهو يرتعش من الغضب. قال لابراهيم وهو ثائر اذا لم تتوقف عن
دعوتك هذه فسوف ارجمك، ساقتلك ضربا بالحجارة. هذا جزاء من يقف ضد الالهة.. اخرج من
بيتي.. لا اريد ان اراك.. اخرج.
انتهى الامر واسفر الصراع عن طرد ابراهيم من بيته. كما اسفر عن تهديده بالقتل رميا
بالحجارة. رغم ذلك تصرف ابراهيم كابن بار ونبي كريم. خاطب اباه بادب الانبياء. قال لابيه
ردا على الاهانات والتجريح والطرد والتهديد بالقتل:
قال سلام عليك ساستغفر لك ربي انه كان بي حفيا (47) واعتزلكم وما تدعون من
دون الله وادعو ربي عسى الا اكون بدعاء ربي شقيا (48) (مريم)
وخرج ابراهيم من بيت ابيه. هجر قومه وما يعبدون من دون الله. وقرر في نفسه
امرا. كان يعرف ان هناك احتفالا عظيما يقام على الضفة الاخرى من النهر، وينصرف الناس
جميعا اليه. وانتظر حتى جاء الاحتفال وخلت المدينة التي يعيش فيها من الناس.
وخرج ابراهيم حذرا وهو يقصد بخطاه المعبد. كانت الشوارع المؤدية الى المعبد خالية. وكان المعبد
نفسه مهجورا. انتقل كل الناس الى الاحتفال. دخل ابراهيم المعبد ومعه فاس حادة. نظر الى
تماثيل الالهة المنحوتة من الصخر والخشب. نظر الى الطعام الذي وضعه الناس امامها كنذور وهدايا.
اقترب ابراهيم من التماثيل وسالهم: (الا تاكلون) كان يسخر منهم ويعرف انهم لا ياكلون. وعاد
يسال التماثيل: (ما لكم لا تنطقون) ثم هوى بفاسه على الالهة.
وتحولت الالهة المعبودة الى قطع صغيرة من الحجارة والاخشاب المهشمة.. الا كبير الاصنام فقد تركه
ابراهيم (لهم لعلهم اليه يرجعون) فيسالونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغار
الالهة! ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها، فيرجعون الى صوابهم.
الا ان قوم ابراهيم الذين عطلت الخرافة عقولهم عن التفكير، وغل التقليد افكارهم عن التامل
والتدبر. لم يسالوا انفسهم: ان كانت هذه الهة فكيف وقع لها ما وقع دون ان
تدفع عن انفسها شيئا؟! وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها؟! وبدلا من ذلك (قالوا من
فعل هذا بالهتنا انه لمن الظالمين).
عندئذ تذكر الذين سمعوا ابراهيم ينكر على ابيه ومن معه عبادة التماثيل، ويتوعدهم ان يكيد
لالهتهم بعد انصرافهم عنها!
فاحضروا ابراهيم عليه السلام، وتجمع الناس، وسالوه (اانت فعلت هذا بالهتنا يا ابراهيم)؟ فاجابهم ابراهيم
(بل فعله كبيرهم هذا فاسالوهم ان كانوا ينطقون) والتهكم واضح في هذا الجواب الساخر. فلا
داعي لتسمية هذه كذبة من ابراهيم -عليه السلام- والبحث عن تعليلها بشتى العلل التي اختلف
عليها المفسرون. فالامر ايسر من هذا بكثير! انما اراد ان يقول لهم: ان هذه التماثيل
لا تدري من حطمها ان كنت انا ام هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها
حراكا. فهي جماد لا ادراك له اصلا. وانتم كذلك مثلها مسلوبو الادراك لا تميزون بين
الجائز والمستحيل. فلا تعرفون ان كنت انا الذي حطمتها ام ان هذا التمثال هو الذي
حطمها!
ويبدو ان هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا، وردهم الى شيء من التدبر التفكر:
فرجعوا الى انفسهم فقالوا انكم انتم الظالمون (64) (الانبياء)
وكانت بادرة خير ان يستشعروا ما في موقفهم من سخف، وما في عبادتهم لهذه التماثيل
من ظلم. وان تتفتح بصيرتهم لاول مرة فيتدبروا ذلك السخف الذي ياخذون به انفسهم، وذلك
الظلم الذي هم فيه سادرون. ولكنها لم تكن الا ومضة واحدة اعقبها الظلام، والا خفقة
واحدة عادت بعدها قلوبهم الى الخمود:
ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون (65) (الانبياء)
وحقا كانت الاولى رجعة الى النفوس، وكانت الثانية نكسة على الرؤوس؛ كما يقول التعبير القراني
المصور العجيب.. كانت الاولى حركة في النفس للنظر والتدبر. اما الثانية فكانت انقلابا على الراس
فلا عقل ولا تفكير. والا فان قولهم هذا الاخير هو الحجة عليهم. واية حجة لابراهيم
اقوى من ان هؤلاء لا ينطقون؟
ومن ثم يجيبهم بعنف وضيق على غير عادته وهو الصبور الحليم. لان السخف هنا يجاوز
صبر الحليم:
قال افتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم (66) اف لكم ولما
تعبدون من دون الله افلا تعقلون (67) (الانبياء)
وهي قولة يظهر فيها ضيق الصدرن وغيظ النفس، والعجب من السخف الذي يتجاوز كل مالوف.

عند ذلك اخذتهم العزة بالاثم كما تاخذ الطغاة دائما حين يفقدون الحجة ويعوزهم الدليل، فيلجاون
الى القوة الغاشمة والعذاب الغليظ:
قالوا حرقوه وانصروا الهتكم ان كنتم فاعلين (68) (الانبياء)

نجاة ابراهيم عليه السلام من النار:

وفعلا.. بدا الاستعداد لاحراق ابراهيم. انتشر النبا في المملكة كلها. وجاء الناس من القرى والجبال
والمدن ليشهدوا عقاب الذي تجرا على الالهة وحطمها واعترف بذلك وسخر من الكهنة. وحفروا حفرة
عظيمة ملئوها بالحطب والخشب والاشجار. واشعلوا فيها النار. واحضروا المنجنيق وهو الة جبارة ليقذفوا ابراهيم
فيها فيسقط في حفرة النار.. ووضعوا ابراهيم بعد ان قيدوا يديه وقدميه في المنجنيق. واشتعلت
النار في الحفرة وتصاعد اللهب الى السماء. وكان الناس يقفون بعيدا عن الحفرة من فرط
الحرارة اللاهبة. واصدر كبير الكهنة امره باطلاق ابراهيم في النار.
جاء جبريل عليه السلام ووقف عند راس ابراهيم وساله: يا ابراهيم.. الك حاجة؟
قال ابراهيم: اما اليك فلا.
انطلق المنجنيق ملقيا ابراهيم في حفرة النار. كانت النار موجودة في مكانها، ولكنها لم تكن
تمارس وظيفتها في الاحراق. فقد اصدر الله جل جلاله الى النار امره بان تكون (بردا
وسلاما على ابراهيم). احرقت النار قيوده فقط. وجلس ابراهيم وسطها كانه يجلس وسط حديقة. كان
يسبح بحمد ربه ويمجده. لم يكن في قلبه مكان خال يمكن ان يمتلئ بالخوف او
الرهبة او الجزع. كان القلب مليئا بالحب وحده. ومات الخوف. وتلاشت الرهبة. واستحالت النار الى
سلام بارد يلطف عنه حرارة الجو.
جلس الكهنة والناس يرقبون النار من بعيد. كانت حرارتها تصل اليهم على الرغم من بعدهم
عنها. وظلت النار تشتعل فترة طويلة حتى ظن الكافرون انها لن تنطفئ ابدا. فلما انطفات
فوجئوا بابراهيم يخرج من الحفرة سليما كما دخل. ووجهه يتلالا بالنور والجلال. وثيابه كما هي
لم تحترق. وليس عليه اي اثر للدخان او الحريق.
خرج ابراهيم من النار كما لو كان يخرج من حديقة. وتصاعدت صيحات الدهشة الكافرة. خسروا
جولتهم خسارة مريرة وساخرة.
وارادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين (70) (الانبياء)
لا يحدثنا القران الكريم عن عمر ابراهيم حين حطم اصنام قومه، لا يحدثنا عن السن
التي كلف فيها بالدعوة الى الله. ويبدو من استقراء النصوص القديمة ان ابراهيم كان شابا
صغيرا حين فعل ذلك، بدليل قول قومه عنه: (سمعنا فتى يذكرهم يقال له ابراهيم). وكلمة
الفتى تطلق على السن التي تسبق العشرين.

مواجهة عبدة الملوك:

ان زمن اصطفاء الله تعالى لابراهيم غير محدد في القران. وبالتالي فنحن لا نستطيع ان
نقطع فيه بجواب نهائي. كل ما نستطيع ان نقطع فيه براي، ان ابراهيم اقام الحجة
على عبدة التماثيل بشكل قاطع، كما اقامها على عبدة النجوم والكواكب من قبل بشكل حاسم،
ولم يبق الا ان تقام الحجة على الملوك المتالهين وعبادهم.. وبذلك تقوم الحجة على جميع
الكافرين.
فذهب ابراهيم عليه السلام لملك متاله كان في زمانه. وتجاوز القران اسم الملك لانعدام اهميته،
لكن روي ان الملك المعاصر لابراهيم كان يلقب (بالنمرود) وهو ملك الاراميين بالعراق. كما تجاوز
حقيقة مشاعره، كما تجاوز الحوار الطويل الذي دار بين ابراهيم وبينه. لكن الله تعالى في
كتابه الحكيم اخبرنا الحجة الاولى التي اقامها ابراهيم عليه السلام على الملك الطاغية، فقال ابراهيم
بهدوء: (ربي الذي يحيي ويميت)
قال الملك: (انا احيي واميت) استطيع ان احضر رجلا يسير في الشارع واقتله، واستطيع ان
اعفو عن محكوم عليه بالاعدام وانجيه من الموت.. وبذلك اكون قادرا على الحياة والموت.
لم يجادل ابراهيم الملك لسذاجة ما يقول. غير انه اراد ان يثبت للملك انه يتوهم
في نفسه القدرة وهو في الحقيقة ليس قادرا. فقال ابراهيم: (فان الله ياتي بالشمس من
المشرق فات بها من المغرب)
استمع الملك الى تحدي ابراهيم صامتا.. فلما انتهى كلام النبي بهت الملك. احس بالعجز ولم
يستطع ان يجيب. لقد اثبت له ابراهيم انه كاذب.. قال له ان الله ياتي بالشمس
من المشرق، فهل يستطيع هو ان ياتي بها من المغرب.. ان للكون نظما وقوانين يمشي
طبقا لها.. قوانين خلقها الله ولا يستطيع اي مخلوق ان يتحكم فيها. ولو كان الملك
صادقا في ادعائه الالوهية فليغير نظام الكون وقوانينه.. ساعتها احس الملك بالعجز.. واخرسه التحدي. ولم
يعرف ماذا يقول، ولا كيف يتصرف. انصرف ابراهيم من قصر الملك، بعد ان بهت الذي
كفر.

الجزء الثالث

هجرة ابراهيم عليه السلام:

انطلقت شهرة ابراهيم في المملكة كلها. تحدث الناس عن معجزته ونجاته من النار، وتحدث الناس
عن موقفه مع الملك وكيف اخرس الملك فلم يعرف ماذا يقول. واستمر ابراهيم في دعوته
لله تعالى. بذل جهده ليهدي قومه، حاول اقناعهم بكل الوسائل، ورغم حبه لهم وحرصه عليهم
فقد غضب قومه وهجروه، ولم يؤمن معه من قومه سوى امراة ورجل واحد. امراة تسمى
سارة، وقد صارت فيما بعد زوجته، ورجل هو لوط، وقد صار نبيا فيما بعد. وحين
ادرك ابراهيم ان احدا لن يؤمن بدعوته. قرر الهجرة.
قبل ان يهاجر، دعا والده للايمان، ثم تبين لابراهيم ان والده عدو لله، وانه لا
ينوي الايمان، فتبرا منه وقطع علاقته به.
للمرة الثانية في قصص الانبياء نصادف هذه المفاجاة. في قصة نوح كان الاب نبيا والابن
كافرا، وفي قصة ابراهيم كان الاب كافرا والابن نبيا، وفي القصتين نرى المؤمن يعلن براءته
من عدو الله رغم كونه ابنه او والده، وكان الله يفهمنا من خلال القصة ان
العلاقة الوحيدة التي ينبغي ان تقوم عليها الروابط بين الناس، هي علاقة الايمان لا علاقة
الميلاد والدم.
خرج ابراهيم عليه السلام من بلده وبدا هجرته. سافر الى مدينة تدعى اور. ومدينة تسمى
حاران. ثم رحل الى فلسطين ومعه زوجته، المراة الوحيدة التي امنت به. وصحب معه لوطا..
الرجل الوحيد الذي امن به.
بعد فلسطين ذهب ابراهيم الى مصر. وطوال هذا الوقت وخلال هذه الرحلات كلها، كان يدعو
الناس الى عبادة الله، ويحارب في سبيله، ويخدم الضعفاء والفقراء، ويعدل بين الناس، ويهديهم الى
الحقيقة والحق.
وتاتي بعض الروايات لتبين قصة ابراهيم عليه السلام وزوجته سارة وموقفهما مع ملك مصر. فتقول:

وصلت الاخبار لملك مصر بوصول رجل لمصر معه امراة هي اجمل نساء الارض. فطمع بها.
وارسل جنوده لياتونه بهذه المراة. وامرهم بان يسالوا عن الرجل الذي معها، فان كان زوجها
فليقتلوه. فجاء الوحي لابراهيم عليه السلام بذلك. فقال ابراهيم -عليه السلام- لسارة ان سالوك عني
فانت اختي -اي اخته في الله-، وقال لها ما على هذه الارض مؤمن غيري وغيرك
-فكل اهل مصر كفرة، ليس فيها موحد لله عز وجل. فجاء الجنود وسالوا ابراهيم: ما
تكون هذه منك؟ قال: اختي.
لنقف هنا قليلا.. قال ابراهيم حينما قال لقومه (اني سقيم) و (بل فعله كبيرهم هذا
فاسالوه) و (هي اختي). كلها كلمات تحتمل التاويل. لكن مع هذا كان ابراهيم عليه السلام
خائفا جدا من حسابه على هذه الكلمات يوم القايمة. فعندما يذهب البشر له يوقم القيامة
ليدعوا الله ان يبدا الحساب يقول لهم لا اني كذب على ربي ثلاث مرات.
ونجد ان البشر الان يكذبون امام الناس من غير استحياء ولا خوف من خالقهم.
لما عرفت سارة ان ملك مصر فاجر ويريدها له اخذت تدعوا الله قائلة: اللهم ان
كنت تعلم اني امنت بك وبرسولك واحصنت فرجي الا على زوجي فلا تسلط علي الكافر.

فلما ادخلوها عليه. مد يده اليها ليلمسها فشل وتجمدت يده في مكانها، فبدا بالصراخ لانه
لم يعد يستطيع تحريكها، وجاء اعوانه لمساعدته لكنهم لم يستطيعوا فعل شيء. فخافت سارة على
نفسها ان يقتلوها بسبب ما فعلته بالملك. فقالت: يا رب اتركه لا يقتلوني به. فاستجاب
الله لدعائها.
لكن الملك لم يتب وظن ان ما حدث كان امرا عابرا وذهب. فهجم عليها مرة
اخرى. فشل مرة ثانية. فقال: فكيني. فدعت الله تعالى ففكه. فمد يده ثالثة فشل. فقال:
فكيني واطلقك واكرمك. فدعت الله سبحانه وتعالى ففك. فصرخ الملك باعوانه: ابعدوها عني فانكم لم
تاتوني بانسان بل اتيتموني بشيطان.
فاطلقها واعطاها شيئا من الذهب، كما اعطاها امة اسمها “هاجر”.
هذه الرواية مشهورة عن دخول ابراهيم -عليه السلام- لمصر.
وكانت زوجته سارة لا تلد. وكان ملك مصر قد اهداها سيدة مصرية لتكون في خدمتها،
وكان ابراهيم قد صار شيخا، وابيض شعره من خلال عمر ابيض انفقه في الدعوة الى
الله، وفكرت سارة انها وابراهيم وحيدان، وهي لا تنجب اولادا، ماذا لو قدمت له السيدة
المصرية لتكون زوجة لزوجها؟ وكان اسم المصرية “هاجر”. وهكذا زوجت سارة سيدنا ابراهيم من هاجر،
وولدت هاجر ابنها الاول فاطلق والده عليه اسم “اسماعيل”. كان ابراهيم شيخا حين ولدت له
هاجر اول ابنائه اسماعيل.
ولسنا نعرف ابعاد المسافات التي قطعها ابراهيم في رحلته الى الله. كان دائما هو المسافر
الى الله. سواء استقر به المقام في بيته او حملته خطواته سائحا في الارض. مسافر
الى الله يعلم انها ايام على الارض وبعدها يجيء الموت ثم ينفخ في الصور وتقوم
قيامة الاموات ويقع البعث.

احياء الموتى:

ملا اليوم الاخر قلب ابراهيم بالسلام والحب واليقين. واراد ان يرى يوما كيف يحيي الله
عز وجل الموتى. حكى الله هذا الموقف في سورة (البقرة).. قال تعالى:
واذ قال ابراهيم رب ارني كيف تحيي الموتى قال اولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن
قلبي
لا تكون هذه الرغبة في طمانينة القلب مع الايمان الا درجة من درجات الحب لله.

قال فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم
ادعهن ياتينك سعيا واعلم ان الله عزيز حكيم
فعل ابراهيم ما امره به الله. ذبح اربعة من الطير وفرق اجزاءها على الجبال. ودعاها
باسم الله فنهض الريش يلحق بجناحه، وبحثت الصدور عن رؤوسها، وتطايرت اجزاء الطير مندفعة نحو
الالتحام، والتقت الضلوع بالقلوب، وسارعت الاجزاء الذبيحة للالتئام، ودبت الحياة في الطير، وجاءت طائرة مسرعة
ترمي بنفسها في احضان ابراهيم. اعتقد بعض المفسرين ان هذه التجربة كانت حب استطلاع من
ابراهيم. واعتقد بعضهم انه اراد ان يرى يد ذي الجلال الخالق وهي تعمل، فلم ير
الاسلوب وان راى النتيجة. واعتقد بعض المفسرين انه اكتفى بما قاله له الله ولم يذبح
الطير. ونعتقد ان هذه التجربة كانت درجة من درجات الحب قطعها المسافر الى الله. ابراهيم.

رحلة ابراهيم مع هاجر واسماعيل لوادي مكة:

استيقظ ابراهيم يوما فامر زوجته هاجر ان تحمل ابنها وتستعد لرحلة طويلة. وبعد ايام بدات
رحلة ابراهيم مع زوجته هاجر ومعهما ابنهما اسماعيل. وكان الطفل رضيعا لم يفطم بعد. وظل
ابراهيم يسير وسط ارض مزروعة تاتي بعدها صحراء تجيء بعدها جبال. حتى دخل الى صحراء
الجزيرة العربية، وقصد ابراهيم واديا ليس فيه زرع ولا ثمر ولا شجر ولا طعام ولا
مياه ولا شراب. كان الوادي يخلو تماما من علامات الحياة. وصل ابراهيم الى الوادي، وهبط
من فوق ظهر دابته. وانزل زوجته وابنه وتركهما هناك، ترك معهما جرابا فيه بعض الطعام،
وقليلا من الماء. ثم استدار وتركهما وسار.
اسرعت خلفه زوجته وهي تقول له: يا ابراهيم اين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس
فيه شيء؟
لم يرد عليها سيدنا ابراهيم. ظل يسير. عادت تقول له ما قالته وهو صامت. اخيرا
فهمت انه لا يتصرف هكذا من نفسه. ادركت ان الله امره بذلك وسالته: هل الله
امرك بهذا؟ قال ابراهيم عليه السلام: نعم.
قالت زوجته المؤمنة العظيمة: لن نضيع ما دام الله معنا وهو الذي امرك بهذا. وسار
ابراهيم حتى اذا اخفاه جبل عنهما وقف ورفع يديه الكريمتين الى السماء وراح يدعو الله:
(ربنا اني اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم).
لم يكن بيت الله قد اعيد بناؤه بعد، لم تكن الكعبة قد بنيت، وكانت هناك
حكمة عليا في هذه التصرفات الغامضة، فقد كان اسماعيل الطفل الذي ترك مع امه في
هذا المكان، كان هذا الطفل هو الذي سيصير مسؤولا مع والده عن بناء الكعبة فيما
بعد. وكانت حكمة الله تقضي ان يمتد العمران الى هذا الوادي، وان يقام فيه بيت
الله الذي نتجه جميعا اليه اثناء الصلاة بوجوهنا.
ترك ابراهيم زوجته وابنه الرضيع في الصحراء وعاد راجعا الى كفاحه في دعوة الله. ارضعت
ام اسماعيل ابنها واحست بالعطش. كانت الشمس ملتهبة وساخنة وتثير الاحساس بالعطش. بعد يومين انتهى
الماء تماما، وجف لبن الام. واحست هاجر واسماعيل بالعطش.. كان الطعام قد انتهى هو الاخر.
وبدا الموقف صعبا وحرجا للغاية.

ماء زمزم:

بدا اسماعيل يبكي من العطش. وتركته امه وانطلقت تبحث عن ماء. راحت تمشي مسرعة حتى
وصلت الى جبل اسمه “الصفا”. فصعدت اليه وراحت تبحث بهما عن بئر او انسان او
قافلة. لم يكن هناك شيء. ونزلت مسرعة من الصفا حتى اذا وصلت الى الوادي راحت
تسعى سعي الانسان المجهد حتى جاوزت الوادي ووصلت الى جبل “المروة”، فصعدت اليه ونظرت لترى
احدا لكنها لم تر احدا. وعادت الام الى طفلها فوجدته يبكي وقد اشتد عطشه. واسرعت
الى الصفا فوقفت عليه، وهرولت الى المروة فنظرت من فوقه. وراحت تذهب وتجيء سبع مرات
بين الجبلين الصغيرين. سبع مرات وهي تذهب وتعود. ولهذا يذهب الحجاج سبع مرات ويعودون بين
الصفا والمروة احياء لذكريات امهم الاولى ونبيهم العظيم اسماعيل. عادت هاجر بعد المرة السابعة وهي
مجهدة متعبة تلهث. وجلست بجوار ابنها الذي كان صوته قد بح من البكاء والعطش.
وفي هذه اللحظة اليائسة ادركتها رحمة الله، وضرب اسماعيل بقدمه الارض وهو يبكي فانفجرت تحت
قدمه بئر زمزم. وفار الماء من البئر. انقذت حياتا الطفل والام. راحت الام تغرف بيدها
وهي تشكر الله. وشربت وسقت طفلها وبدات الحياة تدب في المنطقة. صدق ظنها حين قالت:
لن نضيع ما دام الله معنا.
وبدات بعض القوافل تستقر في المنطقة. وجذب الماء الذي انفجر من بئر زمزم عديدا من
الناس. وبدا العمران يبسط اجنحته على المكان.

الامر بذبح اسماعيل عليه السلام:

كبر اسماعيل.. وتعلق به قلب ابراهيم.. جاءه العقب على كبر فاحبه.. وابتلى الله تعالى ابراهيم
بلاء عظيما بسبب هذا الحب. فقد راى ابراهيم عليه السلام في المنام انه يذبح ابنه
الوحيد اسماعيل. وابراهيم يعمل ان رؤيا الانبياء وحي.
انظر كيف يختبر الله عباده. تامل اي نوع من انواع الاختبار. نحن امام نبي قلبه
ارحم قلب في الارض. اتسع قلبه لحب الله وحب من خلق. جاءه ابن على كبر..
وقد طعن هو في السن ولا امل هناك في ان ينجب. ثم ها هو ذا
يستسلم للنوم فيرى في المنام انه يذبح ابنه وبكره ووحيده الذي ليس له غيره.
اي نوع من الصراع نشب في نفسه. يخطئ من يظن ان صراعا لم ينشا قط.
لا يكون بلاء مبينا هذا الموقف الذي يخلو من الصراع. نشب الصراع في نفس ابراهيم..
صراع اثارته عاطفة الابوة الحانية. لكن ابراهيم لم يسال عن السبب وراء ذبح ابنه. فليس
ابراهيم من يسال ربه عن اوامره.
فكر ابراهيم في ولده.. ماذا يقول عنه اذا ارقده على الارض ليذبحه.. الافضل ان يقول
لولده ليكون ذلك اطيب لقلبه واهون عليه من ان ياخذه قهرا ويذبحه قهرا. هذا افضل..
انتهى الامر وذهب الى ولده (قال يا بني اني ارى في المنام اني اذبحك فانظر
ماذا ترى). انظر الى تلطفه في ابلاغ ولده، وترك الامر لينظر فيه الابن بالطاعة.. ان
الامر مقضي في نظر ابراهيم لانه وحي من ربه.. فماذا يرى الابن الكريم في ذلك؟
اجاب اسماعيل: هذا امر يا ابي فبادر بتنفيذه (يا ابت افعل ما تؤمر ستجدني ان
شاء الله من الصابرين). تامل رد الابن.. انسان يعرف انه سيذبح فيمتثل للامر الالهي ويقدم
المشيئة ويطمئن والده انه سيجده (ان شاء الله من الصابرين). هو الصبر على اي حال
وعلى كل حال.. وربما استعذب الابن ان يموت ذبحا بامر من الله.. ها هو ذا
ابراهيم يكتشف ان ابنه ينافسه في حب الله. لا نعرف اي مشاعر جاشت في نفس
ابراهيم بعد استسلام ابنه الصابر.
ينقلنا الحق نقلة خاطفة فاذا اسماعيل راقد على الارض، وجهه في الارض رحمة به كيلا
يرى نفسه وهو يذبح. واذا ابراهيم يرفع يده بالسكين.. واذا امر الله مطاع. (فلما اسلما)
استخدم القران هذا التعبير.. (فلما اسلما) هذا هو الاسلام الحقيقي.. تعطي كل شيء، فلا يتبقى
منك شيء.
عندئذ فقط.. وفي اللحظة التي كان السكين فيها يتهيا لامضاء امره.. نادى الله ابراهيم.. انتهى
اختباره، وفدى الله اسماعيل بذبح عظيم – وصار اليوم عيدا لقوم لم يولدوا بعد، هم
المسلمون. صارت هذه اللحظات عيدا للمسلمين. عيدا يذكرهم بمعنى الاسلام الحقيقي الذي كان عليه ابراهيم
واسماعيل.
ومضت قصة ابراهيم. ترك ولده اسماعيل وعاد يضرب في ارض الله داعيا اليه، خليلا له
وحده. ومرت الايام. كان ابراهيم قد هاجر من ارض الكلدانيين مسقط راسه في العراق وعبر
الاردن وسكن في ارض كنعان في البادية. ولم يكن ابراهيم ينسى خلال دعوته الى الله
ان يسال عن اخبار لوط مع قومه، وكان لوط اول من امن به، وقد اثابه
الله بان بعثه نبيا الى قوم من الفاجرين العصاة.

البشرى باسحاق:

كان ابراهيم جالس لوحده. في هذه اللحظة، هبطت على الارض اقدام ثلاثة من الملائكة: جبريل
واسرافيل وميكائيل. يتشكلون في صور بشرية من الجمال الخارق. ساروا صامتين. مهمتهم مزودجة. المرور على
ابراهيم وتبشيره. ثم زيارة قوم لوط ووضع حد لجرائمهم.
سار الملائكة الثلاثة قليلا. القى احدهم حصاة امام ابراهيم. رفع ابراهيم راسه.. تامل وجوههم.. لا
يعرف احدا فيهم. بادروه بالتحية. قالوا: سلاما. قال: سلام.
نهض ابراهيم ورحب بهم. ادخلهم بيته وهو يظن انهم ضيوف وغرباء. اجلسهم واطمان انهم قد
اطمانوا، ثم استاذن وخرج. راغ الى اهله.
نهضت زوجته سارة حين دخل عليها. كانت عجوزا قد ابيض شعرها ولم يعد يتوهج بالشباب
فيها غير وميض الايمان الذي يطل من عينيها.
قال ابراهيم لزوجته: زارنا ثلاثة غرباء.
سالته: من يكونون؟
قال: لا اعرف احدا فيهم. وجوه غريبة على المكان. لا ريب انهم من مكان بعيد،
غير ان ملابسهم لا تشي بالسفر الطويل. اي طعام جاهز لدينا؟
قالت: نصف شاة.
قال وهو يهم بالانصراف: نصف شاة.. اذبحي لهم عجلا سمينا. هم ضيوف وغرباء. ليست معهم
دواب او احمال او طعام. ربما كانوا جوعى وربما كانوا فقراء.
اختار ابراهيم عجلا سمينا وامر بذبحه، فذكروا عليه اسم الله وذبحوه. وبدا شواء العجل على
الحجارة الساخنة. واعدت المائدة. ودعا ابراهيم ضيوفه الى الطعام. اشار ابراهيم بيده ان يتفضلوا باسم
الله، وبدا هو ياكل ليشجعهم. كان ابراهيم كريما يعرف ان الله لا يتخلى عن الكرماء
وربما لم يكن في بيته غير هذا العجل، وضيوفه ثلاثة ونصف شاة يكفيهم ويزيد، غير
انه كان سيدا عظيم الكرم. راح ابراهيم ياكل ثم استرق النظر الى ضيوفه ليطمئن انهم
ياكلون. لاحظ ان احدا لا يمد يده الى الطعام. قرب اليهم الطعام وقال: الا تاكلون؟
عاد الى طعامه ثم اختلس اليهم نظرة فوجدهم لا ياكلون.. راى ايديهم لا تصل الى
الطعام. عندئذ (اوجس منهم خيفة). في تقاليد البادية التي عاش فيها ابراهيم، كان معنى امتناع
الضيوف عن الاكل انهم يقصدون شرا بصاحب البيت.
ولاحظ ابراهيم بينه وبين نفسه اكثر من ملاحظة تؤيد غرابة ضيوفه. لاحظ انهم دخلوا عليه
فجاة. لم يرهم الا وهم عند راسه. لم يكن معهم دواب تحملهم، لم تكن معهم
احمال. وجوههم غريبة تماما عليه. كانوا مسافرين وليس عليهم اثر لتراب السفر. ثم ها هو
ذا يدعوهم الى طعامه فيجلسون الى المائدة ولا ياكلون. ازداد خوف ابراهيم.
كان الملائكة يقرءون افكاره التي تدور في نفسه، دون ان يشي بها وجهه. قال له
احد الملائكة: (لا تخف). رفع ابراهيم راسه وقال بصدق عظيم وبراءة: اعترف انني خائف. لقد
دعوتكم الى الطعام ورحبت بكم، ولكنكم لا تمدون ايديكم اليه.. هل تنوون بي شرا؟
ابتسم احد الملائكة وقال: نحن لا ناكل يا ابراهيم.. نحن ملائكة الله.. وقد (ارسلنا الى
قوم لوط)
ضحكت زوجة ابراهيم.. كانت قائمة تتابع الحوار بين زوجها وبينهم، فضحكت.
التفت اليها احد الملائكة وبشرها باسحاق.
صكت العجوز وجهها تعجبا:
قالت يا ويلتى االد وانا عجوز وهذا بعلي شيخا ان هذا لشيء عجيب (72) (هود)

عاد احد الملائكة يقول لها:
ومن وراء اسحق يعقوب
جاشت المشاعر في قلب ابراهيم وزوجته. شف جو الحجرة وانسحب خوف ابراهيم واحتل قلبه نوع
من انواع الفرح الغريب المختلط. كانت زوجته العاقر تقف هي الاخرى وهي ترتجف. ان بشارة
الملائكة تهز روحها هزا عميقا. انها عجوز عقيم وزوجها شيخ كبير. كيف؟! كيف يمكن؟!
وسط هذا الجو الندي المضطرب تساءل ابراهيم:
ابشرتموني على ان مسني الكبر فبم تبشرون (54) (الحجر)
اكان يريد ان يسمع البشارة مرة اخرى؟ اكان يريد ان يطمئن قلبه ويسمع للمرة الثانية
منة الله عليه؟ اكان ما بنفسه شعورا بشريا يريد ان يستوثق؟ ويهتز بالفرح مرتين بدلا
من مرة واحدة؟ اكد له الملائكة انهم بشروه بالحق.
قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين (55) (الحجر)
قال ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون (56) (الحجر)
لم يفهم الملائكة احساسه البشري، فنوه عن ان يكون من القانطين، وافهمهم انه ليس قانطا..
انما هو الفرح.
لم تكن البشرى شيئا بسيطا في حياة ابراهيم وزوجته. لم يكن لابراهيم غير ولد واحد
هو اسماعيل، تركه هناك بعيدا في الجزيرة العربية. ولم تكن زوجته سارة قد انجبت خلال
عشرتها الطويلة لابراهيم، وهي التي زوجته من جاريتها هاجر. ومن هاجر جاء اسماعيل. اما سارة،
فلم يكن لها ولد. وكان حنينها الى الولد عظيما، لم يطفئ مرور الايام من توهجه.
ثم دخلت شيخوختها واحتضر حلمها ومات. كانت تقول: انها مشيئة الله عز وجل.
هكذا اراد الله لها. وهكذا اراد لزوجها. ثم ها هي ذي في مغيب العمر تتلقى
البشارة. ستلد غلاما. ليس هذا فحسب، بشرتها الملائكة بان ابنها سيكون له ولد تشهد مولده
وتشهد حياته. لقد صبرت طويلا ثم يئست ثم نسيت. ثم يجيء جزاء الله مفاجاة تمحو
هذا كله في لحظة.
فاضت دموعها وهي تقف. واحس ابراهيم عليه الصلاة والسلام باحساس محير. جاشت نفسه بمشاعر الرحمة
والقرب، وعاد يحس بانه ازاء نعمة لا يعرف كيف يوفيها حقها من الشكر. وخر ابراهيم
ساجدا على وجهه.
انتهى الامر واستقرت البشرى في ذهنيهما معا. نهض ابراهيم من سجوده وقد ذهب عنه خوفه،
واطمانت حيرته، وغادره الروع، وسكنت قلبه البشرى التي حملوها اليه. وتذكر انهم ارسلوا الى قوم
لوط. ولوط ابن اخيه النازح معه من مسقط راسه، والساكن على مقربة منه. وابراهيم يعرف
معنى ارسال الملائكة الى لوط وقومه. هذا معناه وقوع عذاب مروع. وطبيعة ابراهيم الرحيمة الودودة
لا تجعله يطيق هلاك قوم في تسليم. ربما رجع قوم لوط واقلعوا واسلموا اجابوا رسولهم.

وبدا ابراهيم يجادل الملائكة في قوم لوط. حدثهم عن احتمال ايمانهم ورجوعهم عن طريق الفجور،
وافهمه الملائكة ان هؤلاء قوم مجرمون. وان مهمتهم هي ارسال حجارة من طين مسومة من
عند ربك للمسرفين. وعاد ابراهيم، بعد ان سد الملائكة باب هذا الحوار، عاد يحدثهم عن
المؤمنين من قوم لوط. فقالت الملائكة: نحن اعلم بمن فيها. ثم افهموه ان الامر قد
قضي. وان مشيئة الله تبارك وتعالى قد اقتضت نفاذ الامر وهلاك قوم لوط. افهموا ابراهيم
ان عليه ان يعرض عن هذا الحوار. ليوفر حلمه ورحمته. لقد جاء امر ربه. وتقرر
عليهم (عذاب غير مردود) عذاب لن يرده جدال ابراهيم. كانت كلمة الملائكة ايذانا بنهاية الجدال..
سكت ابراهيم. وتوجهت الملائكة لقوم لوط عليه السلام

وكانت نهايتهم

ادريس

نبذة:

كان صديقا نبيا ومن الصابرين، اول نبي بعث في الارض بعد ادم، وهو ابو جد
نوح، انزلت عليه ثلاثون صحيفة، ودعا الى وحدانية الله وامن به الف انسان، وهو اول
من خط بالقلم واول من خاط الثياب ولبسها، واول من نظر في علم النجوم وسيرها.

سيرته:

ادريس عليه السلام هو احد الرسل الكرام الذين اخبر الله تعالى عنهم في كتابة العزيز،
وذكره في بضعة مواطن من سور القران، وهو ممن يجب الايمان بهم تفصيلا اي يجب
اعتقاد نبوته ورسالته على سبيل القطع والجزم لان القران قد ذكره باسمه وحدث عن شخصه
فوصفه بالنبوة والصديقية.

نسبه:

هو ادريس بن يارد بن مهلائيل وينتهي نسبه الى شيث بن ادم عليه السلام واسمه
عند العبرانيين (خنوخ) وفي الترجمة العربية (اخنوخ) وهو من اجداد نوح عليه السلام. وهو اول
بني ادم اعطي النبوة بعد (ادم) و (شيث) عليهما السلام، وذكر ابن اسحاق انه اول
من خط بالقلم، وقد ادرك من حياة ادم عليه السلام 308 سنوات لان ادم عمر
طويلا زهاء 1000 الف سنة.

حياته:

وقد اختلف العلماء في مولده ونشاته، فقال بعضهم ان ادريس ولد ببابل، وقال اخرون انه
ولد بمصر والصحيح الاول، وقد اخذ في اول عمره بعلم شيث بن ادم، ولما كبر
اتاه الله النبوة فنهي المفسدين من بني ادم عن مخالفتهم شريعة (ادم) و (شيث) فاطاعه
نفر قليل، وخالفه جمع خفير، فنوى الرحلة عنهم وامر من اطاعه منهم بذلك فثقل عليهم
الرحيل عن اوطانهم فقالوا له، واين نجد اذا رحلنا مثل (بابل) فقال اذا هاجرنا رزقنا
الله غيره، فخرج وخرجوا حتى وصلوا الى ارض مصر فراوا النيل فوقف على النيل وسبح
الله، واقام ادريس ومن معه بمصر يدعو الناس الى الله والى مكارم الاخلاق. وكانت له
مواعظ واداب فقد دعا الى دين الله، والى عبادة الخالق جل وعلا، وتخليص النفوس من
العذاب في الاخرة، بالعمل الصالح في الدنيا وحض على الزهد في هذه الدنيا الفانية الزائلة،
وامرهم بالصلاة والصيام والزكاة وغلظ عليهم في الطهارة من الجنابة، وحرم المسكر من كل شي
من المشروبات وشدد فيه اعظم تشديد وقيل انه كان في زمانه 72 لسانا يتكلم الناس
بها وقد علمه الله تعالى منطقهم جميعا ليعلم كل فرقة منهم بلسانهم. وهو اول من
علم السياسة المدنية، ورسم لقومه قواعد تمدين المدن، فبنت كل فرقة من الامم مدنا في
ارضها وانشئت في زمانه 188 مدينة وقد اشتهر بالحكمة فمن حكمة قوله (خير الدنيا حسرة،
وشرها ندم) وقوله (السعيد من نظر الى نفسه وشفاعته عند ربه اعماله الصالحة) وقوله (الصبر
مع الايمان يورث الظفر).

وفاته:

وقد اختلف في موته.. فعن ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن الاعمش، عن شمر
بن عطية، عن هلال بن يساف قال: سال ابن عباس كعبا وانا حاضر فقال له:
ما قول الله تعالى لادريس {ورفعناه مكانا عليا}؟ فقال كعب: اما ادريس فان الله اوحى
اليه: اني ارفع لك كل يوم مثل جميع عمل بني ادم – لعله من اهل
زمانه – فاحب ان يزداد عملا، فاتاه خليل له من الملائكة، فقال “له”: ان الله
اوحى الي كذا وكذا فكلم ملك الموت حتى ازداد عملا، فحمله بين جناحيه ثم صعد
به الى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت منحدرا، فكلم ملك الموت
في الذي كلمه فيه ادريس، فقال: واين ادريس؟ قال هو ذا على ظهري، فقال ملك
الموت: يا للعجب! بعثت وقيل لي اقبض روح ادريس في السماء الرابعة، فجعلت اقول: كيف
اقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الارض؟! فقبض روحه هناك. فذلك قول الله عز
وجل {ورفعناه مكانا عليا}. ورواه ابن ابي حاتم عند تفسيرها. وعنده فقال لذلك الملك سل
لي ملك الموت كم بقي من عمري؟ فساله وهو معه: كم بقي من عمره؟ فقال:
لا ادري حتى انظر، فنظر فقال انك لتسالني عن رجل ما بقي من عمره الا
طرفة عين، فنظر الملك الى تحت جناحه الى ادريس فاذا هو قد قبض وهو لا
يشعر. وهذا من الاسرائيليات، وفي بعضه نكارة.
وقول ابن ابي نجيح عن مجاهد في قوله: {ورفعناه مكانا عليا} قال: ادريس رفع ولم
يمت كما رفع عيسى. ان اراد انه لم يمت الى الان ففي هذا نظر، وان
اراد انه رفع حيا الى السماء ثم قبض هناك. فلا ينافي ما تقدم عن كعب
الاحبار. والله اعلم.
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {ورفعناه مكانا عليا} : رفع الى السماء السادسة
فمات بها، وهكذا قال الضحاك. والحديث المتفق عليه من انه في السماء الرابعة اصح، وهو
قول مجاهد وغير واحد. وقال الحسن البصري: {ورفعناه مكانا عليا} قال: الى الجنة، وقال قائلون
رفع في حياة ابيه يرد بن مهلاييل والله اعلم. وقد زعم بعضهم ان ادريس لم
يكن قبل نوح بل في زمان بني اسرائيل.
قال البخاري: ويذكر عن ابن مسعود وابن عباس ان الياس هو ادريس، واستانسوا في ذلك
بما جاء في حديث الزهري عن انس في الاسراء: انه لما مر به عليه السلام
قال له مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح، ولم يقل كما قال ادم و ابراهيم: مرحبا
بالنبي الصالح والابن الصالح، قالوا: فلو كان في عمود نسبه لقال له كما قالا له.

وهذا لا يدل ولابد، قد لا يكون الراوي حفظه جيدا، او لعله قاله على سبيل
الهضم والتواضع، ولم ينتصب له في مقام الابوة كما انتصب لادم ابي البشر، وابراهيم الذي
هو خليل الرحمن، واكبر اولي العزم بعد محمد صلوات الله عليهم اجمعين.
ادم

نبذة:

ابو البشر، خلقه الله بيده واسجد له الملائكة وعلمه الاسماء وخلق له زوجته واسكنهما الجنة
وانذرهما ان لا يقربا شجرة معينة ولكن الشيطان وسوس لهما فاكلا منها فانزلهما الله الى
الارض ومكن لهما سبل العيش بها وطالبهما بعبادة الله وحده وحض الناس على ذلك، وجعله
خليفته في الارض، وهو رسول الله الى ابنائه وهو اول الانبياء.

سيرته:

خلق ادم عليه السلام:

اخبر الله سبحانه وتعالى ملائكة بانه سيخلق بشرا خليفة له في الارض. فقال الملائكة: (اتجعل
فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك).
ويوحي قول الملائكة هذا بانه كان لديهم تجارب سابقة في الارض , او الهام وبصيرة
, يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق , ما يجعلهم يتوقعون انه سيفسد
في الارض , وانه سيسفك الدماء . . ثم هم – بفطرة الملائكة البريئة التي
لا تتصور الا الخير المطلق – يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له , هو وحده
الغاية للوجود . . وهو متحقق بوجودهم هم , يسبحون بحمد الله ويقدسون له, ويعبدونه
ولا يفترون عن عبادته !
هذه الحيرة والدهشة التي ثارت في نفوس الملائكة بعد معرفة خبر خلق ادم.. امر جائز
على الملائكة، ولا ينقص من اقدارهم شيئا، لانهم، رغم قربهم من الله، وعبادتهم له، وتكريمه
لهم، لا يزيدون على كونهم عبيدا لله، لا يشتركون معه في علمه، ولا يعرفون حكمته
الخافية، ولا يعلمون الغيب . لقد خفيت عليهم حكمة الله تعالى , في بناء هذه
الارض وعمارتها , وفي تنمية الحياة , وفي تحقيق ارادة الخالق في تطويرها وترقيتها وتعديلها
, على يد خليفة الله في ارضه . هذا الذي قد يفسد احيانا , وقد
يسفك الدماء احيانا . عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء , والخبير بمصائر الامور:
(اني اعلم ما لا تعلمون).
وما ندري نحن كيف قال الله او كيف يقول للملائكة . وما ندري كذلك كيف
يتلقى الملائكة عن الله ، فلا نعلم عنهم سوى ما بلغنا من صفاتهم في كتاب
الله . ولا حاجة بنا الى الخوض في شيء من هذا الذي لا طائل وراء
الخوض فيه . انما نمضي الى مغزى القصة ودلالتها كما يقصها القران .
ادركت الملائكة ان الله سيجعل في الارض خليفة.. واصدر الله سبحانه وتعالى امره اليهم تفصيلا،
فقال انه سيخلق بشرا من طين، فاذا سواه ونفخ فيه من روحه فيجب على الملائكة
ان تسجد له، والمفهوم ان هذا سجود تكريم لا سجود عبادة، لان سجود العبادة لا
يكون الا لله وحده.
جمع الله سبحانه وتعالى قبضة من تراب الارض، فيها الابيض والاسود والاصفر والاحمر – ولهذا
يجيء الناس الوانا مختلفة – ومزج الله تعالى التراب بالماء فصار صلصالا من حما مسنون.
تعفن الطين وانبعثت له رائحة.. وكان ابليس يمر عليه فيعجب اي شيء يصير هذا الطين؟

سجود الملائكة لادم:

من هذا الصلصال خلق الله تعالى ادم .. سواه بيديه سبحانه ، ونفخ فيه من
روحه سبحانه .. فتحرك جسد ادم ودبت فيه الحياة.. فتح ادم عينيه فراى الملائكة كلهم
ساجدين له .. ما عدا ابليس الذي كان يقف مع الملائكة، ولكنه لم يكن منهم،
لم يسجد .. فهل كان ابليس من الملائكة ? الظاهر انه لا . لانه لو
كان من الملائكة ما عصى . فالملائكة لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون
. . وسيجيء انه خلق من نار . والماثور ان الملائكة خلق من نور .
. ولكنه كان مع الملائكة وكان مامورا بالسجود .
اما كيف كان السجود ? واين ? ومتى ? كل ذلك في علم الغيب عند
الله . ومعرفته لا تزيد في مغزى القصة شيئا..
فوبخ الله سبحانه وتعالى ابليس: (قال يا ابليس ما منعك ان تسجد لما خلقت بيدي
استكبرت ام كنت من العالين) . فرد بمنطق يملاه الحسد: (قال انا خير منه خلقتني
من نار وخلقته من طين) . هنا صدر الامر الالهي العالي بطرد هذا المخلوق المتمرد
القبيح: (قال فاخرج منها فانك رجيم) وانزال اللعنة عليه الى يوم الدين. ولا نعلم ما
المقصود بقوله سبحانه (منها) فهل هي الجنة ? ام هل هي رحمة الله . .
هذا وذلك جائز . ولا محل للجدل الكثير . فانما هو الطرد واللعنة والغضب جزاء
التمرد والتجرؤ على امر الله الكريم .
قال فالحق والحق اقول (84) لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم اجمعين (85) (ص)
هنا تحول الحسد الى حقد . والى تصميم على الانتقام في نفس ابليس: (قال رب
فانظرني الى يوم يبعثون) . واقتضت مشيئة الله للحكمة المقدرة في علمه ان يجيبه الى
ما طلب , وان يمنحه الفرصة التي اراد. فكشف الشيطان عن هدفه الذي ينفق فيه
حقده: (قال فبعزتك لاغوينهم اجمعين) ويستدرك فيقول: (الا عبادك منهم المخلصين) فليس للشيطان اي سلطان
على عباد الله المؤمنين .
وبهذا تحدد منهجه وتحدد طريقه . انه يقسم بعزة الله ليغوين جميع الادميين . لا
يستثني الا من ليس له عليهم سلطان . لا تطوعا منه ولكن عجزا عن بلوغ
غايته فيهم ! وبهذا يكشف عن الحاجز بينه وبين الناجين من غوايته وكيده ; والعاصم
الذي يحول بينهم وبينه . انه عبادة الله التي تخلصهم لله . هذا هو طوق
النجاة . وحبل الحياة ! . . وكان هذا وفق ارادة الله وتقديره في الردى
والنجاة . فاعلن – سبحانه – ارادته . وحدد المنهج والطريق: (لاملان جهنم منك وممن
تبعك منهم اجمعين) .
فهي المعركة اذن بين الشيطان وابناء ادم , يخوضونها على علم . والعاقبة مكشوفة لهم
في وعد الله الصادق الواضح المبين . وعليهم تبعة ما يختارون لانفسهم بعد هذا البيان
. وقد شاءت رحمة الله الا يدعهم جاهلين ولا غافلين . فارسل اليهم المنذرين .

تعليم ادم الاسماء:

ثم يروي القران الكريم قصة السر الالهي العظيم الذي اودعه الله هذا الكائن البشري ,
وهو يسلمه مقاليد الخلافة: (وعلم ادم الاسماء كلها) . سر القدرة على الرمز بالاسماء للمسميات
. سر القدرة على تسمية الاشخاص والاشياء باسماء يجعلها – وهي الفاظ منطوقة – رموزا
لتلك الاشخاص والاشياء المحسوسة . وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الانسان على الارض
. ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى , لو لم يوهب الانسان القدرة على الرمز
بالاسماء للمسميات , والمشقة في التفاهم والتعامل , حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع
الاخرين على شيء ان يستحضر هذا الشيء بذاته امامهم ليتفاهموا بشانه . . الشان شان
نخلة فلا سبيل الى التفاهم عليه الا باستحضار جسم النخلة ! الشان شان جبل .
فلا سبيل الى التفاهم عليه الا بالذهاب الى الجبل ! الشان شان فرد من الناس
فلا سبيل الى التفاهم عليه الا بتحضير هذا الفرد من الناس . . . انها
مشقة هائلة لا تتصور معها حياة ! وان الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو
لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالاسماء للمسميات .
اما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية , لانها لا ضرورة لها في وظيفتهم .
ومن ثم لم توهب لهم . فلما علم الله ادم هذا السر , وعرض عليهم
ما عرض لم يعرفوا الاسماء . لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظية للاشياء والشخوص .
. وجهروا امام هذا العجز بتسبيح ربهم , والاعتراف بعجزهم , والاقرار بحدود علمهم ,
وهو ما علمهم . . ثم قام ادم باخبارهم باسماء الاشياء . ثم كان هذا
التعقيب الذي يردهم الى ادراك حكمة العليم الحكيم: (قال الم اقل لكم اني اعلم غيب
السماوات والارض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) .
اراد الله تعالى ان يقول للملائكة انه علم ما ابدوه من الدهشة حين اخبرهم انه
سيخلق ادم، كما علم ما كتموه من الحيرة في فهم حكمة الله، كما علم ما
اخفاه ابليس من المعصية والجحود.. ادرك الملائكة ان ادم هو المخلوق الذي يعرف.. وهذا اشرف
شيء فيه.. قدرته على التعلم والمعرفة.. كما فهموا السر في انه سيصبح خليفة في الارض،
يتصرف فيها ويتحكم فيها.. بالعلم والمعرفة.. معرفة بالخالق.. وهذا ما يطلق عليه اسم الايمان او
الاسلام.. وعلم باسباب استعمار الارض وتغييرها والتحكم فيها والسيادة عليها.. ويدخل في هذا النطاق كل
العلوم المادية على الارض.
ان نجاح الانسان في معرفة هذين الامرين (الخالق وعلوم الارض) يكفل له حياة ارقى.. فكل
من الامرين مكمل للاخر.

سكن ادم وحواء في الجنة:

كان ادم يحس الوحدة.. فخلق الله حواء من احد منه، فسماها ادم حواء. واسكنهما الجنة.
لا نعرف مكان هذه الجنة. فقد سكت القران عن مكانها واختلف المفسرون فيها على خمسة
وجوه. قال بعضهم: انها جنة الماوى، وان مكانها السماء. ونفى بعضهم ذلك لانها لو كانت
جنة الماوى لحرم دخولها على ابليس ولما جاز فيها وقوع عصيان. وقال اخرون: انها جنة
الماوى خلقها الله لادم وحواء. وقال غيرهم: انها جنة من جنات الارض تقع في مكان
مرتفع. وذهب فريق الى التسليم في امرها والتوقف.. ونحن نختار هذا الراي. ان العبرة التي
نستخلصها من مكانها لا تساوي شيئا بالقياس الى العبرة التي تستخلص مما حدث فيها.
لم يعد يحس ادم الوحدة. كان يتحدث مع حواء كثيرا. وكان الله قد سمح لهما
بان يقتربا من كل شيء وان يستمتعا بكل شيء، ما عدا شجرة واحدة. فاطاع ادم
وحواء امر ربهما بالابتعاد عن الشجرة. غير ان ادم انسان، والانسان ينسى، وقلبه يتقلب، وعزمه
ضعيف. واستغل ابليس انسانية ادم وجمع كل حقده في صدره، واستغل تكوين ادم النفسي.. وراح
يثير في نفسه يوما بعد يوم. راح يوسوس اليه يوما بعد يوم: (هل ادلك على
شجرة الخلد وملك لا يبلى) .
تسائل ادم بينه وبين نفسه. ماذا يحدث لو اكل من الشجرة ..؟ ربما تكون شجرة
الخلد حقا، وكل انسان يحب الخلود. ومرت الايام وادم وحواء مشغولان بالتفكير في هذه الشجرة.
ثم قررا يوما ان ياكلا منها. نسيا ان الله حذرهما من الاقتراب منها. نسيا ان
ابليس عودهما القديم. ومد ادم يده الى الشجرة وقطف منها احدى الثمار وقدمها لحواء. واكل
الاثنان من الثمرة المحرمة.
ليس صحيحا ما تذكره صحف اليهود من اغواء حواء لادم وتحميلها مسئولية الاكل من الشجرة.
ان نص القران لا يذكر حواء. انما يذكر ادم -كمسئول عما حدث- عليه الصلاة والسلام.
وهكذا اخطا الشيطان واخطا ادم. اخطا الشيطان بسبب الكبرياء، واخطا ادم بسبب الفضول.
لم يكد ادم ينتهي من الاكل حتى اكتشف انه اصبح عار، وان زوجته عارية. وبدا
هو وزوجته يقطعان اوراق الشجر لكي يغطي بهما كل واحد منهما جسده العاري. واصدر الله
تبارك وتعالى امره بالهبوط من الجنة.

هبوط ادم وحواء الى الارض:

وهبط ادم وحواء الى الارض. واستغفرا ربهما وتاب اليه. فادركته رحمة ربه التي تدركه دائما
عندما يثوب اليها ويلوذ بها … واخبرهما الله ان الارض هي مكانهما الاصلي.. يعيشان فيهما،
ويموتان عليها، ويخرجان منها يوم البعث.
يتصور بعض الناس ان خطيئة ادم بعصيانه هي التي اخرجتنا من الجنة. ولولا هذه الخطيئة
لكنا اليوم هناك. وهذا التصور غير منطقي لان الله تعالى حين شاء ان يخلق ادم
قال للملائكة: “اني جاعل في الارض خليفة” ولم يقل لهما اني جاعل في الجنة خليفة.
لم يكن هبوط ادم الى الارض هبوط اهانة، وانما كان هبوط كرامة كما يقول العارفون
بالله. كان الله تعالى يعلم ان ادم وحواء سياكلان من الشجرة. ويهبطان الى الارض. اما
تجربة السكن في الجنة فكانت ركنا من اركان الخلافة في الارض. ليعلم ادم وحواء ويعلم
جنسهما من بعدهما ان الشيطان طرد الابوين من الجنة، وان الطريق الى الجنة يمر بطاعة
الله وعداء الشيطان.

هابيل وقابيل:

لا يذكر لنا المولى عز وجل في كتابه الكريم الكثير عن حياة ادم عليه السلام
في الارض. لكن القران الكريم يروي قصة ابنين من ابناء ادم هما هابيل وقابيل. حين
وقعت اول جريمة قتل في الارض. وكانت قصتهما كالتالي.
كانت حواء تلد في البطن الواحد ابنا وبنتا. وفي البطن التالي ابنا وبنتا. فيحل زواج
ابن البطن الاول من البطن الثاني.. ويقال ان قابيل كان يريد زوجة هابيل لنفسه.. فامرهما
ادم ان يقدما قربانا، فقدم كل واحد منهما قربانا، فتقبل الله من هابيل ولم يتقبل
من قابيل. قال تعالى في سورة (المائدة):
واتل عليهم نبا ابني ادم بالحق اذ قربا قربانا فتقبل من احدهما ولم يتقبل من
الاخر قال لاقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين (27) لئن بسطت الي يدك لتقتلني
ما انا بباسط يدياليك لاقتلك اني اخاف الله رب العالمين (28) (المائدة)
لاحظ كيف ينقل الينا الله تعالى كلمات القتيل الشهيد، ويتجاهل تماما كلمات القاتل. عاد القاتل
يرفع يده مهددا.. قال القتيل في هدوء:
اني اريد ان تبوء باثمي واثمك فتكون من اصحاب النار وذلك جزاء الظالمين (29) (المائدة)

انتهى الحوار بينهما وانصرف الشرير وترك الطيب مؤقتا. بعد ايام.. كان الاخ الطيب نائما وسط
غابة مشجرة.. فقام اليه اخوه قابيل فقتله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا
تقتل نفس ظلما الا كان على ابن ادم الاول كفل من دمها لانه كان اول
من سن القتل”. جلس القاتل امام شقيقه الملقى على الارض. كان هذا الاخ القتيل اول
انسان يموت على الارض.. ولم يكن دفن الموتى شيئا قد عرف بعد. وحمل الاخ جثة
شقيقه وراح يمشي بها.. ثم راى القاتل غرابا حيا بجانب جثة غراب ميت. وضع الغراب
الحي الغراب الميت على الارض وساوى اجنحته الى جواره وبدا يحفر الارض بمنقاره ووضعه برفق
في القبر وعاد يهيل عليه التراب.. بعدها طار في الجو وهو يصرخ.
اندلع حزن قابيل على اخيه هابيل كالنار فاحرقه الندم. اكتشف انه وهو الاسوا والاضعف، قد
قتل الافضل والاقوى. نقص ابناء ادم واحدا. وكسب الشيطان واحدا من ابناء ادم. واهتز جسد
القاتل ببكاء عنيف ثم انشب اظافره في الارض وراح يحفر قبر شقيقه.
قال ادم حين عرف القصة: (هذا من عمل الشيطان انه عدو مضل مبين) وحزن حزنا
شديدا على خسارته في ولديه. مات احدهما، وكسب الشيطان الثاني. صلى ادم على ابنه، وعاد
الى حياته على الارض: انسانا يعمل ويشقى ليصنع خبزه. ونبيا يعظ ابنائه واحفاده ويحدثهم عن
الله ويدعوهم اليه، ويحكي لهم عن ابليس ويحذرهم منه. ويروي لهم قصته هو نفسه معه،
ويقص لهم قصته مع ابنه الذي دفعه لقتل شقيقه.

موت ادم عليه السلام:

وكبر ادم. ومرت سنوات وسنوات.. وعن فراش موته، يروي ابي بن كعب، فقال: ان ادم
لما حضره الموت قال لبنيه: اي بني، اني اشتهي من ثمار الجنة. قال: فذهبوا يطلبون
له، فاستقبلتهم الملائكة ومعهم اكفانه وحنوطه، ومعهم الفؤوس والمساحي والمكاتل، فقالوا لهم: يا بني ادم
ما تريدون وما تطلبون؟ او ما تريدون واين تطلبون؟ قالوا: ابونا مريض واشتهى من ثمار
الجنة، فقالوا لهم: ارجعوا فقد قضي ابوكم. فجاءوا فلما راتهم حواء عرفتهم فلاذت بادم، فقال:
اليك عني فاني انما اتيت من قبلك، فخلي بيني وبين ملائكة ربي عز وجل. فقبضوه
وغسلوه وكفنوه وحنطوه، وحفروا له ولحدوه وصلوا عليه ثم ادخلوه قبره فوضعوه في قبره، ثم
حثوا عليه، ثم قالوا: يا بني ادم هذه سنتكم.
وفي موته يروي الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا ابو نعيم، حدثنا هشام بن سعد،
عن زيد بن اسلم، عن ابي صالح، عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : “لما خلق الله ادم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة
هو خالقها من ذريته الى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل انسان منهم وبيصا من
نور، ثم عرضهم على ادم فقال: اي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فراى رجلا
فاعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: اي رب من هذا؟ قال هذا رجل من اخر
الامم من ذريتك يقال له داود، قال: رب وكم جعلت عمره؟ قال ستين سنة، قال:
اي رب زده من عمري اربعين سنة. فلما انقضى عمر ادم جاءه ملك الموت، قال:
او لم يبق من عمري اربعون سنة؟ قال: او لم تعطها ابنك داود؟ قال فجحد
فجحدت ذريته، ونسي ادم فنسيت ذريته، وخطىء ادم فخطئت ذريته”.
اسحق

نبذة:

هو ولد سيدنا ابراهيم من زوجته سارة، وقد كانت البشارة بمولده من الملائكة لابراهيم وسارة
لما مروا بهم مجتازين ذاهبين الى مدائن قوم لوط ليدمروها عليهم لكفرهم وفجورهم، ذكره الله
في القران بانه “غلام عليم” جعله الله نبيا يهدي الناس الى فعل الخيرات، جاء من
نسله سيدنا يعقوب.

سيرته:

لا يذكر القران الكريم غير ومضات سريعة عن قصة اسحاق.. كان ميلاده حدثا خارقا، بشرت
به الملائكة، وورد في البشرى اسم ابنه يعقوب.. وقد جاء ميلاده بعد سنوات من ولادة
اخيه اسماعيل.. ولقد قر قلب سارة بمولد اسحق ومولد ابنه يعقوب، عليهما الصلاة والسلام.. غير
اننا لا نعرف كيف كانت حياة اسحق، ولا نعرف بماذا اجابه قومه.. كل ما نعرفه
ان الله اثنى عليه كنبي من الصالحين.
اسماعيل

نبذة:

هو ابن ابراهيم البكر وولد السيدة هاجر، سار ابراهيم بهاجر – بامر من الله –
حتى وضعها وابنها في موضع مكة وتركهما ومعهما قليل من الماء والتمر ولما نفد الزاد
جعلت السيدة هاجر تطوف هنا وهناك حتى هداها الله الى ماء زمزم ووفد عليها كثير
من الناس حتى جاء امر الله لسيدنا ابراهيم ببناء الكعبة ورفع قواعد البيت، فجعل اسماعيل
ياتي بالحجر وابراهيم يبني حتى اتما البناء ثم جاء امر الله بذبح اسماعيل حيث راى
ابراهيم في منامه انه يذبح ابنه فعرض عليه ذلك فقال “يا ابت افعل ما تؤمر
ستجدني ان شاء الله من الصابرين” ففداه الله بذبح عظيم، كان اسماعيل فارسا فهو اول
من استانس الخيل وكان صبورا حليما، يقال انه اول من تحدث بالعربية البينة وكان صادق
الوعد، وكان يامر اهله بالصلاة والزكاة، وكان ينادي بعبادة الله ووحدانيته.

سيرته:

الاختبار الاول:

ذكر الله في كتابه الكريم، ثلاث مشاهد من حياة اسماعيل عليه السلام. كل مشهد عبارة
عن محنة واختبار لكل من ابراهيم واسماعيل عليهما السلام. اول هذه المشاهد هو امر الله
سبحانه وتعالى لابراهيم بترك اسماعيل وامه في واد مقفر، لا ماء فيه ولا طعام. فما
كان من ابراهيم عليه السلام الا الاستجابة لهذا الامر الرباني. وهذا بخلاف ما ورد في
الاسرائيليات من ان ابراهيم حمل ابنه وزوجته لوادي مكة لان سارة -زوجة ابراهيم الاولى- اضطرته
لذلك من شدة غيرتها من هاجر. فالمتامل لسيرة ابراهيم عليه السلام، سيجد انه لم يكن
ليتلقى اوامره من احد غير الله.
انزل زوجته وابنه وتركهما هناك، ترك معهما جرابا فيه بعض الطعام، وقليلا من الماء. ثم
استدار وتركهما وسار.
اسرعت خلفه زوجته وهي تقول له: يا ابراهيم اين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس
فيه شيء؟
لم يرد عليها سيدنا ابراهيم وظل يسير.. عادت تقول له ما قالته وهو صامت.. اخيرا
فهمت انه لا يتصرف هكذا من نفسه.. ادركت ان الله امره بذلك فسالته: هل الله
امرك بهذا؟
فقال ابراهيم عليه السلام: نعم.
قالت زوجته المؤمنة العظيمة: لن نضيع ما دام الله معنا وهو الذي امرك بهذا.
وسار ابراهيم حتى اذا اخفاه جبل عنهما وقف ورفع يديه الكريمتين الى السماء وراح يدعو
الله:
ربنا اني اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة
فاجعل افئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37) (ابراهيم)
لم يكن بيت الله قد اعيد بناؤه بعد، لم تكن الكعبة قد بنيت، وكانت هناك
حكمة عليا في امر الله سبحانه لابراهيم، فقد كان اسماعيل -الطفل الذي ترك مع امه
في هذا المكان- ووالده من سيكونان المسؤولان بناء الكعبة فيما بعد.. وكانت حكمة الله تقضي
ان يسكن احد في هذا الوادي، لميتد اليه العمران.
بعد ان ترك ابراهيم زوجته وابنه الرضيع في الصحراء بايام نفد الماء وانتهى الطعام، وجف
لبن الام.. واحست هاجر واسماعيل بالعطش.
بدا اسماعيل يبكي من العطش.. فتركته امه وانطلقت تبحث عن ماء.. راحت تمشي مسرعة حتى
وصلت الى جبل اسمه “الصفا”.. فصعدت اليه وراحت تبحث به عن بئر او انسان او
قافلة.. لم يكن هناك شيء. ونزلت مسرعة من الصفا حتى اذا وصلت الى الوادي راحت
تسعى سعي الانسان المجهد حتى جاوزت الوادي ووصلت الى جبل “المروة”، فصعدت اليه ونظرت لترى
احدا لكنها لم تر احدا. وعادت الام الى طفلها فوجدته يبكي وقد اشتد عطشه.. واسرعت
الى الصفا فوقفت عليه، وهرولت الى المروة فنظرت من فوقه.. وراحت تذهب وتجيء سبع مرات
بين الجبلين الصغيرين.. سبع مرات وهي تذهب وتعود – ولهذا يذهب الحجاج سبع مرات ويعودون
بين الصفا والمروة احياء لذكريات امهم الاولى ونبيهم العظيم اسماعيل. عادت هاجر بعد المرة السابعة
وهي مجهدة متعبة تلهث.. وجلست بجوار ابنها الذي كان صوته قد بح من البكاء والعطش.

وفي هذه اللحظة اليائسة ادركتها رحمة الله، وضرب اسماعيل بقدمه الارض وهو يبكي فانفجرت تحت
قدمه بئر زمزم.. وفار الماء من البئر.. انقذت حياتا الطفل والام.. راحت الام تغرف بيدها
وهي تشكر الله.. وشربت وسقت طفلها وبدات الحياة تدب في المنطقة.. صدق ظنها حين قالت:
لن نضيع ما دام الله معنا.
وبدات بعض القوافل تستقر في المنطقة.. وجذب الماء الذي انفجر من بئر زمزم عديدا من
الناس.. وبدا العمران يبسط اجنحته على المكان.
كانت هذه هي المحنة الاولى.. اما المحنة الثانية فهي الذبح.

الاختبار الثاني:

كبر اسماعيل.. وتعلق به قلب ابراهيم.. جاءه العقب على كبر فاحبه.. وابتلى الله تعالى ابراهيم
بلاء عظيما بسبب هذا الحب. فقد راى ابراهيم عليه السلام في المنام انه يذبح ابنه
الوحيد اسماعيل. وابراهيم يعمل ان رؤيا الانبياء وحي.
انظر كيف يختبر الله عباده. تامل اي نوع من انواع الاختبار. نحن امام نبي قلبه
ارحم قلب في الارض. اتسع قلبه لحب الله وحب من خلق. جاءه ابن على كبر..
وقد طعن هو في السن ولا امل هناك في ان ينجب. ثم ها هو ذا
يستسلم للنوم فيرى في المنام انه يذبح ابنه وبكره ووحيده الذي ليس له غيره.
اي نوع من الصراع نشب في نفسه. يخطئ من يظن ان صراعا لم ينشا قط.
لا يكون بلاء مبينا هذا الموقف الذي يخلو من الصراع. نشب الصراع في نفس ابراهيم..
صراع اثارته عاطفة الابوة الحانية. لكن ابراهيم لم يسال عن السبب وراء ذبح ابنه. فليس
ابراهيم من يسال ربه عن اوامره.
فكر ابراهيم في ولده.. ماذا يقول عنه اذا ارقده على الارض ليذبحه.. الافضل ان يقول
لولده ليكون ذلك اطيب لقلبه واهون عليه من ان ياخذه قهرا ويذبحه قهرا. هذا افضل..
انتهى الامر وذهب الى ولده (قال يا بني اني ارى في المنام اني اذبحك فانظر
ماذا ترى). انظر الى تلطفه في ابلاغ ولده، وترك الامر لينظر فيه الابن بالطاعة.. ان
الامر مقضي في نظر ابراهيم لانه وحي من ربه.. فماذا يرى الابن الكريم في ذلك؟
اجاب اسماعيل: هذا امر يا ابي فبادر بتنفيذه (يا ابت افعل ما تؤمر ستجدني ان
شاء الله من الصابرين). تامل رد الابن.. انسان يعرف انه سيذبح فيمتثل للامر الالهي ويقدم
المشيئة ويطمئن والده انه سيجده (ان شاء الله من الصابرين). هو الصبر على اي حال
وعلى كل حال.. وربما استعذب الابن ان يموت ذبحا بامر من الله.. ها هو ذا
ابراهيم يكتشف ان ابنه ينافسه في حب الله. لا نعرف اي مشاعر جاشت في نفس
ابراهيم بعد استسلام ابنه الصابر.
ينقلنا الحق نقلة خاطفة فاذا اسماعيل راقد على الارض، وجهه في الارض رحمة به كيلا
يرى نفسه وهو يذبح. واذا ابراهيم يرفع يده بالسكين.. واذا امر الله مطاع. (فلما اسلما)
استخدم القران هذا التعبير.. (فلما اسلما) هذا هو الاسلام الحقيقي.. تعطي كل شيء، فلا يتبقى
منك شيء.
عندئذ فقط.. وفي اللحظة التي كان السكين فيها يتهيا لامضاء امره.. نادى الله ابراهيم.. انتهى
اختباره، وفدى الله اسماعيل بذبح عظيم – وصار اليوم عيدا لقوم لم يولدوا بعد، هم
المسلمون. صارت هذه اللحظات عيدا للمسلمين. عيدا يذكرهم بمعنى الاسلام الحقيقي الذي كان عليه ابراهيم
واسماعيل.

خبر زوجة اسماعيل:

عاش اسماعيل في شبه الجزيرة العربية ما شاء الله له ان يعيش.. روض الخيل واستانسها
واستخدمها، وساعدت مياه زمزم على سكنى المنطقة وتعميرها. استقرت بها بعض القوافل.. وسكنتها القبائل.. وكبر
اسماعيل وتزوج، وزاره ابراهيم فلم يجده في بيته ووجد امراته.. سالها عن عيشهم وحالهم، فشكت
اليه من الضيق والشدة.
قال لها ابراهيم: اذا جاء زوجك مريه ان يغير عتبة بابه.. فلما جاء اسماعيل، ووصفت
له زوجته الرجل.. قال: هذا ابي وهو يامرني بفراقك.. الحقي باهلك.
وتزوج اسماعيل امراة ثانية.. زارها ابراهيم، يسالها عن حالها، فحدثته انهم في نعمة وخير.. وطاب
صدر ابراهيم بهذه الزوجة لابنه.

الاختبار الثالث:

وها نحن الان امام الاختبار الثالث.. اختبار لا يمس ابراهيم واسماعيل فقط. بل يمس ملايين
البشر من بعدهم الى يوم القيامة.. انها مهمة اوكلها الله تعالى لهذين النبيين الكريمين.. مهمة
بناء بيت الله تعالى في الارض.
كبر اسماعيل.. وبلغ اشده.. وجاءه ابراهيم وقال له: يا اسماعيل.. ان الله امرني بامر. قال
اسماعيل: فاصنع ما امرك به ربك.. قال ابراهيم: وتعينني؟ قال: واعينك. فقال ابراهيم: فان الله
امرني ان ابني هنا بيتا. اشار بيده لصحن منخفض هناك.
صدر الامر ببناء بيت الله الحرام.. هو اول بيت وضع للناس في الارض.. وهو اول
بيت عبد فيه الانسان ربه.. ولما كان ادم هو اول انسان هبط الى الارض.. فاليه
يرجع فضل بنائه اول مرة.. قال العلماء: ان ادم بناه وراح يطوف حوله مثلما يطوف
الملائكة حول عرش الله تعالى.
بنى ادم خيمة يعبد فيها الله.. شيء طبيعي ان يبني ادم -بوصفه نبيا- بيتا لعبادة
ربه.. وحفت الرحمة بهذا المكان.. ثم مات ادم ومرت القرون، وطال عليه العهد فضاع اثر
البيت وخفي مكانه.. وها هو ذا ابراهيم يتلقى الامر ببنائه مرة ثانية.. ليظل في المرة
الثانية قائما الى يوم القيامة ان شاء الله. وبدا بناء الكعبة..
هدمت الكعبة في التاريخ اكثر من مرة، وكان بناؤها يعاد في كل مرة.. فهي باقية
منذ عهد ابراهيم الى اليوم.. وحين بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تحقيقا لدعوة
ابراهيم.. وجد الرسول الكعبة حيث بنيت اخر مرة، وقد قصر الجهد بمن بناها فلم يحفر
اساسها كما حفره ابراهيم.
نفهم من هذا ان ابراهيم واسماعيل بذلا فيها وحدهما جهدا استحالت -بعد ذلك- محاكاته على
عدد كبير من الرجال.. ولقد صرح الرسول بانه يحب هدمها واعادتها الى اساس ابراهيم، لولا
قرب عهد القوم بالجاهلية، وخشيته ان يفتن الناس هدمها وبناؤها من جديد.. بناؤها بحيث تصل
الى قواعد ابراهيم واسماعيل.
اي جهد شاق بذله النبيان الكريمان وحدهما؟ كان عليهما حفر الاساس لعمق غائر في الارض،
وكان عليهما قطع الحجارة من الجبال البعيدة والقريبة، ونقلها بعد ذلك، وتسويتها، وبناؤها وتعليتها.. وكان
الامر يستوجب جهد جيل من الرجال، ولكنهما بنياها معا.
لا نعرف كم هو الوقت الذي استغرقه بناء الكعبة، كما نجهل الوقت الذي استغرقه بناء
سفينة نوح، المهم ان سفينة نوح والكعبة كانتا معا ملاذا للناس ومثوبة وامنا.. والكعبة هي
سفينة نوح الثابتة على الارض ابدا.. وهي تنتظر الراغبين في النجاة من هول الطوفان دائما.

لم يحدثنا الله عن زمن بناء الكعبة.. حدثنا عن امر اخطر واجدى.. حدثنا عن تجرد
نفسية من كان يبنيها.. ودعائه وهو يبنيها:
واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم (127)
ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك وارنا مناسكنا وتب علينا انك انت
التواب الرحيم (128) ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم اياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم
انك انت العزيز الحكيم (129) (البقرة)
ان اعظم مسلمين على وجه الارض يومها يدعوان الله ان يتقبل عملهما، وان يجعلهما مسلمين
له.. يعرفان ان القلوب بين اصبعين من اصابع الرحمن. وتبلغ الرحمة بهما ان يسالا الله
ان يخرج من ذريتهما امة مسلمة له سبحانه.. يريدان ان يزيد عدد العابدين الموجودين والطائفين
والركع السجود. ان دعوة ابراهيم واسماعيل تكشف عن اهتمامات القلب المؤمن.. انه يبني لله بيته،
ومع هذا يشغله امر العقيدة.. ذلك ايحاء بان البيت رمز العقيدة. ثم يدعوان الله ان
يريهم اسلوب العبادة الذي يرضاه، وان يتوب عليهم فهو التواب الرحيم. بعدها يتجاوز اهتمامها هذا
الزمن الذي يعيشان فيه.. يجاوزانه ويدعوان الله ان يبث رسولا لهؤلاء البشر. وتحققت هذه الدعوة
الاخيرة.. حين بعث محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم.. تحققت بعد ازمنة وازمنة.

انتهى بناء البيت، واراد ابراهيم حجرا مميزا، يكون علامة خاصة يبدا منها الطواف حول الكعبة..
امر ابراهيم اسماعيل ان ياتيه بحجر مميز يختلف عن لون حجارة الكعبة.
سار اسماعيل ملبيا امر والده.. حين عاد، كان ابراهيم قد وضع الحجر الاسود في مكانه..
فساله اسماعيل: من الذي احضره اليك يا ابت؟ فاجاب ابراهيم: احضره جبريل عليه السلام.
انتهى بناء الكعبة.. وبدا طواف الموحدين والمسلمين حولها.. ووقف ابراهيم يدعو ربه نفس دعائه من
قبل.. ان يجعل افئدة من الناس تهوي الى المكان.. انظر الى التعبير.. ان الهوى يصور
انحدارا لا يقاوم نحو شيء.. وقمة ذلك هوى الكعبة. من هذه الدعوة ولد الهوى العميق
في نفوس المسلمين، رغبة في زيارة البيت الحرام.
وصار كل من يزور المسجد الحرام ويعود الى بلده.. يحس انه يزداد عطشا كلما ازداد
ريا منه، ويعمق حنينه اليه كلما بعد منه، وتجيء اوقات الحج في كل عام.. فينشب
الهوى الغامض اظافره في القلب نزوعا الى رؤية البيت، وعطشا الى بئر زمزم.
قال تعالى حين جادل المجادلون في ابراهيم واسماعيل.
ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67)
(ال عمران)
عليه الصلاة والسلام.. استجاب الله دعاءه.. وكان ابراهيم اول من سمانا المسلمين.

الياس

نبذة:

ارسل الى اهل بعلبك غربي دمشق فدعاهم الى عبادة الله وان يتركوا عبادة صنم كانوا
يسمونه بعلا فاذوه، وقال ابن عباس هو عم اليسع.

سيرته:

قال تعالى:
وان الياس لمن المرسلين (123) اذ قال لقومه الا تتقون (124) اتدعون بعلا وتذرون احسن
الخالقين (125) الله ربكم ورب ابائكم الاولين (126) فكذبوه فانهم لمحضرون (127) الا عباد الله
المخلصين (128) وتركنا عليه في الاخرين (129) سلام على ال ياسين (130) انا كذلك نجزي
المحسنين (131) انه من عبادنا المؤمنين (131) (الصافات)
هذه الايات القصار هي كل ما يذكره الله تعالى من قصة الياس.. لذلك اختلف المؤرخون
في نسبه وفي القوم الذين ارسل اليهم.. فقال الطبري انه الياس بن ياسين بن فنحاص
بن العيزار بن هارون.. اما ابن كثير فيقول ان الياس والياسين اسمين لرجل واحد فالعرب
تلحق النون في اسماء كثيرة وتبدلها من غيرها.

الروايات المختلفة حول دعوته:

جاء في تاريخ الطبري عن ابن اسحق ما ملخصه:
ان الياس عليه السلام لما دعا بني اسرائيل الى نبذ عبادة الاصنام، والاستمساك بعبادة الله
وحده رفضوه ولم يستجيبوا له، فدعا ربه فقال: اللهم ان بني اسرائيل قد ابو الا
الكفر بك والعبادة لغيرك، فغير ما بهم من نعمتك فاوحي الله اليه انا جعلنا امر
ارزاقهم بيدك فانت الذي تامر في ذلك، فقال الياس: اللهم فامسك عليهم المطر فحبس عنهم
ثلاث سنين، حتى هلكت الماشية والشجر، وجهد الناس جهدا شديدا، وما دعا عليهم استخفي عن
اعينهم وكان ياتيه رزقه حيث كان فكان بنو اسرائيل كلما وجدوا ربح الخبز في دار
قالوا هنا الياس فيطلبونه، وينال اهل المنزل منهم شر وقد اوي ذات مرة الى بيت
امراة من بنى اسرائيل لها ابن يقال له اليسع بن خطوب به ضر فاوته واخفت
امره. فدعا ربه لابنها فعافاه من الضر الذي كان به واتبع الياس وامن به وصدقه
ولزمة فكان يذهب معه حيثما ذهب وكان الياس قد اسن وكبر، وكان اليسع غلاما شابا
ثم ان الياس قال لبني اسرائيل اذا تركتم عبادة الاصنام دعوات الله ان يفرج عنكم
فاخرجوا اصنامهم ومحدثاتهم فدعا الله لهم ففرج عنهم واغاثهم، فحييت بلادهم ولكنهم لم يرجعوا عما
كانوا عليه ولم يستقيموا فلما راي الياس منهم دعا ربه ان يقبضه اليه فقبضة ورفعه.

ويذكر ابن كثير ان رسالته كانت لاهل بعلبك غربي دمشق وانه كان لهم صنم يعبدونه
يسمي (بعلا) وقد ذكره القران الكريم على لسان الياس حين قال لقومه ( اتدعون بعلا
وتذرون احسن الخالقين (125) والله ربكم ورب ابائكم الاولين).
ويذكر بعض المؤرخين انه عقب انتهاء ملك سليمان بن داود عليه السلام وذلك في سنة
933 قبل الميلاد انقسمت مملكة بن اسرائيل الى قسمين، الاول ، يخضع لملك سلالة سليمان
واول ملوكهم رحبعام بن سليمان والثاني يخضع لاحد اسباط افرايم بن يوسف الصديق واسم ملكهم
جر بعام. وقد تشتت دولة بنى اسرائيل بعد سليمان عليه السلام بسبب اختلاف ملوكهم وعظمائهم
على السلطة، وبسبب الكفر والضلال الذي انتشر بين صفوفهم وقد سمح احد ملوكهم وهو اخاب
لزوجته بنشر عبادة قومها في بني اسرائيل، وكان قومها عبادا للاوثان فشاعت العبادة الوثنية، وعبدوا
الصنم الذي ذكره القران الكريم واسمه (بعل) فارسل اليهم الياس عليه السلام الذي تحدثنا عن
دعوته فما توفي الياس عليه السلام اوحي الله تعالى الى احد الانبياء واسمه اليسع عليه
السلام ليقوم في نبي اسرائيل، فيدعوهم الى عبادة الله الواحد القهار.
وارجح الاراء ان الياس هو النبي المسمى ايليا في التوراة

اليسع

نبذة:

من العبدة الاخيار ورد ذكره في التوراة كما ذكر في القران مرتين ، ويذكر انه
اقام من الموت انسانا كمعجزة.

سيرته:

من انبياء الله تعالى، الذين يذكر الحق اسمائهم ويثني عليهم، ولا يحكي قصصهم.. نبي الله
تعالى اليسع.
قال تعالى في سورة (ص): واذكر اسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار
وقال جل جلاله في سورة (الانعام) : واسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين

جاء في تاريخ الطبري حول ذكر نسبة انه اليسع بن اخطوب ويقال انه ابن عم
الياس النبي عليهما السلام ، وذكر الحافظ ابن عساكر نسبة على الوجه الاتي: اسمه اسباط
بن عدي بن شوتلم بن افرائيم بن يوسف الصديق عليه السلام وهو من انبياء بني
اسرائيل، وقد اوجز القران الكريم عن حياته فلم يذكر عنها شيئا وانما اكتفى بعده في
مجموعة الرسل الكرام الذي يجب الايمان بهم تفصيلا.
قام بتبليغ الدعوة بعد انتقال الياس الى جوار الله فقام يدعو الى الله مستمسكا بمنهاج
نبي الله الياس وشريعته وقد كثرت في زمانه الاحداث والخطايا وكثر الملوك الجبابرة فقتلوا الانبياء
وشردوا المؤمنين فوعظهم اليسع وخوفهم من عذاب الله ولكنهم لم يابهوا بدعوته ثم توفاه الله
وسلط على بني اسرائيل من يسومهم سوء العذاب كما قص علينا القران الكريم. ويذكر بعض
المؤرخين ان دعوته في مدينة تسعى بانياس احدى مدن الشام، ولا تزال حتى الان موجودة
وهي قريبة من بلدة اللاذقية والله اعلم.
وارجح الاقوال ان اليسع هو اليشع الذي تتحدث عنه التوراة.. ويذكر القديس برنابا انه اقام
من الموت انسانا كمعجزة.

اليسع وذو الكفل:

ويروي بعض العلماء قصة حدثت في زمن اليسع عليه السلام.
فيروى انه لما كبر اليسع قال لو اني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في
حياتي حتى انظر كيف يعمل؟ فجمع الناس فقال: من يتقبل لي بثلاث استخلفه: يصوم النهار،
ويقوم الليل، ولا يغضب. فقام رجل تزدريه العين، فقال: انا، فقال: انت تصوم النهار، وتقوم
الليل، ولا تغضب؟ قال: نعم. لكن اليسع -عليه السلام- رد الناس ذلك اليوم دون ان
يستخلف احدا. وفي اليوم التالي خرج اليسع -عليه السلام- على قومه وقال مثل ما قال
اليوم الاول، فسكت الناس وقام ذلك الرجل فقال انا. فاستخلف اليسع ذلك الرجل.
فجعل ابليس يقول للشياطين: عليكم بفلان، فاعياهم ذلك. فقال دعوني واياه فاتاه في صورة شيخ
كبير فقير، واتاه حين اخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام الليل والنهار، الا تلك النومة
فدق الباب. فقال ذو الكفل: من هذا؟ قال: شيخ كبير مظلوم. فقام ذو الكفل ففتح
الباب. فبدا الشيخ يحدثه عن خصومة بينه وبين قومه، وما فعلوه به، وكيف ظلموه، واخذ
يطول في الحديث حتى حضر موعد مجلس ذو الكفل بين الناس، وذهبت القائلة. فقال ذو
الكفل: اذا رحت للمجلس فانني اخذ لك بحقك.
فخرج الشيخ وخرج ذو الكفل لمجلسه دون ان ينام. لكن الشيخ لم يحضر للمجلس. وانفض
المجلس دون ان يحضر الشيخ. وعقد المجلس في اليوم التالي، لكن الشيخ لم يحضر ايضا.
ولما رجع ذو الكفل لمنزله عند القائلة ليضطجع اتاه الشيخ فدق الباب، فقال: من هذا؟
فقال الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له فقال: الم اقل لك اذا قعدت فاتني؟ فقال الشيخ:
انهم اخبث قوم اذا عرفوا انك قاعد قالوا لي نحن نعطيك حقك، واذا قمت جحدوني.
فقال ذو الكفل: انطلق الان فاذا رحت مجلسي فاتني.
ففاتته القائلة، فراح مجلسه وانتظر الشيخ فلا يراه وشق عليه النعاس، فقال لبعض اهله: لا
تدعن احدا يقرب هذا الباب حتى انام، فاني قد شق علي النوم. فقدم الشيخ، فمنعوه
من الدخول، فقال: قد اتيته امس، فذكرت لذي الكفل امري، فقالوا: لا والله لقد امرنا
ان لا ندع احدا يقربه. فقام الشيخ وتسور الحائط ودخل البيت ودق الباب من الداخل،
فاستيقظ ذو الكفل، وقال لاهله: الم امركم الا يدخل علي احد؟ فقالوا: لم ندع احدا
يقترب، فانظر من اين دخل. فقام ذو الكفل الى الباب فاذا هو مغلق كما اغلقه؟
واذا الرجل معه في البيت، فعرفه فقال: اعدو الله؟ قال: نعم اعييتني في كل شيء
ففعلت كل ما ترى لاغضبك.
فسماه الله ذا الكفل لانه تكفل بامر فوفى به

انبياء اهل القرية

نبذة:

ارسل الله رسولين لاحدى القرى لكن اهلا كذبوهما، فارسل الله تعالى رسولا ثالثا يصدقهما. ولا
يذكر ويذكر لنا القران الكريم قصة رجل امن بهم ودعى قومه للايمان بما جاؤوا بهن
لكنهم قتلوه، فادخله الله الجنة.

سيرتهم:

يحكي الحق تبارك وتعالى قصة انبياء ثلاثة بغير ان يذكر اسمائهم. كل ما يذكره السياق
ان القوم كذبوا رسولين فارسل الله ثالثا يعزرهما. ولم يذكر القران من هم اصحاب القرية
ولا ما هي القرية. وقد اختلفت فيها الروايات. وعدم افصاح القران عنها دليل على ان
تحديد اسمها او موضعها لا يزيد شيئا في دلالة القصة وايحائها. لكن الناس ظلوا على
انكارهم للرسل وتكذيبهم، وقالوا (قالوا ما انتم الا بشر مثلنا وما انزل الرحمن من شيء
ان انتم الا تكذبون).
وهذا الاعتراض المتكرر على بشرية الرسل تبدو فيه سذاجة التصور والادراك, كما يبدو فيه الجهل
بوظيفة الرسول. قد كانوا يتوقعون دائما ان يكون هناك سر غامض في شخصية الرسول وحياته
تكمن وراءه الاوهام والاساطير.. اليس رسول السماء الى الارض فكيف يكون شخصية مكشوفة بسيطة لا
اسرار فيها ولا الغاز حولها ?! شخصية بشرية عادية من الشخصيات التي تمتلىء بها الاسواق
والبيوت ?!
وهذه هي سذاجة التصور والتفكير. فالاسرار والالغاز ليست صفة ملازمة للنبوة والرسالة. فالرسالة منهج الهي
تعيشه البشرية. وحياة الرسول هي النموذج الواقعي للحياة وفق ذلك المنهج الالهي. النموذج الذي يدعو
قومه الى الاقتداء به. وهم بشر. فلا بد ان يكون رسولهم من البشر ليحقق نموذجا
من الحياة يملكون هم ان يقلدوه.
وفي ثقة المطمئن الى صدقه, العارف بحدود وظيفته اجابهم الرسل: ان الله يعلم، وهذا يكفي.
وان وظيفة الرسل البلاغ. وقد ادوه. والناس بعد ذلك احرار فيما يتخذون لانفسهم من تصرف.
وفيما يحملون في تصرفهم من اوزار. والامر بين الرسل وبين الناس هو امر ذلك التبليغ
عن الله; فمتى تحقق ذلك فالامر كله بعد ذلك الى الله.
ولكن المكذبين الضالين لا ياخذون الامور هذا الماخذ الواضح السهل اليسير; ولا يطيقون وجود الدعاة
الى الهدى ويعمدون الى الاسلوب الغليظ العنيف في مقاومة الحجة لان الباطل ضيق الصدر. قالوا:
اننا نتشاءم منكم; ونتوقع الشر في دعوتكم; فان لم تنتهوا عنها فاننا لن نسكت عليكم,
ولن ندعكم في دعوتكم: (لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب اليم). هكذا اسفر الباطل عن غشمه; واطلق
على الهداة تهديده; وبغى في وجه كلمة الحق الهادئة!
ولكن الواجب الملقى على عاتق الرسل يقضي عليهم بالمضي في الطريق: (قالوا طائركم معكم). فالقول
بالتشاؤم من دعوة او من وجه هو خرافة من خرافات الجاهلية. والرسل يبينون لقومهم انها
خرافة; وان حظهم ونصيبهم من خير ومن شر لا ياتيهم من خارج نفوسهم. انما هو
معهم. مرتبط بنواياهم واعمالهم, متوقف على كسبهم وعملهم. وفي وسعهم ان يجعلوا حظهم ونصيبهم خيرا
او ان يجعلوه شرا. فان ارادة الله بالعبد تنفذ من خلال نفسه, ومن خلال اتجاهه,
ومن خلال عمله. وهو يحمل طائره معه. هذه هي الحقيقة الثابتة القائمة على اساس صحيح.
اما التشاؤم بالامكنة او التشاؤم بالوجوه او التشاؤم بالكلمات، فهو خرافة لا تستقيم على اصل!

وقالوا لهم: (ائن ذكرتم) اترجموننا وتعذبوننا لاننا نذكركم! افهذا جزاء التذكير? (بل انتم قوم مسرفون)
تتجاوزون الحدود في التفكير والتقدير; وتجازون على الموعظة بالتهديد والوعيد; وتردون على الدعوة بالرجم والتعذيب!

ما كان من الرجل المؤمن:

لا يقول لنا السياق ماذا كان من امر هؤلاء الانبياء، انما يذكر ما كان من
امر انسان امن بهم. امن بهم وحده.. ووقف بايمانه اقلية ضعيفة ضد اغلبية كافرة. انسان
جاء من اقصى المدينة يسعى. جاء وقد تفتح قلبه لدعوة الحق.. فهذا رجل سمع الدعوة
فاستجاب لها بعد ما راى فيها من دلائل الحق والمنطق. وحينما استشعر قلبه حقيقة الايمان
تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكوتا; ولم يقبع في داره بعقيدته وهو
يرى الضلال من حوله والجحود والفجور; ولكنه سعى بالحق الذي امن به. سعى به الى
قومه وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويهددون. وجاء من اقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة
قومه الى الحق, وفي كفهم عن البغي, وفي مقاومة اعتدائهم الاثيم الذي يوشكون ان يصبوه
على المرسلين.
ويبدو ان الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان. ولم تكن له عشيرة تدافع عنه
ان وقع له اذى. ولكنها العقيدة الحية في ضميره تدفعه وتجيء به من اقصى المدينة
الى اقصاها.
فقال لهم: اتبعوا هؤلاء الرسل، فان الذي يدعو مثل هذه الدعوة, وهو لا يطلب اجرا,
ولا يبتغي مغنما. انه لصادق. والا فما الذي يحمله على هذا العناء ان لم يكن
يلبي تكليفا من الله? ما الذي يدفعه الى حمل هم الدعوة? ومجابهة الناس بغير ما
الفوا من العقيدة? والتعرض لاذاهم وشرهم واستهزائهم وتنكيلهم, وهو لا يجني من ذلك كسبا, ولا
يطلب منهم اجرا? وهداهم واضح في طبيعة دعوتهم. فهم يدعون الى اله واحد. ويدعون الى
نهج واضح. ويدعون الى عقيدة لا خرافة فيها ولا غموض. فهم مهتدون الى نهج سليم,
والى طريق مستقيم.
ثم عاد يتحدث اليهم عن نفسه هو وعن اسباب ايمانه, ويناشد فيهم الفطرة التي استيقظت
فيه فاقتنعت بالبرهان الفطري السليم. فلقد تسائل مع نفسه قبل ائمانه، لماذا لا اعبد الذي
فطرني؟ والذي اليه المرجع والمصير? وما الذي يحيد بي عن هذا النهج الطبيعي الذي يخطر
على النفس اول ما يخطر? ان الفطر مجذوبة الى الذي فطرها, تتجه اليه اول ما
تتجه, فلا تنحرف عنه الا بدافع اخر خارج على فطرتها. والتوجه الى الخالق هو الاولى.

ثم يبين ضلال المنهج المعاكس. مهج من يعبد الهة غير الرحمن لا تضر ولا تنفع.
وهل اضل ممن يدع منطق الفطرة الذي يدعو المخلوق الى عبادة خالقه, وينحرف الى عبادة
غير الخالق بدون ضرورة ولا دافع? وهل اضل ممن ينحرف عن الخالق الى الهة ضعاف
لا يحمونه ولا يدفعون عنه الضر حين يريد به خالقه الضر بسبب انحرافه وضلاله?
والان وقد تحدث الرجل بلسان الفطرة الصادقة العارفة الواضحة يقرر قراره الاخير في وجه قومه
المكذبين المهددين المتوعدين. لان صوت الفطرة في قلبه اقوى من كل تهديد ومن كل تكذيب:
(اني امنت بربكم فاسمعون) هكذا القى بكلمة الايمان الواثقة المطمئنة. واشهدهم عليها. وهو يوحي اليهم
ان يقولوها كما قالها. او انه لا يبالي بهم ماذا يقولون!

استشهاد الرجل ودخوله الجنة:

ويوحي سياق القصة بعد ذلك القوم الكافرين قتلوا الرجل المؤمن. وان كان لا يذكر شيئا
من هذا صراحة. انما يسدل الستار على الدنيا وما فيها, وعلى القوم وما هم فيه;
ويرفعه لنرى هذا الشهيد الذي جهر بكلمة الحق, متبعا صوت الفطرة, وقذف بها في وجوه
من يملكون التهديد والتنكيل. نراه في العالم الاخر. ونطلع على ما ادخر الله له من
كرامة. تليق بمقام المؤمن الشجاع المخلص الشهيد: (قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون
.. بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين).
وتتصل الحياة الدنيا بالحياة الاخرة. ونرى الموت نقلة من عالم الفناء الى عالم البقاء. وخطوة
يخلص بها المؤمن من ضيق الارض الى سعة الجنة. ومن تطاول الباطل الى طمانينة الحق.
ومن تهديد البغي الى سلام النعيم. ومن ظلمات الجاهلية الى نور اليقين.
ونرى الرجل المؤمن. وقد اطلع على ما اتاه الله في الجنة من المغفرة والكرامة, يذكر
قومه طيب القلب رضي النفس, يتمنى لو يراه قومه ويرون ما اتاه ربه من الرضى
والكرامة, ليعرفوا الحق, معرفة اليقين.

اهلاك اصحاب القرية بالصيحة:

هذا كان جزاء الايمان. فاما الطغيان فكان اهون على الله من ان يرسل عليه الملائكة
لتدمره. فهو ضعيف ضعيف: (وما انزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما
كنا منزلين .. ان كانت الا صيحة واحدة فاذا هم خامدون). لا يطيل هنا في
وصف مصرع القوم, تهوينا لشانهم, وتصغيرا لقدرهم. فما كانت الا صيحة واحدة اخمدت انفاسهم. ويسدل
الستار على مشهدهم البائس المهين الذليل!
تجاوز السياق اسماء الانبياء وقصصهم ليبرز قصة رجل امن.. لم يذكر لنا السياق اسمه. اسمه
لا يهم.. المهم ما وقع له.. لقد امن بانبياء الله.. قيل له ادخل الجنة. ليكن
ما كان من امر تعذيبه وقتله. ليس هذا في الحساب النهائي شيئا له قيمته. تكمن
القيمة في دخوله فور اعلانه انه امن. فور قتله.

ايوب

نبذة:

من سلالة سيدنا ابراهيم كان من النبيين الموحى اليهم، كان ايوب ذا مال واولاد كثيرين
ولكن الله ابتلاه في هذا كله فزال عنه، وابتلي في جسده بانواع البلاء واستمر مرضه
13 او 18 عاما اعتزله فيها الناس الا امراته صبرت وعملت لكي توفر قوت يومهما
حتى عافاه الله من مرضه واخلفه في كل ما ابتلي فيه، ولذلك يضرب المثل بايوب
في صبره وفي بلائه، روي ان الله يحتج يوم القيامة بايوب عليه السلام على اهل
البلاء.

سيرته:

ضربت الامثال في صبر هذا النبي العظيم. فكلما ابتلي انسانا ابتلاء عظيما اوصوه بان يصبر
كصبر ايوب عليه السلام.. وقد اثنى الله تبارك وتعالى على عبده ايوب في محكم كتابه
(انا وجدناه صابرا نعم العبد انه اواب) والاوبة هي العودة الى الله تعالى.. وقد كان
ايوب دائم العودة الى الله بالذكر والشكر والصبر. وكان صبره سبب نجاته وسر ثناء الله
عليه. والقران يسكت عن نوع مرضه فلا يحدده.. وقد نسجت الاساطير عديدا من الحكايات حول
مرضه..

مرض ايوب:

كثرت الروايات والاساطير التي نسجت حول مرض ايوب، ودخلت الاسرائيليات في كثير من هذه الروايات.
ونذكر هنا اشهرها:
ان ايوب عليه السلام كان ذا مال وولد كثير، ففقد ماله وولده، وابتلي في جسده،
فلبث في بلائه ثلاث عشرة سنة, فرفضه القريب والبعيد الا زوجته ورجلين من اخوانه. وكانت
زوجته تخدم الناس بالاجر، لتحضر لايوب الطعام. ثم ان الناس توقفوا عن استخدامها، لعلمهم انها
امراة ايوب، خوفا ان ينالهم من بلائه، او تعديهم بمخالطته. فلما لم تجد احدا يستخدمها
باعت لبعض بنات الاشراف احدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير، فاتت به ايوب، فقال: من اين
لك هذا؟ وانكره، فقالت: خدمت به اناسا، فلما كان الغد لم تجد احدا، فباعت الضفيرة
الاخرى بطعام فاتته به فانكره ايضا، وحلف لا ياكله حتى تخبره من اين لها هذا
الطعام؟ فكشفت عن راسها خمارها، فلما راى راسها محلوقا، قال في دعائه: (رب اني مسني
الضر وانت ارحم الراحمين). وحلف ان يضربها مئة سوط اذا شفى.
وقيل ان امراة ايوب اخبرته انها لقيت طبيبا في الطريق عرض ان يداوي ايوب اذا
رضي ان يقول انت شفيتي بعد علاجه، فعرف ايوب ان هذا الطبيب هو ابليس، فغضب
وحلف ان يضربها مئة ضربة.
اما ما كان من امر صاحبي ايوب، فقد كانا يغدوان اليه ويروحان, فقال احدهما للاخر:
لقد اذنب ايوب ذنبا عظيما والا لكشف عنه هذا البلاء, فذكره الاخر لايوب, فحزن ودعا
الله. ثم خرج لحاجته وامسكت امراته بيده فلما فرغ ابطات عليه, فاوحى الله اليه ان
اركض برجلك, فضرب برجله الارض فنبعت عين فاغتسل منها فرجع صحيحا, فجاءت امراته فلم تعرفه,
فسالته عن ايوب فقال: اني انا هو, وكان له اندران: احدهما: للقمح والاخر: للشعير, فبعث
الله له سحابة فافرغت في اندر القمح الذهب حتى فاض, وفي اندر الشعير الفضة حتى
فاض.
وفي الصحيح ان رسول الله صلى الله لعيه وسلم قال: “بينما ‏‏ايوب يغتسل عريانا خر
عليه رجل جراد من ذهب فجعل يحثي في ثوبه فناداه ربه يا ‏‏ ايوب ‏
‏الم اكن اغنيتك عما ترى قال بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن بركتك”
(رجل جراد ‏اي جماعة جراد).
فلما عوفي امره الله ان ياخذ عرجونا فيه مائة شمراخ (عود دقيق) فيضربها ضربة واحدة
لكي لا يحنث في قسمه وبذلك يكون قد بر في قسمه. ثم جزى الله -عز
وجل- ايوب -عليه السلام- على صبره بان اتاه اهله (فقيل: احيى الله ابناءه. وقيل: اجره
فيمن سلف وعوضه عنهم في الدنيا بدلهم، وجمع له شمله بكلهم في الدار الاخرة) وذكر
بعض العلماء ان الله رد على امراته شبابها حتى ولدت له ستة وعشرين ولدا ذكرا.

هذه اشهر رواية عن فتنة ايوب وصبره.. ولم يذكر فيها اي شيء عن تساقط لحمه،
وانه لم يبقى منه الا العظم والعصب. فاننا نستبعد ان يكون مرضه منفرا او مشوها
كما تقول اساطير القدماء.. نستبعد ذلك لتنافيه مع منصب النبوة..
ويجدر التنبيه بان دعاء ايوب ربه (اني مسني الشيطان بنصب وعذاب). قد يكون القصد منه
شكوى ايوب -عليه السلام- لربه جراة الشيطان عليه وتصوره انه يستطيع ان يغويه. ولا يعتقد
ايوب ان ما به من مرض قد جاء بسبب الشيطان. هذا هو الفهم الذي يليق
بعصمة الانبياء وكمالهم.
وروى الطبري ان مدة عمره كانت ثلاثا وتسعين سنة فعلى هذا فيكون عاش بعد ان
عوفي عشر سنين , والله اعلم. وانه اوصى الى ولده حومل، وقام بالامر بعده ولده
بشر بن ايوب، وهو الذي يزعم كثير من الناس انه ذو الكفل فالله اعلم
داوود

نبذة:

‏‏اتاه الله العلم والحكمة وسخر له الجبال والطير يسبحن معه والان له الحديد، كان عبدا
خالصا لله شكورا يصوم يوما ويفطر يوما يقوم نصف الليل وينام ثلثه ويقوم سدسه وانزل
الله عليه الزبور وقد اوتي ملكا عظيما وامره الله ان يحكم بالعدل.

سيرته:

حال بنو اسرائيل قبل داود:

قبل البدء بقصة داود عليه السلام، لنرى الاوضاع التي عاشها بنو اسرائل في تلك الفترة.

لقد انفصل الحكم عن الدين..فاخر نبي ملك كان يوشع بن نون.. اما من بعده فكانت
الملوك تسوس بني اسرائيل وكانت الانبياء تهديهم. وزاد طغيان بني اسرائيل، فكانوا يقتلون الانبياء، نبيا
تلو نبي، فسلط الله عليهم ملوكا منهم ظلمة جبارين، الوهم وطغوا عليهم.
وتتالت الهزائم على بني اسرائيل، حتى انهم اضاعوا التابوت. وكان في التابوت بقية مما ترك
ال موسى وهارون، فقيل ان فيها بقية من الالواح التي انزلها الله على موسى، وعصاه،
وامورا اخرى. كان بنو اسرائيل ياخذون التابوت معهم في معاركهم لتحل عليهم السكينة ويحققوا النصر.
فتشروا وساءت حالهم.
في هذه الظروف الصعبة، كانت هنالك امراة حامل تدعو الله كثيرا ان يرزقها ولدا ذكرا.
فولدت غلاما فسمته اشموئيل.. ومعناه بالعبرانية اسماعيل.. اي سمع الله دعائي.. فلما ترعرع بعثته الى
المسجد واسلمته لرجل صالح ليتعلم منه الخير والعبادة. فكان عنده، فلما بلغ اشده، بينما هو
ذات ليلة نائم: اذا صوت ياتيه من ناحية المسجد فانتبه مذعورا ظانا ان الشيخ يدعوه.
فهرع اشموئيل الى يساله: ادعوتني..؟ فكره الشيخ ان يفزعه فقال: نعم.. نم.. فنام..
ثم ناداه الصوت مرة ثانية.. وثالثة. وانتبه الى جبريل عليه السلام يدعوه: ان ربك بعثك
الى قومك.
اختيار طالوت ملكا:
ذهب بنو اسرائيل لنبيهم يوما.. سالوه: السنا مظلومين؟
قال: بلى..
قالوا: السنا مشردين؟
قال: بلى..
قالوا: ابعث لنا ملكا يجمعنا تحت رايته كي نقاتل في سبيل الله ونستعيد ارضنا ومجدنا.

قال نبيهم وكان اعلم بهم: هل انتم واثقون من القتال لو كتب عليكم القتال؟
قالوا: ولماذا لا نقاتل في سبيل الله، وقد طردنا من ديارنا، وتشرد ابناؤنا، وساء حالنا؟

قال نبيهم: ان الله اختار لكم طالوت ملكا عليكم.
قالوا: كيف يكون ملكا علينا وهو ليس من ابناء الاسرة التي يخرج منها الملوك -ابناء
يهوذا- كما انه ليس غنيا وفينا من هو اغنى منه؟
قال نبيهم: ان الله اختاره، وفضله عليكم بعلمه وقوة جسمه.
قالوا: ما هي اية ملكه؟
قال لهم نبيهم: يسرجع لكم التابوت تجمله الملائكة.
ووقعت هذه المعجزة.. وعادت اليهم التوراة يوما.. ثم تجهز جيش طالوت، وسار الجيش طويلا حتى
احس الجنود بالعطش.. قال الملك طالوت لجنوده: سنصادف نهرا في الطريق، فمن شرب منه فليخرج
من الجيش، ومن لم يذقه وانما بل ريقه فقط فليبق معي في الجيش..
وجاء النهر فشرب معظم الجنود، وخرجوا من الجيش، وكان طالوت قد اعد هذا الامتحان ليعرف
من يطيعه من الجنود ومن يعصاه، وليعرف ايهم قوي الارادة ويتحمل العطش، وايهم ضعيف الارادة
ويستسلم بسرعة. لم يبق الا ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا، لكن جميعهم من الشجعان.
كان عدد افراد جيش طالوت قليلا، وكان جيش العدو كبيرا وقويا.. فشعر بعض -هؤلاء الصفوة-
انهم اضعف من جالوت وجيشه وقالوا: كيف نهزم هذا الجيش الجبار..؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍!
قال المؤمنون من جيش طالوت: النصر ليس بالعدة والعتاد، انما النصر من عند الله.. (كم
من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله).. فثبتوهم.
وبرز جالوت في دروعه الحديدية وسلاحه، وهو يطلب احدا يبارزه.. وخاف منه جنود طالوت جميعا..
وهنا برز من جيش طالوت راعي غنم صغير هو داود.. كان داود مؤمنا بالله، وكان
يعلم ان الايمان بالله هو القوة الحقيقية في هذا الكون، وان العبرة ليست بكثرة السلاح،
ولا ضخامة الجسم ومظهر الباطل.
وكان الملك، قد قال: من يقتل جالوت يصير قائدا على الجيش ويتزوج ابنتي.. ولم يكن
داود يهتم كثيرا لهذا الاغراء.. كان يريد ان يقتل جالوت لان جالوت رجل جبار وظالم
ولا يؤمن بالله.. وسمح الملك لداود ان يبارز جالوت..
وتقدم داود بعصاه وخمسة احجار ومقلاعه (وهو نبلة يستخدمها الرعاة).. تقدم جالوت المدجج بالسلاح والدروع..
وسخر جالوت من داود واهانه وضحك منه، ووضع داود حجرا قويا في مقلاعه وطوح به
في الهواء واطلق الحجر. فاصاب جالوت فقتله. وبدات المعركة وانتصر جيش طالوت على جيش جالوت.

جمع الله الملك والنبوة لداود:

بعد فترة اصبح داود -عليه السلم- ملكا لبني اسرائيل، فجمع الله على يديه النبوة والملك
مرة اخرى.
وتاتي بعض الروايات لتخبرنا بان طالوت بعد ان اشتهر نجم داوود اكلت الغيرة قلبه، وحاول
قتله، وتستمر الروايات في نسج مثل هذه الامور. لكننا لا نود الخوض فيها فليس لدينا
دليل قوي عليها. ما يهمنا هو انتقال الملك بعد فترة من الزمن الى داود.
لقد اكرم الله نبيه الكريم بعدة معجزات. لقد انزل عليه الزبور (واتينا داوود زبورا)، واتاه
جمال الصوت، فكان عندما يسبح، تسبح الجبال والطيور معه، والناس ينظرون. والان الله في يديه
الحديد، حتى قيل انه كان يتعامل مع الحديد كما كان الناس يتعاملون مع الطين والشمع،
وقد تكون هذه الالانة بمعنى انه اول من عرف ان الحديد ينصهر بالحرارة. فكان يصنع
منه الدروع.
كانت الدروع الحديدية التي يصنعها صناع الدروع ثقيلة ولا تجعل المحارب حرا يستطيع ان يتحرك
كما يشاء او يقاتل كما يريد. فقام داوود بصناعة نوعية جديدة من الدروع. درع يتكون
من حلقات حديدية تسمح للمحارب بحرية الحركة، وتحمي جسده من السيوف والفئوس والخناجر.. افضل من
الدروع الموجودة ايامها..
وشد الله ملك داود، جعله الله منصورا على اعدائه دائما.. وجعل ملكه قويا عظيما يخيف
الاعداء حتى بغير حرب، وزاد الله من نعمه على داود فاعطاه الحكمة وفصل الخطاب، اعطاه
الله مع النبوة والملك حكمة وقدرة على تمييز الحق من الباطل ومعرفة الحق ومساندته.. فاصبح
نبيا ملكا قاضيا.
القضايا التي عرضت على داود:
يروي لنا القران الكريم بعضا من القضايا التي وردت على داود -عليه السلام.
فلقد جلس داود كعادته يوما يحكم بين الناس في مشكلاتهم.. وجاءه رجل صاحب حقل ومعه
رجل اخر..
وقال له صاحب الحقل: سيدي النبي.. ان غنم هذا الرجل نزلت حقلي اثناء الليل، واكلت
كل عناقيد العنب التي كانت فيه.. وقد جئت اليك لتحكم لي بالتعويض..
قال داود لصاحب الغنم: هل صحيح ان غنمك اكلت حقل هذا الرجل؟
قال صاحب الغنم: نعم يا سيدي..
قال داود: لقد حكمت بان تعطيه غنمك بدلا من الحقل الذي اكلته.
قال سليمان.. وكان الله قد علمه حكمة تضاف الى ما ورث من والده: عندي حكم
اخر يا ابي..
قال داود: قله يا سليمان..
قال سليمان: احكم بان ياخذ صاحب الغنم حقل هذا الرجل الذي اكلته الغنم.. ويصلحه له
ويزرعه حتى تنمو اشجار العنب، واحكم لصاحب الحقل ان ياخذ الغنم ليستفيد من صوفها ولبنها
وياكل منه، فاذا كبرت عناقيد الغنم وعاد الحقل سليما كما كان اخذ صاحب الحقل حقله
واعطى صاحب الغنم غنمه..
قال داود: هذا حكم عظيم يا سليمان.. الحمد لله الذي وهبك الحكمة..
وقد ورد في الصحيح قصة اخرى: حدثنى زهير بن حرب حدثنى شبابة حدثنى ورقاء عن
ابى الزناد عن الاعرج عن ابى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال «
بينما امراتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن احداهما . فقالت هذه لصاحبتها انما ذهب
بابنك انت . وقالت الاخرى انما ذهب بابنك . فتحاكمتا الى داود فقضى به للكبرى
فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فاخبرتاه فقال ائتونى بالسكين اشقه بينكما . فقالت
الصغرى لا يرحمك الله هو ابنها . فقضى به للصغرى ». قال قال ابو هريرة
والله ان سمعت بالسكين قط الا يومئذ ما كنا نقول الا المدية.

فتنة داود:

وكان داود رغم قربه من الله وحب الله له، يتعلم دائما من الله، وقد علمه
الله يوما الا يحكم ابدا الا اذا استمع لاقوال الطرفين المتخاصمين.. فيذكر لنا المولى في
كتابه الكريم قضية اخرى عرضت على داود عليه السلام.
جلس داود يوما في محرابه الذي يصلي لله ويتعبد فيه، وكان اذا دخل حجرته امر
حراسه الا يسمحوا لاحد بالدخول عليه او ازعاجه وهو يصلي.. ثم فوجئ يوما في محرابه
بانه امام اثنين من الرجال.. وخاف منهما داود لانهما دخلا رغم انه امر الا يدخل
عليه احد. سالهما داود: من انتما؟
قال احد الرجلين: لا تخف يا سيدي.. بيني وبين هذا الرجل خصومة وقد جئناك لتحكم
بيننا بالحق.
سال داود: ما هي القضية؟ قال الرجل الاول: (ان هذا اخي له تسع وتسعون نعجة
ولي نعجة واحدة). وقد اخذها مني. قال اعطها لي واخذها مني..
وقال داود بغير ان يسمع راي الطرف الاخر وحجته: (لقد ظلمك بسؤال نعجتك الى نعاجه)..
وان كثيرا من الشركاء يظلم بعضهم بعضا الا الذين امنوا..
وفوجئ داود باختفاء الرجلين من امامه.. اختفى الرجلان كما لو كانا سحابة تبخرت في الجو
وادرك داود ان الرجلين ملكان ارسلهما الله اليه ليعلماه درسا.. فلا يحكم بين المتخاصمين من
الناس الا اذا سمع اقوالهم جميعا، فربما كان صاحب التسع والتسعين نعجة معه الحق.. وخر
داود راكعا، وسجد لله، واستغفر ربه..
نسجت اساطير اليهود قصصا مريبة حول فتنة داود عليه السلام، وقيل انه اشتهى امراة احد
قواد جيشه فارسله في معركة يعرف من البداية نهايتها، واستولى على امراته.. وليس ابعد عن
تصرفات داود من هذه القصة المختلقة.. ان انسانا يتصل قلبه بالله، ويتصل تسبيحه بتسبيح الكائنات
والجمادات، يستحيل عليه ان يرى او يلاحظ جمالا بشريا محصورا في وجه امراة او جسدها..

وفاته عليه السلام:

عاد داود يعبد الله ويسبحه حتى مات… كان داود يصوم يوما ويفطر يوما.. قال رسول
الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عن داود: “افضل الصيام صيام داود.
كان يصوم يوما ويفطر يوما. وكان يقرا الزبور بسبعين صوتا، وكانت له ركعة من الليل
يبكي فيها نفسه ويبكي ببكائه كل شيء ويشفي بصوته المهموم والمحموم”..
جاء في الحديث الصحيح ان داود عليه السلام كان شديد الغيرة على نساءه، فكانت نساءه
في قصر، وحول القصر اسوار، حتى لا يقترب احد من نساءه. وفي احد الايام راى
النسوة رجلا في صحن القصر، فقالوا: من هذا والله لن راه داود ليبطشن به. فبلغ
الخبر داود -عليه السلام- فقال للرجل: من انت؟ وكيف دخلت؟ قال: انا من لا يقف
امامه حاجز. قال: انت ملك الموت. فاذن له فاخذ ملك الموت روحه.
مات داود عليه السلام وعمره مئة سنة. وشيع جنازته عشرات الالاف، فكان محبوبا جدا بين
الناس، حتى قيل لم يمت في بني اسرائيل بعد موسى وهارون احد كان بنو اسرائيل
اشد جزعا عليه.. منهم على داود.. واذت الشمس الناس فدعا سليمان الطير قال: اظلي على
داود. فاظلته حتى اظلمت عليه الارض. وسكنت الريح. وقال سليمان للطير: اظلي الناس من ناحية
الشمس وتنحي من ناحية الريح. واطاعت الطير. فكان ذلك اول ما راه الناس من ملك
سليمان.

ذو الكفل
نبذة:

من الانبياء الصالحين، وكان يصلي كل يوم مائة صلاة، قيل انه تكفل لبني قومه ان
يقضي بينهم بالعدل ويكفيهم امرهم ففعل فسمي بذي الكفل.

سيرته:

قال اهل التاريخ ذو الكفل هو ابن ايوب عليه السلام واسمه في الاصل (بشر) وقد
بعثه الله بعد ايوب وسماه ذا الكفل لانه تكفل ببعض الطاعات فوقي بها، وكان مقامه
في الشام واهل دمشق يتناقلون ان له قبرا في جبل هناك يشرف على دمشق يسمى
قاسيون. الا ان بعض العلماء يرون انه ليس بنبي وانما هو رجل من الصالحين من
بني اسرائيل. وقد رجح ابن كثير نبوته لان الله تعالى قرنه مع الانبياء فقال عز
وجل:
واسماعيل وادريس وذا الكفل كل من الصابرين (85) وادخلناهم في رحمتنا انهم من الصالحين (85)
(الانبياء)
قال ابن كثير : فالظاهر من ذكره في القران العظيم بالثناء عليه مقرونا مع هؤلاء
السادة الانبياء انه نبي عليه من ربه الصلاة والسلام وهذا هو المشهور.
والقران الكريم لم يزد على ذكر اسمه في عداد الانبياء اما دعوته ورسالته والقوم الذين
ارسل اليهم فلم يتعرض لشيء من ذلك لا بالاجمال ولا بالتفصيل لذلك نمسك عن الخوض
في موضوع دعوته حيث ان كثيرا من المؤرخين لم يوردوا عنه الا الشيء اليسير. ومما
ينبغي التنبه له ان (ذا الكفل) الذي ذكره القران هو غير (الكفل) الذي ذكر في
الحديث الشريف ونص الحديث كما رواه الامام احمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
(كان الكفل من بني اسرائيل لا يتورع عن ذنب عمله فاتته امراة فاعطاها ستين دينار
على ان يطاها فلما قعد منها مقعد الرجل من امراته ارعدت وبكت فقال لها ما
يبكيك ؟ اكرهتك ؟ قالت : لا ولكن هذا عمل لم اعمله قط وانما حملتني
عليه الحاجة ..قال : فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ؟ ثم نزل فقال اذهبي بالدنانير
لك ، ثم قال : والله لا يعصي الله الكفل ابدا فمات من ليلته فاصبح
مكتوبا على بابه : قد غفر الله للكفل). رواه الترمذي وقال: حديث حسن وروي موقوفا
على ابن عمر وفي اسناده نظر. فان كان محفوظا فليس هو ذا الكفل وانما لفظ
الحديث الكفل من غير اضافة فهو اذا رجل اخر غير المذكور في القران.
ويذكر بعض المؤرخين ان ذا الكفل تكفل لبني قومه ان يكفيهم امرهم ويقضي بينهم بالعدل
فسمي ذا الكفل وذكروا بعض القصص في ذلك ولكنها قصص تحتاج الى تثبت والى تمحيص
وتدقيق.

الرجل الصالح:

اما من يقول ان ذو الكفل لم يكن نبيا وانما كان رجلا صالحا من بني
اسرائيل فيروي انه كان في عهد نبي الله اليسع عليه السلام. وقد روي انه لما
كبر اليسع قال لو اني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى انظر
كيف يعمل؟ فجمع الناس فقال: من يتقبل لي بثلاث استخلفه: يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا
يغضب. فقام رجل تزدريه العين، فقال: انا، فقال: انت تصوم النهار، وتقوم الليل، ولا تغضب؟
قال: نعم. لكن اليسع -عليه السلام- رد الناس ذلك اليوم دون ان يستخلف احدا. وفي
اليوم التالي خرج اليسع -عليه السلام- على قومه وقال مثل ما قال اليوم الاول، فسكت
الناس وقام ذلك الرجل فقال انا. فاستخلف اليسع ذلك الرجل.
فجعل ابليس يقول للشياطين: عليكم بفلان، فاعياهم ذلك. فقال دعوني واياه فاتاه في صورة شيخ
كبير فقير، واتاه حين اخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام الليل والنهار، الا تلك النومة
فدق الباب. فقال ذو الكفل: من هذا؟ قال: شيخ كبير مظلوم. فقام ذو الكفل ففتح
الباب. فبدا الشيخ يحدثه عن خصومة بينه وبين قومه، وما فعلوه به، وكيف ظلموه، واخذ
يطول في الحديث حتى حضر موعد مجلس ذو الكفل بين الناس، وذهبت القائلة. فقال ذو
الكفل: اذا رحت للمجلس فانني اخذ لك بحقك.
فخرج الشيخ وخرج ذو الكفل لمجلسه دون ان ينام. لكن الشيخ لم يحضر للمجلس. وانفض
المجلس دون ان يحضر الشيخ. وعقد المجلس في اليوم التالي، لكن الشيخ لم يحضر ايضا.
ولما رجع ذو الكفل لمنزله عند القائلة ليضطجع اتاه الشيخ فدق الباب، فقال: من هذا؟
فقال الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له فقال: الم اقل لك اذا قعدت فاتني؟ فقال الشيخ:
انهم اخبث قوم اذا عرفوا انك قاعد قالوا لي نحن نعطيك حقك، واذا قمت جحدوني.
فقال ذو الكفل: انطلق الان فاذا رحت مجلسي فاتني.
ففاتته القائلة، فراح مجلسه وانتظر الشيخ فلا يراه وشق عليه النعاس، فقال لبعض اهله: لا
تدعن احدا يقرب هذا الباب حتى انام، فاني قد شق علي النوم. فقدم الشيخ، فمنعوه
من الدخول، فقال: قد اتيته امس، فذكرت لذي الكفل امري، فقالوا: لا والله لقد امرنا
ان لا ندع احدا يقربه. فقام الشيخ وتسور الحائط ودخل البيت ودق الباب من الداخل،
فاستيقظ ذو الكفل، وقال لاهله: الم امركم الا يدخل علي احد؟ فقالوا: لم ندع احدا
يقترب، فانظر من اين دخل. فقام ذو الكفل الى الباب فاذا هو مغلق كما اغلقه؟
واذا الرجل معه في البيت، فعرفه فقال: اعدو الله؟ قال: نعم اعييتني في كل شيء
ففعلت كل ما ترى لاغضبك.
فسماه الله ذا الكفل لانه تكفل بامر فوفى به!

زكريا
نبذة:

عبد صالح تقي اخذ يدعو للدين الحنيف، كفل مريم العذراء، دعا الله ان يرزقه ذرية
صالحة فوهب له يحيى الذي خلفه في الدعوة لعبادة الله الواحد القهار.

سيرته:

امراة عمران:

في ذلك العصر القديم.. كان هناك نبي.. وعالم عظيم يصلي بالناس.. كان اسم النبي زكريا
عليه السلام.. اما العالم العظيم الذي اختاره الله للصلاة بالناس، فكان اسمه عمران عليه السلام.

وكان لعمران زوجته لا تلد.. وذات يوم رات طائرا يطعم ابنه الطفل في فمه ويسقيه..
وياخذه تحت جناحه خوفا عليه من البرد.. وذكرها هذا المشهد بنفسها فتمنت على الله ان
تلد.. ورفعت يديها وراحت تدعو خالقها ان يرزقها بطفل..
واستجابت لها رحمة الله فاحست ذات يوم انها حامل.. وملاها الفرح والشكر لله فنذرت ما
في بطنها محررا لله.. كان معنى هذا انها نذرت لله ان يكون ابنها خادما للمسجد
طوال حياته.. يتفرغ لعبادة الله وخدمة بيته.

ولادة مريم:

وجاء يوم الوضع ووضعت زوجة عمران بنتا، وفوجئت الام! كانت تريد ولدا ليكون في خدمة
المسجد والعبادة، فلما جاء المولود انثى قررت الام ان تفي بنذرها لله برغم ان الذكر
ليس كالانثى.
سمع الله سبحانه وتعالى دعاء زوجة عمران، والله يسمع ما نقوله، وما نهمس به لانفسنا،
وما نتمنى ان نقوله ولا نفعله.. يسمع الله هذا كله ويعرفه.. سمع الله زوجة عمران
وهي تخبره انها قد وضعت بنتا، والله اعلم بما وضعت، الله.. هو وحده الذي يختار
نوع المولود فيخلقه ذكرا او يخلقه انثى.. سمع الله زوجة عمران تساله ان يحفظ هذه
الفتاة التي سمتها مريم، وان يحفظ ذريتها من الشيطان الرجيم.
ويروي الامام مسلم في صحيحه: حدثنا ابو بكر بن ابى شيبة حدثنا عبد الاعلى عن
معمر عن الزهرى عن سعيد عن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال « ما من مولود يولد الا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان الا
ابن مريم وامه ». ثم قال ابو هريرة اقرءوا ان شئتم (وانى اعيذها بك وذريتها
من الشيطان الرجيم).

كفالة زكريا لمريم:

اثار ميلاد مريم بنت عمران مشكلة صغيرة في بداية الامر.. كان عمران قد مات قبل
ولادة مريم.. واراد علماء ذلك الزمان وشيوخه ان يربوا مريم.. كل واحد يتسابق لنيل هذا
الشرف.. ان يربي ابنة شيخهم الجليل العالم وصاحب صلاتهم وامامهم فيها.
قال زكريا: اكفلها انا.. هي قريبتي.. زوجتي هي خالتها.. وانا نبي هذه الامة واولاكم بها.

وقال العلماء والشيوخ: ولماذا لا يكفلها احدنا..؟ لا نستطيع ان نتركك تحصل على هذا الفضل
بغير اشتراكنا فيه.
ثم اتفقوا على اجراء قرعة. اي واحد يكسب القرعة هو الذي يكفل مريم، ويربيها، ويكون
له شرف خدمتها، حتى تكبر هي وهي تخدم المسجد وتتفرغ لعبادة الله، واجريت القرعة.. وضعت
مريم وهي مولودة على الارض، ووضعت الى جوارها اقلام الذين يرغبون في كفالتها، واحضروا طفلا
صغيرا، فاخرج قلم زكريا..
قال زكريا: حكم الله لي بان اكفلها.
قال العلماء والشيوخ: لا.. القرعة ثلاث مرات.
وراحوا يفكرون في القرعة الثانية.. حفر كل واحد اسمه على قلم خشبي، وقالوا: نلقي باقلامنا
في النهر.. من سار قلمه ضد التيار وحده فهو الغالب.
والقوا اقلامهم في النهر، فسارت اقلامهم جميعا مع التيار ما عدا قلم زكريا.. سار وحده
ضد التيار.. وظن زكريا انهم سيقتنعون، لكنهم اصروا على ان تكون القرعة ثلاث مرات. قالوا:
نلقي اقلامنا في النهر.. القلم الذي يسير مع التيار وحده ياخذ مريم. والقوا اقلامهم فسارت
جميعا ضد التيار ما عدا قلم زكريا. وسلموا لزكريا، واعطوه مريم ليكفلها.. وبدا زكريا يخدم
مريم، ويربيها ويكرمها حتى كبرت..
كان لها مكان خاص تعيش فيه في المسجد.. كان لها محراب تتعبد فيه.. وكانت لا
تغادر مكانها الا قليلا.. يذهب وقتها كله في الصلاة والعبادة.. والذكر والشكر والحب لله..
وكان زكريا يزورها احيانا في المحراب.. وكان يفاجاه كلما دخل عليها انه امام شيء مدهش..
يكون الوقت صيفا فيجد عندها فاكهة الشتاء.. ويكون الوقت شتاء فيجد عندها فاكهة الصيف.
ويسالها زكريا من اين جاءها هذا الرزق..؟
فتجيب مريم: انه من عند الله..
وتكرر هذا المشهد اكثر من مرة.

دعاء زكريا ربه:

كان زكريا شيخا عجوزا ضعف عظمه، واشتعل راسه بالشعر الابيض، واحس انه لن يعيش طويلا..
وكانت زوجته وهي خالة مريم عجوزا مثله ولم تلد من قبل في حياتها لانها عاقر..
وكان زكريا يتمنى ان يكون له ولد يرث علمه ويصير نبيا ويستطيع ان يهدي قومه
ويدعوهم الى كتاب الله ومغفرته.. وكان زكريا لا يقول افكاره هذه لاحد.. حتى لزوجته.. ولكن
الله تعالى كان يعرفها قبل ان تقال.. ودخل زكريا ذلك الصباح على مريم في المحراب..
فوجد عندها فاكهة ليس هذا اوانها.
سالها زكريا: (قال يا مريم انى لك هذا)؟!
مريم: (قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب).
قال زكريا في نفسه: سبحان الله.. قادر على كل شيء.. وغرس الحنين اعلامه في قلبه
وتمنى الذرية.. فدعا ربه.
سال زكريا خالقه بغير ان يرفع صوته ان يرزقه طفلا يرث النبوة والحكمة والفضل والعلم..
وكان زكريا خائفا ان يضل القوم من بعده ولم يبعث فيهم نبي.. فرحم الله تعالى
زكريا واستجاب له. فلم يكد زكريا يهمس في قلبه بدعائه لله حتى نادته الملائكة وهو
قائم يصلي في المحراب: (يا زكريا انا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من
قبل سميا).
فوجئ زكريا بهذه البشرى.. ان يكون له ولد لا شبيه له او مثيل من قبل..
احس زكريا من فرط الفرح باضطراب.. تسائل من موضع الدهشة: (قال رب انى يكون لي
غلام وكانت امراتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا) ادهشه ان ينجب وهو عجوز وامراته
لا تلد..
(قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) افهمته
الملائكة ان هذه مشيئة الله وليس امام مشيئة الله الا النفاذ.. وليس هناك شيء يصعب
على الله سبحانه وتعالى.. كل شيء يريده يامره بالوجود فيوجد.. وقد خلق الله زكريا نفسه
من قبل ولم يكن له وجود.. وكل شيء يخلقه الله تعالى بمجرد المشيئة (انما امره
اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون).
امتلا قلب زكريا بالشكر لله وحمده وتمجيده.. وسال ربه ان يجعل له اية او علامة.
فاخبره الله انه ستجيء عليه ثلاثة ايام لا يستطيع فيها النطق.. سيجد نفسه غير قادر
على الكلام.. سيكون صحيح المزاج غير معتل.. اذا حدث له هذا ايقن ان امراته حامل،
وان معجزة الله قد تحققت.. وعليه ساعتها ان يتحدث الى الناس عن طريق الاشارة.. وان
يسبح الله كثيرا في الصباح والمساء..
وخرج زكريا يوما على الناس وقلبه مليء بالشكر.. واراد ان يكلمهم فاكتشف ان لسانه لا
ينطق.. وعرف ان معجزة الله قد تحققت.. فاوما الى قومه ان يسبحوا الله في الفجر
والعشاء.. وراح هو يسبح الله في قلبه.. صلى لله شكرا على استجابته لدعوته ومنحه يحيي..

ظل زكريا عليه السلام يدعوا الى ربه حتى جاءت وفاته.
ولم ترد روايات صحيحة عن وفاته عليه السلام. لكن ورايات كثير -ضعيفة- اوردت قتله على
يد جنود الملك الذي قتل يحيى من قبل.

سليمان
نبذة:

اتاه الله العلم والحكمة وعلمه منطق الطير والحيوانات وسخر له الرياح والجن، وكان له قصة
مع الهدهد حيث اخبره ان هناك مملكة باليمن يعبد اهلها الشمس من دون الله فبعث
سليمان الى ملكة سبا يطلب منها الايمان ولكنها ارسلت له الهدايا فطلب من الجن ان
ياتوا بعرشها فلما جاءت ووجدت عرشها امنت بالله.

سيرته:

(وورث سليمان داوود) ورثه في النبوة والملك.. ليس المقصود وراثته في المال، لان الانبياء لا
يورثون. انما تكون اموالهم صدقة من بعدهم للفقراء والمحتاجين، لا يخصون بها اقربائهم. قال محمد
بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: “نحن معشر الانبياء لا نورث”.

ملك سليمان:

لقد اتى الله سليمان –عليه السلام- ملكا عظيما، لم يؤته احدا من قبله، ولن يعطه
لاحد من بعده الى يوم القيامة. فقد استجاب الله تعالى لدعوة سليمان (رب اغفر لي
وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي). لنتحدث الان عن بعض الامور التي سخرها
الله لنبيه سليمان عليه السلام. لقد سخر له امرا لم يسخره لاحد من قبله ولا
بعده.. سخر الله له “الجن”. فكان لديه –عليه السلام- القدرة على حبس الجن الذين لا
يطيعون امره، وتقييدهم بالسلاسل وتعذيبهم. ومن يعص سليمان يعذبه الله تعالى. لذلك كانوا يستجيبون لاوامره،
فيبنون له القصور، والتماثيل –التي كانت مباحة في شرعهم- والاواني والقدور الضخمة جدا، فلا يمكن
تحريكها من ضخامتها. وكانت تغوص له في اعماق البحار وتستخرج اللؤلؤ والمرجان والياقوت..
وسخر الله لسليمان –عليه السلام- الريح فكانت تجري بامره. لذلك كان يستخدمها سليمان في الحرب.
فكان لديه بساطا خشبيا ضخم جدا، وكان يامر الجيش بان يركب على هذا الخشب، ويامر
الريح بان ترفع البساط وتنقلهم للمكان المطلوب. فكان يصل في سرعة خارقة.
ومن نعم الله عليه، اسالة النحاس له. مثلما انعم على والده داود بان الان له
الحديد وعلمه كيف يصهره.. وقد استفاد سليمان من النحاس المذاب فائدة عظيمة في الحرب والسلم.

ونختم هذه النعم بجيش سليمان عليه السلام. كان جيشه مكون من: البشر، والجن، والطيور. فكان
يعرف لغتها.

سليمان والخيل:

بعد عرض انعم الله عليه، لنبدا بقصته عليه السلام. وبعض احداثها.
كان سليمان –عليه السلام- يحب الخيل كثيرا، خصوصا ما يسمى (بالصافنات)، وهي من اجود انواع
الخيول واسرعها. وفي يوم من الايام، بدا استعراض هذه الخيول امام سليمان عصرا، وتذكر بعد
الروايات ان عددها كان اكثر من عشرين الف جواد، فاخذ ينظر اليها ويتامل فيها، فطال
الاستعراض، فشغله عن ورده اليومي في ذكر الله تعالى، حتى غابت الشمس، فانتبه، وانب نفسه
لان حبه لهذه الخيول شغله عن ذكر ربه حتى غابت الشمس، فامر بارجاع الخيول له
(فطفق مسحا بالسوق والاعناق). وجاءت هنا روايتان كلاهما قوي. رواية تقول انه اخذ السيف وبدا
بضربها على رقابها وارجلها، حتى لا ينشغل بها عن ذكر الله. ورواية اخرى تقول انه
كان يمسح عليها ويستغفر الله عز وجل، فكان يمسحها ليرى السقيم منها من الصحيح لانه
كان يعدها للجهاد في سبيل الله.

ابتلاء سليمان:

ورغم كل هذه النعم العظيمة والمنح الخاصة، فقد فتن الله تعالى سليمان.. اختبره وامتحنه، والفتنة
امتحان دائم، وكلما كان العبد عظيما كان امتحانه عظيما.
اختلف المفسرون في فتنة سليمان عليه السلام. ولعل اشهر رواية عن هذه الفتنة هي نفسها
اكذب رواية.. قيل ان سليمان عزم على الطواف على نسائه السبعمائة في ليلة واحدة، وممارسة
الحب معهن حتى تلد كل امراة منهن ولدا يجاهد في سبيل الله، ولم يقل سليمان
ان شاء الله، فطاف على نسائه فلم تلد منهن غير امراة واحدة.. ولدت طفلا مشوها
القوه على كرسيه.. والقصة مختلقة من بدايتها لنهايتها، وهي من الاسرائيليات الخرافية.
وحقيقة هذه الفتنة ما ذكره الفخر الرازي. قال: ان سليمان ابتلي بمرض شديد حار فيه
الطب. مرض سليمان مرضا شديدا حار فيه اطباء الانس والجن.. واحضرت له الطيور اعشابا طبية
من اطراف الارض فلم يشف، وكل يوم كان المرض يزيد عليه حتى اصبح سليمان اذا
جلس على كرسيه كانه جسد بلا روح.. كانه ميت من كثرة الاعياء والمرض.. واستمر هذا
المرض فترة كان سليمان فيها لا يتوقف عن ذكر الله وطلب الشفاء منه واستغفاره وحبه..
وانتهى امتحان الله تعالى لعبده سليمان، وشفي سليمان.. عادت اليه صحته بعد ان عرف ان
كل مجده وكل ملكه وكل عظمته لا تستطيع ان تحمل اليه الشفاء الا اذا اراد
الله سبحانه.. هذا هو الراي الذي نرتاح اليه، ونراه لائقا بعصمة نبي حكيم وكريم كسليمان..

ويذكر لنا القران الكريم مواقف عدة، تتجلى لنا فيها حكمة سليمان –عليه السلام- ومقدرته الفائقة
على استنتاج الحكم الصحيح في القضايا المعروضه عليه. ومن هذه القصص ما حدث في زمن
داود –عليه السلام- قال تعالى:
وداوود وسليمان اذ يحكمان في الحرث اذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78)
ففهمناها سليمان وكلا اتينا حكما وعلما
جلس داود كعادته يوما يحكم بين الناس في مشكلاتهم.. وجاءه رجل صاحب حقل ومعه رجل
اخر..
وقال له صاحب الحقل: سيدي النبي.. ان غنم هذا الرجل نزلت حقلي اثناء الليل، واكلت
كل عناقيد العنب التي كانت فيه.. وقد جئت اليك لتحكم لي بالتعويض..
قال داود لصاحب الغنم: هل صحيح ان غنمك اكلت حقل هذا الرجل؟
قال صاحب الغنم: نعم يا سيدي..
قال داود: لقد حكمت بان تعطيه غنمك بدلا من الحقل الذي اكلته.
قال سليمان.. وكان الله قد علمه حكمة تضاف الى ما ورث من والده: عندي حكم
اخر يا ابي..
قال داود: قله يا سليمان..
قال سليمان: احكم بان ياخذ صاحب الغنم حقل هذا الرجل الذي اكلته الغنم.. ويصلحه له
ويزرعه حتى تنمو اشجار العنب، واحكم لصاحب الحقل ان ياخذ الغنم ليستفيد من صوفها ولبنها
وياكل منه، فاذا كبرت عناقيد الغنم وعاد الحقل سليما كما كان اخذ صاحب الحقل حقله
واعطى صاحب الغنم غنمه..
قال داود: هذا حكم عظيم يا سليمان.. الحمد لله الذي وهبك الحكمة.
ومنها ما جاء في الحديث الصحيح: حدثنى زهير بن حرب حدثنى شبابة حدثنى ورقاء عن
ابى الزناد عن الاعرج عن ابى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال «
بينما امراتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن احداهما . فقالت هذه لصاحبتها انما ذهب
بابنك انت . وقالت الاخرى انما ذهب بابنك . فتحاكمتا الى داود فقضى به للكبرى
فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فاخبرتاه فقال ائتونى بالسكين اشقه بينكما . فقالت
الصغرى لا يرحمك الله هو ابنها . فقضى به للصغرى ». قال قال ابو هريرة
والله ان سمعت بالسكين قط الا يومئذ ما كنا نقول الا المدية.

سليمان والنملة:

ويذكر لنا القران الكريم قصة عجيبة:
وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يوزعون (17) حتى اذا اتوا على واد
النمل قالت نملة يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون
(18) فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب اوزعني ان اشكر نعمتك التي انعمت علي وعلى
والدي وان اعمل صالحا ترضاه وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين (19) (النمل)
يقول العلماء “ما اعقلها من نملة وما افصحها”. (يا) نادت، (ايها) نبهت، (ادخلوا) امرت، (لا
يحطمنكم) نهت، (سليمان) خصت، (وجنوده) عمت، (وهم لا يشعرون) اعتذرت. سمع سليمان كلام النملة فتبسم
ضاحكا من قولها.. ما الذي تتصوره هذه النملة! رغم كل عظمته وجيشه فانه رحيم بالنمل..
يسمع همسه وينظر دائما امامه ولا يمكن ابدا ان يدوسه.. وكان سليمان يشكر الله ان
منحه هذه النعمة.. نعمة الرحمة ونعمة الحنو والشفقة والرفق.

سليمان عليه السلام وبلقيس ملكة سبا:

ولعل اشهر قصة عن سليمان –عليه السلام- هي قصته مع بلقيس ملكة سبا.
جاء يوم.. واصدر سليمان امره لجيشه ان يستعد.. بعدها، خرج سليمان يتفقد الجيش، ويستعرضه ويفتش
عليه.. فاكتشف غياب الهدهد وتخلفه عن الوقوف مع الجيش، فغضب وقرر تعذيبه او قتله، الا
ان كان لديه عذر قوي منعه من القدوم.
فجاء الهدهد ووقف على مسافة غير بعيدة عن سليمان –عليه السلام- (فمكث غير بعيد فقال
احطت بما لم تحط به وجئتك من سبا بنبا يقين) وانظروا كيف يخاطب هذا الهدهد
اعظم ملك في الارض، بلا احساس بالذل او المهانة، ليس كما يفعل ملوك اليوم لا
يتكلم معهم احد الا ويجب ان تكون علامات الذل ظاهرة عليه. فقال الهدهد ان اعلم
منك بقضية معينة، فجئت باخبار اكيدة من مدينة سبا باليمن. (اني وجدت امراة) بلقيس (تملكهم)
تحكمهم (واوتيت من كل شيء) اعطاها الله قوة وملكا عظيمين وسخر لها اشياء كثيرة (ولها
عرش عظيم) وكرسي الحكم ضخم جدا ومرصع بالجواهر (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله)
وهم يعبدون الشمس (وزين لهم الشيطان اعمالهم) اضلهم الشيطان (فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون
(24) الا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والارض ويعلم ما تخفون وما تعلنون)
يسجدون للشمس ويتركون الله سبحانه وتعالى (الله لا اله الا هو رب العرش العظيم) وذكر
العرش هنا لانه ذكر عرش بلقيس من قبل، فحتى لا يغتر انسان بعرشها ذكر عرش
الله سبحانه وتعالى.
فتعجب سليمان من كلام الهدهد، فلم يكن شائعا ان تحكم المراة البلاد، وتعجب من ان
قوما لديهم كل شيء ويسجدون للشمس، وتعجب من عرشها العظيم، فلم يصدق الهدهد ولم يكذبه
انما (قال سننظر اصدقت ام كنت من الكاذبين) وهذا منتهى العدل والحكمة. ثم كتب كتابا
واعطاه للهدهد وقال له: (اذهب بكتابي هذا فالقه اليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون)
الق الكتاب عليهم وقف في مكان بعيد يحث تستطيع سماع ردهم على الكتاب.
يختصر السياق القراني في سورة النمل ما كان من امر ذهاب الهدهد وتسليمه الرسالة، وينتقل
مباشرة الى الملكة، وسط مجلس المستشارين، وهي تقرا على رؤساء قومها ووزرائها رسالة سليمان..
قالت يا ايها الملا اني القي الي كتاب كريم (29) انه من سليمان وانه بسم
الله الرحمن الرحيم (30) الا تعلوا علي واتوني مسلمين (31) (النمل)
هذا هو نص خطاب الملك سليمان لملكة سبا..
انه يامر في خطابه ان ياتوه مسلمين.. هكذا مباشرة.. انه يتجاوز امر عبادتهم للشمس.. ولا
يناقشهم في فساد عقيدتهم.. ولا يحاول اقناعهم بشيء.. انما يامر فحسب.. اليس مؤيدا بقوة تسند
الحق الذي يؤمن به..؟ لا عليه اذن ان يامرهم بالتسليم..
كان هذا كله واضحا من لهجة الخطاب القصيرة المتعالية المهذبة في نفس الوقت..
طرحت الملكة على رؤساء قومها الرسالة.. وكانت عاقلة تشاورهم في جميع الامور: (قالت يا ايها
الملا افتوني في امري ما كنت قاطعة امرا حتى تشهدون).
كان رد فعل الملا وهم رؤساء قومها التحدي.. اثارت الرسالة بلهجتها المتعالية المهذبة غرور القوم،
واحساسهم بالقوة. ادركوا ان هناك من يتحداهم ويلوح لهم بالحرب والهزيمة ويطالبهم بقبول شروطه قبل
وقوع الحرب والهزيمة (قالوا نحن اولوا قوة واولوا باس شديد والامر اليك فانظري ماذا تامرين).

اراد رؤساء قومها ان يقولوا: نحن على استعداد للحرب.. ويبدو ان الملكة كانت اكثر حكمة
من رؤساء قومها.. فان رسالة سليمان اثارت تفكيرها اكثر مما استنفرتها للحرب..
فكرت الملكة طويلا في رسالة سليمان.. كان اسمه مجهولا لديها، لم تسمع به من قبل،
وبالتالي كانت تجهل كل شيء عن قوته، ربما يكون قويا الى الحد الذي يستطيع فيه
غزو مملكتها وهزيمتها.
ونظرت الملكة حولها فرات تقدم شعبها وثراءه، وخشيت على هذا الثراء والتقدم من الغزو.. ورجحت
الحكمة في نفسها على التهور، وقررت ان تلجا الى اللين، وترسل اليه بهدية.. وقدرت في
نفسها انه ربما يكون طامعا قد سمع عن ثراء المملكة، فحدثت نفسها بان تهادنه وتشتري
السلام منه بهدية.. قدرت في نفسها ايضا ان ارسالها بهدية اليه، سيمكن رسلها الذين يحملون
الهدية من دخول مملكته، واذا سيكون رسلها عيونا في مملكته.. يرجعون باخبار قومه وجيشه، وفي
ضوء هذه المعلومات، سيكون تقدير موقفها الحقيقي منه ممكنا..
اخفت الملكة ما يدور في نفسها، وحدثت رؤساء قومها بانها ترى استكشاف نيات الملك سليمان،
عن طريق ارسال هدية اليه، انتصرت الملكة للراي الذي يقضي بالانتظار والترقب.. واقنعت رؤساء قومها
بنبذ فكرة الحرب مؤقتا، لان الملوك اذا دخلوا قرية انقلبت اوضاعها وصار رؤساءها هم اكثر
من فيها تعرضا للهوان والذل..
واقتنع رؤساء قومها حين لوحت الملكة بما يتهددهم من اخطار..
وصلت هدية الملكة بلقيس الى الملك النبي سليمان..
جاءت الاخبار لسليمان بوصول رسل بلقيس وهم يحملون الهدية.. وادرك سليمان على الفور ان الملكة
ارسلت رجالها ليعرفوا معلومات عن قوته لتقرر موقفها بشانه.. ونادى سليمان في المملكة كلها ان
يحتشد الجيش.. ودخل رسل بلقيس وسط غابة كثيفة مدججة بالسلاح.. فوجئ رسل بلقيس بان كل
غناهم وثرائهم يبدو وسط بهاء مملكة سليمان.. وصغرت هديتهم في اعينهم.
وفوجئوا بان في الجيش اسودا ونمورا وطيورا.. وادركوا انهم امام جيش لا يقاوم..
ثم قدموا لسليمان هدية الملكة بلقيس على استحياء شديد. وقالوا له نحن نرفض الخضوع لك،
لكننا لا نريد القتال، وهذه الهدية علامة صلح بيننا ونتمنى ان تقبلها. نظر سليمان الى
هدية الملكة واشاح ببصره (فلما جاء سليمان قال اتمدونن بمال فما اتاني الله خير مما
اتاكم بل انتم بهديتكم تفرحون) كشف الملك سليمان بكلماته القصيرة عن رفضه لهديتهم، وافهمهم انه
لا يقبل شراء رضاه بالمال. يستطيعون شراء رضاه بشيء اخر (الا تعلوا علي واتوني مسلمين)
ثم هددهم (ارجع اليهم فلناتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها اذلة وهم صاغرون).

وصل رسل بلقيس الى سبا.. وهناك هرعوا الى الملكة وحدثوها ان بلادهم في خطر.. حدثوها
عن قوة سليمان واستحالة صد جيشه.. افهموها انها ينبغي ان تزوره وتترضاه.. وجهزت الملكة نفسها
وبدات رحلتها نحو مملكة سليمان..
جلس سليمان في مجلس الملك وسط رؤساء قومه ووزرائه وقادة جنده وعلمائه.. كان يفكر في
بلقيس.. يعرف انها في الطريق اليه.. تسوقها الرهبة لا الرغبة.. ويدفعها الخوف لا الاقتناع.. ويقرر
سليمان بينه وبين نفسه ان يبهرها بقوته، فيدفعها ذلك للدخول في الاسلام. فسال من حوله،
ان كان بامكان احدهم ان يحضر له عرش بلقيس قبل ان تصل الملكة لسليمان.
فعرش الملكة بلقيس هو اعجب ما في مملكتها.. كان مصنوعا من الذهب والجواهر الكريمة، وكانت
حجرة العرش وكرسي العرش ايتين في الصناعة والسبك.. وكانت الحراسة لا تغفل عن العرش لحظة..

فقال احد الجن انا استطيع احضار العرش قبل ان ينتهي المجلس –وكان عليه السلام يجلس
من الفجر الى الظهر- وانا قادر على حمله وامين على جواهره.
لكن شخص اخر يطلق عليه القران الكريم “الذي عنده علم الكتاب” قال لسليمان انا استطيع
احضار العرش في الوقت الذي تستغرقه العين في الرمشة الواحدة.
واختلف العلماء في “الذي عنده علم الكتاب” فمنهم من قال انه وزيره او احد علماء
بني اسرائيل وكان يعرف اسم الله الاعظم الذي اذا دعي به اجاب. ومنهم من قال
انه جبريل عليه السلام.
لكن السياق القراني ترك الاسم وحقيقة الكتاب غارقين في غموض كثيف مقصود.. نحن امام سر
معجزة كبرى وقعت من واحد كان يجلس في مجلس سليمان.. والاصل ان الله يظهر معجزاته
فحسب، اما سر وقوع هذه المعجزات فلا يديره الا الله.. وهكذا يورد السياق القراني القصة
لايضاح قدرة سليمان الخارقة، وهي قدرة يؤكدها وجود هذا العالم في مجلسه.
هذا هو العرش ماثل امام سليمان.. تامل تصرف سليمان بعد هذه المعجزة.. لم يستخفه الفرح
بقدرته، ولم يزهه الشعور بقوته، وانما ارجع الفضل لمالك الملك.. وشكر الله الذي يمتحنه بهذه
القدرة، ليرى ايشكر ام يكفر.
تامل سليمان عرش الملكة طويلا ثم امر بتغييره، امر باجراء بعض التعديلات عليه، ليمتحن بلقيس
حين تاتي، ويرى هل تهتدي الى عرشها ام تكون من الذين لا يهتدون.
كما امر سليمان ببناء قصر يستقبل فيه بلقيس. واختار مكانا رائعا على البحر وامر ببناء
القصر بحيث يقع معظمه على مياه البحر، وامر ان تصنع ارضية القصر من زجاج شديد
الصلابة، وعظيم الشفافية في نفس الوقت، لكي يسير السائر في ارض القصر ويتامل تحته الاسماك
الملونة وهي تسبح، ويرى اعشاب البحر وهي تتحرك.
تم بناء القصر، ومن فرط نقاء الزجاج الذي صنعت منه ارض حجراته، لم يكن يبدو
ان هناك زجاجا. تلاشت ارضية القصر في البحر وصارت ستارا زجاجيا خفيا فوقه.
يتجاوز السياق القراني استقبال سليمان لها الى موقفين وقعا لها بتدبيره: الاول موقفها امام عرشها
الذي سبقها بالمجيء، وقد تركته وراءها وعليه الحراس. والثاني موقفها امام ارضية القصر البلورية الشفافة
التي تسبح تحتها الاسماك.
لما اصطحب سليمان عليه السلام بلقيس الى العرش، نظرت اليه فراته كعرشها تماما.. وليس كعرشها
تماما.. اذا كان عرشها فكيف سبقها في المجيء..؟ واذا لم يكن عرشها فكيف امكن تقليده
بهذه الدقة ..؟
قال سليمان وهو يراها تتامل العرش: (اهكذا عرشك؟)
قالت بلقيس بعد حيرة قصيرة: (كانه هو!)
قال سليمان: (واوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين).
توحي عبارته الاخيرة الى الملكة بلقيس ان تقارن بين عقيدتها وعلمها، وعقيدة سليمان المسلمة وحكمته.
ان عبادتها للشمس، ومبلغ العلم الذي هم عليه، يصابان بالخسوف الكلي امام علم سليمان واسلامه.

لقد سبقها سليمان الى العلم بالاسلام، بعدها سار من السهل عليه ان يسبقها في العلوم
الاخرى، هذا ما توحي به كلمة سليمان لبلقيس..
ادركت بلقيس ان هذا هو عرشها، لقد سبقها الى المجيء، وانكرت فيه اجزاء وهي لم
تزل تقطع الطريق لسليمان.. اي قدرة يملكها هذا النبي الملك سليمان؟!
انبهرت بلقيس بما شاهدته من ايمان سليمان وصلاته لله، مثلما انبهرت بما راته من تقدمه
في الصناعات والفنون والعلوم.. وادهشها اكثر هذا الاتصال العميق بين اسلام سليمان وعلمه وحكمته.
انتهى الامر واهتزت داخل عقلها الاف الاشياء.. رات عقيدة قومها تتهاوى هنا امام سليمان، وادركت
ان الشمس التي يعبدها قومها ليست غير مخلوق خلقه الله تعالى وسخره لعباده، وانكسفت الشمس
للمرة الاولى في قلبها، اضاء القلب نور جديد لا يغرب مثلما تغرب الشمس.
ثم قيل لبلقيس ادخلي القصر.. فلما نظرت لم تر الزجاج، ورات المياه، وحسبت انها ستخوض
البحر، (وكشفت عن ساقيها) حتى لا يبتل رداؤها.
نبهها سليمان -دون ان ينظر- الا تخاف على ثيابها من البلل. ليست هناك مياه. (انه
صرح ممرد من قوارير).. انه زجاج ناعم لا يظهر من فرط نعومته..
اختارت بلقيس هذه اللحظة لاعلان اسلامها.. اعترفت بظلمها لنفسها واسلمت (مع سليمان لله رب العالمين).
وتبعها قومها على الاسلام.
ادركت انها تواجه اعظم ملوك الارض، واحد انبياء الله الكرام.
يسكت السياق القراني عن قصة بلقيس بعد اسلامها.. ويقول المفسرون انها تزوجت سليمان بعد ذلك..
ويقال انها تزوجت احد رجاله.. احبته وتزوجته، وثبت ان بعض ملوك الحبشة من نسل هذا
الزواج.. ونحن لا ندري حقيقة هذا كله.. لقد سكت القران الكريم عن ذكر هذه التفاصيل
التي لا تخدم قصه سليمان.. ولا نرى نحن داعيا للخوض فيما لا يعرف احد..

هيكل سليمان:

من الاعمال التي قام بها سليمان –عليه السلام- اعادة بناء المسجد الاقصى الذي بناه يعقوب
من قبل. وبنى بجانب المسجد الاقصى هيكلا عظيما كان مقدسا عند اليهود –ولا زالوا يبحثون
عنه الى اليوم. وقد ورد في الهدي النبوي الكريم ان سليمان لما بنى بيت المقدس
سال ربه عز وجل ثلاثا، فاعطاه الله اثنتين ونحن نرجو ان تكون لنا الثالثة: ساله
حكما يصادف حكمه –اي احكاما عادلة كاحكام الله تعالى- فاعطاه اياه، وساله ملكا لا ينبغي
لاحد من بعده فاعطاه اياه، وساله ايما رجل خرج من بيته لا يريد الا الصلاة
في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته امه، واسال الله ان تكون لنا.

وقد تفننت التوراة في وصف الهيكل.. وهذا بعض ما ورد في التوراة عنه:
كان هيكل سليمان في اورشليم هو مركز العبادة اليهودية، ورمز تاريخ اليهود، وموضع فخارهم وزهوهم..
وقد شيده الملك سليمان وانفق ببذخ عظيم على بنائه وزخرفته.. حتى لقد احتاج في ذلك
الى اكثر من 180 الف عامل (سفر الملوك الاول).. وقد اتى له سليمان بالذهب من
ترشيش، وبالخشب من لبنان، وبالاحجار الكريمة من اليمن، ثم بعد سبع سنوات من العمل المتواصل
تكامل بناء الهيكل، فكان اية من ايات الدنيا في ذلك الزمان.
وامتدت يد الخراب الى الهيكل مرات عديدة، اذ كان هدفا دائما للغزاة والطامعين ينهبون ما
به من كنوز، ثم يشيعون فيه الدمار، (سفر الملوك الثاني).. ثم قام احد الملوك بتجديد
بنائه تحببا في اليهود.. فاستغرق بناء الهيكل هذه المرة 46 سنة، اصبح بعدها صرحا ضخما
تحيط به ثلاثة اسوار هائلة.. وكان مكونا من ساحتين كبيرتين: احداهما خارجية والاخرى داخلية، وكانت
تحيط بالساحة الداخلية اروقة شامخة تقوم على اعمدة مزدوجة من الرخام، وتغطيها سقوف من خشب
الارز الثمين. وكانت الاروقة القائمة في الجهة الجنوبية من الهيكل ترتكز على 162 عمودا، كل
منها من الضخامة بحيث لا يمكن لاقل من ثلاثة رجال متشابكي الاذرع ان يحيطوا بدائرته..
وكان للساحة الخارجية من الهيكل تسع بوابات ضخمة مغطاة بالذهب.. وبوابة عاشرة مصبوبة كلها على
الرغم من حجمها الهائل من نحاس كونثوس. وقد تدلت فوق تلك البوابات كلها زخارف على
شكل عناقيد العنب الكبيرة المصنوعة من الذهب الخالص، وقد استمرت هدايا الملوك للهيكل حتى اخر
زمانه (سفر الملوك الاول)، فكان يزخر بالكنوز التي لا تقدر بثمن..

وفاته عليه السلام:

عاش سليمان وسط مجد دانت له فيه الارض.. ثم قدر الله تعالى عليه الموت فمات..
ومثلما كانت حياة سليمان قمة في المجد الذي يمتلئ بالعجائب والخوارق.. كان موته اية من
ايات الله تمتلئ بالعجائب والخوارق.. وهكذا جاء موته منسجما مع حياته، متسقا مع مجده، جاء
نهاية فريدة لحياة فريدة وحافلة.
لقد قدر الله تعالى ان يكون موت سليمان عليه الصلاة والسلام بشكل ينسف فكرة معرفة
الجن للغيب.. تلك الفكرة التي فتن الناس بها فاستقرت في اذهان بعض البشر والجن..
كان الجن يعملون لسليمان طالما هو حي.. فلما مات انكسر تسخيرهم له، واعفوا من تبعة
العمل معه..
وقد مات سليمان دون ان يعلم الجن، فظلوا يعملون له، وظلوا مسخرين لخدمته، ولو انهم
كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
كان سليمان متكئا على عصاه يراقب الجن وهم يعملون. فمات وهو على وضعه متكئا على
العصا.. وراه الجن فظنوا انه يصلي واستمروا في عملهم. ومرت ايام طويلة.. ثم جاءت دابة
الارض، وهي نملة تاكل الخشب.. وبدات تاكل عصا سليمان.. كانت جائعة فاكلت جزء من العصا..
استمرت النملة تاكل العصا اياما.. كانت تاكل الجزء الملامس للارض، فلما ازداد ما اكلته منها
اختلت العصا وسقطت من يد سليمان.. اختل بعدها توازن الجسد العظيم فهوى الى الارض.. ارتطم
الجسد العظيم بالارض فهرع الناس اليه..
ادركوا انه مات من زمن.. تبين الجن انهم لا يعلمون الغيب.. وعرف الناس هذه الحقيقة
ايضا.. لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين، ما لبثوا يعملون وهم
يظنون ان سليمان حي، بينما هو ميت منذ فترة..
بهذه النهاية العجيبة ختم الله حياة هذا النبي الملك.

السابق
خواطر الليل
التالي
موضوع تعبير عن زيارة المرضى