ما هي مناسبة قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (صبرا ال ياسر فان موعدكم الجنة)؟
هذا قالها رسول -صلى الله عليه وسلم- لما كانوا يعذبون، كان ياسر وعمار وام عمار
يعذبون، فيقول لهم: صبرا يا ال ياسر فان موعدكم الجنة، لان كفار قريش كانوا يعذبون
المسلمين في مكة، ومن ذلك ال ياسر، وبلال وغيرهم، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- صبرهم
وشجعهم على الصبر وان لهم في ذلك الخير العظيم، وان الله -سبحانه وتعالى- سوف يدخلهم
الجنة على صبرهم على دين الله.
ابو اليقظان عمار بن ياسر رضي الله عنه ، وامه سمية اول شهيدة في الاسلام،
وابوه ياسر واخوه عبد الله، من السابقين الى اعتناق الاسلام، ونبذ الشرك وعبادة الاوثان، وكانوا
من المستضعفين الذين ليس لهم اهل وعشائر في مكة يحمونهم، فكان المشركون ينزلون بهم العذاب
الشديد بلا شفقة ليرجعوا عن دينهم .
قال ابن الاثير: “عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن مالك ..
ثم العنسي، ابو اليقظان، وهو من السابقين الاولين الى الاسلام، وهو حليف بني مخزوم، وامه
سمية، وهي اول من استشهد في سبيل الله عز وجل ، وهو وابوه وامه من
السابقين، وكان اسلام عمار بعد بضعة وثلاثين، وهو ممن عذب في الله ” .
اسلم عمار رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الارقم بن
ابي الارقم، والوقت حينئذ وقت فتنة، قال عمار: ” لقيت صهيب بن سنان على باب
دار الارقم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقلت له: ما تريد؟، فقال لي:
وما تريد انت؟، فقلت: اردت الدخول الى محمد فاسمع كلامه، فقال: فانا اريد ذلك، فدخلنا
عليه، فعرض علينا الاسلام فاسلمنا، ثم مكثنا يومنا حتى امسينا، ثم خرجنا مستخفين ” .
قال مجاهد: ” اول من اظهر الاسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وابو بكر، وبلال، وخباب، وصهيب، وعمار، وامه سمية ” .
محنة وبلاء :
اسلم ياسر وسمية وعمار, واخوه عبد الله بن ياسر، فغضب عليهم مواليهم بنو مخزوم غضبا
شديدا، وصبوا عليهم العذاب صبا، قال ابن هشام في السيرة النبوية: ” وكانت بنو مخزوم
يخرجون بعمار بن ياسر، وبابيه وامه وكانوا اهل بيت اسلام اذا حميت الظهيرة، يعذبونهم برمضاء
مكة ( الرمل الحار من شدة حرارة الشمس )، فيمر بهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم فيقول: ( صبرا ال ياسر، فان موعدكم الجنة )، فاما امه فقتلوها، وهي
تابى الا الاسلام ” .
مات ياسر رضي الله عنه من شدة العذاب، واغلظت امراته سمية رضي الله عنها القول
لابي جهل فطعنها في قبلها بحربة في يديه فماتت، وهي اول شهيدة في الاسلام .
وشددوا العذاب على عمار رضي الله عنه بالحر تارة، وبوضع الصخر الاحمر على صدره اخرى،
وبغطه في الماء حتى كان يفقد وعيه، وقالوا له: لا نتركك حتى تسب محمدا، او
تقول في اللات والعزى خيرا، فوافقهم على ذلك مكرها .
عن ابي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن ابيه قال: ( اخذ المشركون
عمار بن ياسر رضي الله عنه فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم
وذكر الهتهم بخير، ثم تركوه، فلما اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال:
ما وراءك؟، قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك وذكرت الهتهم بخير،
قال: كيف تجد قلبك؟، قال: اجد قلبي مطمئنا بالايمان، قال: فان عادوا فعد، فانزل الله
تعالى: { من كفر بالله من بعد ايمانه الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن
من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم }( النحل الاية: 106
) رواه الحاكم .
قال ابن كثير في تفسيره: ” روى العوفي عن ابن عباس: ان هذه الاية نزلت
في عمار بن ياسر، حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ،
فوافقهم على ذلك مكرها، وجاء معتذرا الى النبي صلى الله عليه وسلم ، فانزل الله
هذه الاية، وهكذا قال الشعبي، وابو مالك وقتادة ” .
وعن عمر بن الحكم: قال : ” كان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول
” .
ولم يكن التعذيب والاذى مقصورا على رجال المسلمين دون نسائهم، وانما طال النساء ايضا قسط
من الاذى والعذاب بسبب اسلامهن، كسمية بنت خياط، وفاطمة بنت الخطاب، ولبيبة جارية بني المؤمل،
وزنيرة الرومية، والنهدية وابنتها، وام عبيس، وحمامة ام بلال وغيرهن رضي الله عنهن .. وقد
سطرت سمية رضي الله عنها بثباتها على دينها وبموقفها الشجاع امام ابي جهل، وثباتها على
دينها اعلى واغلى ما تقدمه امراة في سبيل الله، لتبقى كل امراة مسلمة, حتى يرث
الله الارض ومن عليها ترنو اليها ويهفو قلبها في الاقتداء بها، فلا تبخل بشيء في
سبيل الله، بعد ان جادت سمية بنت خياط رضي الله عنها بروحها في سبيل الله
.
بين العزيمة والرخصة في النطق بكلمة الكفر :
عبر خباب – رضي الله عنه – عن حقيقة المعاناة التي كان عليها بعض الصحابة
المستضعفين من شدة العذاب، حين طلب الدعاء والاستنصار من النبي صلى الله عليه وسلم قائلا:
( الا تدعو لنا؟، الا تستنصر لنا؟ )، وهذا الاسلوب في الطلب يوحي بما وراءه
من شدة البلاء الذي يعيشون فيه، وانه صادر من قلوب اتعبها الايذاء والتعذيب، فهي تلتمس
الفرج العاجل، وتستعجل النصر فتستدعيه .
قال ابن كثير وغيره: ” قال ابن اسحاق: عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد
الله بن عباس: اكان المشركون يبلغون من اصحاب رسول الله من العذاب ما يعذرون به
في ترك دينهم؟، قال: نعم والله!، ان كانوا ليضربون احدهم، ويجيعونه، ويعطشونه حتى ما يقدر
ان يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سالوه من الفتنة،
حتى يقولوا له: اللات والعزى الهان من دون الله، فيقول: نعم، افتداء منهم بما يبلغون
من جهدهم .. قلت: وفي مثل هذا انزل الله تعالى { من كفر بالله من
بعد ايمانه الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب
من الله ولهم عذاب عظيم }( النحل الاية: 106 )، فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل
لهم من الاهانة والعذاب البليغ، اجارنا الله من ذلك بحوله وقوته ” .
لقد عذب المشركون من اسلم واظهر اسلامه شديد العذاب ليرتدوا عن دينهم ويكفروا بالله وبما
جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يطلبون منهم النطق بكلمة الشرك
ليكفوا عن تعذيبهم، والا استمر تعذيبهم ما داموا على الاسلام، فمن اولئك المعذبين من ابى
ان يعطيهم شيئا مما طلبوه كبلال رضي الله عنه ، ومنهم من اعطاهم ذلك –
ظاهرا – ليخففوا عنه العذاب، وثبت على عقيدة التوحيد والايمان بالنبي صلى الله عليه وسلم
في باطنه، كعمار بن ياسر، وفي ذلك فقه يتراوح بين العزيمة والرخصة, يحتاج من الدعاة
ان يستوعبوه, ويضعوه في اطاره الصحيح, وفق معاييره الدقيقة دون افراط او تفريط .
قال ابن حجر : ” قال ابن بطال تبعا لابن المنذر : اجمع العلماء على
ان من اكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، انه لا اثم عليه ان
كفر وقلبه مطمئن بالايمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر ” .
وقال الطبري: ” عن ابن عباس قال: فاخبر الله سبحانه انه من كفر من بعد
ايمانه فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم، فاما من اكره فتكلم به لسانه وخالفه
قلبه بالايمان لينجو بذلك من عدوه فلا حرج عليه، لان الله سبحانه انما ياخذ العباد
بما عقدت عليه قلوبهم ” .
وقال ابن كثير: ” ولهذا اتفق العلماء على انه يجوز ان يوالي المكره على الكفر،
ابقاء لمهجته، ويجوز له ان يستقتل، كما كان بلال – رضي الله عنه – يابى
عليهم ذلك وهم يفعلون به الافاعيل، حتى انهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة
الحر، ويامرونه ان يشرك بالله فيابى عليهم وهو يقول: احد، احد، ويقول: والله لو اعلم
كلمة هي اغيظ لكم منها لقلتها – رضي الله عنه وارضاه ” .
ايهما افضل: الرخصة ام العزيمة؟ :
الافضل العزيمة والصبر والتحمل، وخاصة لمن كان من اهل العلم، او الفضل، او القدوة للناس،
وهو قول الجمهور .
قال ابن بطال: ” اجمع العلماء ان من اكره على الكفر فاختار القتل انه اعظم
اجرا عند الله ممن اختار الرخصة ” .
وقال ابن كثير في تفسيره: ” والافضل والاولى: ان يثبت المسلم على دينه، ولو افضى
الى قتله “.
وذكر ابن تيمية في كتابه الاستقامة حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( كان
الرجل فيمن قبلكم، يحفر له في الارض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على راسه، فيشق
باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بامشاط الحديد ما دون لحمه من عظم او
عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الامر، حتى يسير الراكب من صنعاء
الى حضرموت لا يخاف الا الله او الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون ) رواه البخاري،
ثم قال: ” ومعلوم ان هذا انما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في معرض
الثناء على اولئك، لصبرهم وثباتهم، وليكون ذلك عزة للمؤمنين من هذه الامة ” .
فالافضل الصبر والتحمل، واما الرخصة فثابتة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه
وسلم ، قال ابو الحسن المباركفوري: ” وهذا يدل على انه ينبغي اختيار الموت والقتل
دون اظهار الشرك، وهو وصية بالافضل والعزيمة، فانه يجوز التلفظ بكلمة الكفر والشرك عند الاكراه،
لقوله تعالى: { الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان }(سورة النحل من الاية: 106) .
ان المتامل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يرى ان من اهم سمات التربية
النبوية في المرحلة المكية: التربية على الثبات على دين الله، وفي قصة اسلام عمار رضي
الله عنه نرى كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي اصحابه على الصبر على
الاذى، والثبات امام المحن والابتلاءات، وعلى تعلق قلوبهم بما اعده الله لهم في الجنة من
النعيم، مع التفاؤل والتطلع للمستقبل المشرق الذي ينصر الله فيه الاسلام .. فلم يكن في
وسعه صلى الله عليه وسلم ان يقدم شيئا لال ياسر, وليست لديه القوة ليستخلصهم من
الاذى والعذاب، فكل ما يستطيعه صلوات الله وسلامه عليه وسلم ان يحثهم على الصبر والثبات,
ويزف لهم البشرى بالمغفرة والجنة, لتصبح قصة هذه الاسرة المباركة بقوله صلى الله عليه وسلم
: ( صبرا ال ياسر فان موعدكم الجنة )، من رموز الثبات والتضحية في سبيل
الله، وقدوة للاجيال المتلاحقة على مر العصور والتاريخ .