احلى مواضيع جديدة

اجاثا كريستي البيت المائل

اجاثا كريستي البيت المائل 31F80D4Bdadfd58C062B5D84Bdcf67F0

اجاثا كريستي البيت المائل 31F80D4Bdadfd58C062B5D84Bdcf67F0

مقدمة المولف…
هذه القصة من اخص رواياتي المفضلة، و قد حفظتها سنين طويلة افكر في امرها و
اعيد النظر فيها. اقول لنفسي: في يوم ما، في الوقت المناسب، حين اريد امتاع نفسي
حقا، شوف ابدا في كتابتها.
ان روايتي (( البيت المائل )) كانت متعة خالصة. و اتساءل كثيرا: هل يظن الناس
الذين يقرؤون الكتب ان التاليف عمل صعب ام متعة؟ و كان الناس يقولون لي مرة
بعد اخرى: ((لا بد انك استمتعت بكتابة هذه القصة او تلك)).
اما هذه القصة فابت بعناد ان تخرج كما اتمنى، فشخصياتها بغيضة و عقدتها متشابكى من
غير ضرورة، و الحوار متكلف. و ربما لا يكون المؤلف افضل من يحكم على عمله،
و مهما يكن فكل من قرا رواية (( البيت المائل )) قد احبها، و من
اجل هذا اقول بانها واحدة من افضل رواياتي.
لا اعرف كيف جائتني فكرة عائلة ليونايدز؟ فقد جاءت هكذا، ثم – كما يقول توبساي
– : (( لقد نمت و ترعرعت)).
انني اشعر بانني كنت ناسخة لهذه الفكرة ليس غير
*الجزء الاول
عرفت صوفيا ليونايدز اول مرة في مصر قبل نهاية الحرب العالمية. كانت تشغل منصبا اداريا
رفيعا في احدى دوائر وزارة الخارجية هناك، و قد عرفتها اثناء وظيفتي بصفة رسمية فاعجبتفي
الحال بكفاءتها التي اوصلتها الى ذاك المنصب رغم صغر سنها اذ كانت انذاك في الثانية
و العشريت من عمرها.

و الى جانب حسن مظهرها فقد كانت ذكية و صريحة تسهل محادثتها رغم ميلها للسخرية،
فاصبحنا صديقين، و احببتها و رغبت في الزواج بها. كان ذلك حين تقرر نقلي للعمل
في المشرق بعد خمود الحرب في اوروبا.

عزمت على هذا القرار بعدما تناولنا العشاء في فندق شبرد، فاقررت بحقيقة كنت اعرفها منذ
زمن طويل، فقد اعجبتني منذ رايتها قبل الحرب! اعجبني كل شيء رايته فيها: الشعر الداكن
الاجعد الذي كان يتشامخ الى اعلى من جبهتها، و العينان الزرقاوان المفعمتان بالحيوية، و الذقن
البارز الصغير، و الانف المستقيم، و ثيابها الانيقة!

كانت تبدو انكليزية ممتلئة بالحيوية، و قد اعجبني ذلك كثيرابعد ثلاث سنين قضيتها غائبا عن
بلدي. و فكرت في نفسي ان لا احد يبدو انكليزيا اكثر منها.. ترى هل تستطيع
ان تكون انكليزية حقا كما تبدو؟ هل يصبح الشيء الزائف كالشيء الخالص في الكمال؟
ادركت ان صوفيا – رغم حديثنا الحر الطويل و مناقشة الافكار فيما نحب و ما
نكره و المستقبل و اصدقائنا المقربين – لم تذكر شيئا عن بيتها و اسرتها. لقد
عرفت كل شيء عني – و كانت مستمعة جيدة – و لكني لم اعرف عنها
شيئا! كنت اقدر ان لها الجذور الاجتماعية المعروفة، لكنها لم تتحدث عنها قط، و لم
ادرك الحقيقة حتى هذه اللحظو. سالتني:

– فيم كنت تفكر؟

اجبتها بصدق:

– انت!

– عرفت ذلك.

– قد لا نلتقي قبل عامين، لا اعرف متى اعود الى انكلترا، لكن اول شيء
افعله حين ارجع الى انكلترا هو المجيء لكي اراك و اطلب منك ان تتزوجيني.

تقبلت صوفيا الامر دون ان يطرف لها جفن، و جلست نحنسي القهوة دون ان تنظر
الي، و شعرت بالعصبية قليلا، قلت:

– اسمعي، سافعل كل شيء الا شيئا واحد، لن اطلب منك الزواج الان، ربما ترفضينني
فارحل بعدها يائسا، و ربما اعشق ارماة اخرى قبيحة حتى انتقم لغروري، و حتى لو
وافقت فما عسانا ان نفعل ازاء هذا الامر؟ نتزوج في الحال؟ نعلن خطبتنا ثم نبقى
على تلك الحال زمنا طويلا؟

لا احتمل رؤيتك على هذه الحال، فقد تلتقين رجلا غيري ثن تشعرين بان عليك ان
تكوزني مخلصة لي. احب ان اراك تعودين الى وطنك حرة مستقلة لكي تنظري حولك و
تعرفي عالم ما بعد الحرب الجديد و تقرري ما تريدينه من هذا العالم، فالذي بيني
و بينك يا صوفيا سيبقى خالدا لانني لن اتزوج اي امراة اخرى.

– و انا ايضا..

– هل تعلميبن بم اشعر؟

همست صوفيا:

– لا ينبغي الغزل الان.

– حبيبتي، الا تفهمين؟ لقد حاولت الا اقول بانني احبك..

قاطعتني:

– انني افهم يا تشارلز، و انا احب اسلوبك الغريب، قد تاتي لتراني حين تعود
ان كنت تريد ان..

و قاطعتها:

– لا شك في ذلك.

– الشك يدخل كل القلوب يا تشارلز، قد يظهر احياناامر غير محسوب و لا مقدر
يغير الاحداث كلها. تذكر انك لا تعرف شيئا عني، اليس كذلك؟

– بلى، حتى انني لا اعرف اين بيتكم في انكلترا؟

– انني اعيش في سوينلي دين.

اومات براسي حين ذكرت هذه الضاحية الشهيرة في لندن التي تتباهى بثلاثة ملاعب غولف، و
اضافت بهدوء و صوت مطمئن:

– في بيت صغير مائل..

و ضحكت فجفلت قليلا، ثم اردفت بجملة مقتبسة:

– ((و كانوا جميعا يعيشون في بيت صغير مائل))، هذه حالنا نحن، بيتنا ليس بيتا
صغيرا، لكنه حتما منحرف خشبي موشور الشكل، في سطحه زوايا كثيرة!

– هل انت من عائلة كبيرة؟ اخوتك و اخواتك؟

اخ واحد و اخت واحدة، و ابي و امي و عمي و زوجته و جدي
و زوجته و خالة عجوز.

صحت و انا مرتبك قليلا:

– يا الهي!

ضحكت صوفيا:

– نحن لا نعيش معا، لكن الحرب و الغرات الجوية هي التي اضطرتنا ان نجتمع،
لكنني لا ادري.. – و قطبت حاجبيها تفكر – .. ربما كان ابناء العائلة يعيشون
معا في الروح تحت رقابة جدي و حمائته، انه رجل له شانه. لقد تجاوز الثمانين
من عمره، و هو قصير القامة، لكن شخصيته قوية بدرجة غير عادية.

– يبدو مثيرا للاهتمام.

– انه فعلا كذلك، فهو يوناني من سميرنا، اسمه اريستايد ليونايدز. ثم اضافت و عيناها
تطرفان: و هو غني جدا!

– من يرثه بعد وفاته؟

– جدي سيقرر، و لن يئثر فيه اي اسلوب او يزحزحه، انه داهية! ترى، هل
ستحبه؟

– و هل تحبينه انت؟

– اكثر من اي شخص في الدنيا.

*****
الجزء التانى…

كان ذلك قبل سنتين من عودتي الى بلدي. لم تكن سنين الغربة سهلة، كنت اكتب
صوفيا و اسمع منها كثيرا، و كانت رسائلها مثل رسائلي: رسائل صديقين حميمين لا رسائل
حب، فكانت هي تكثر من ذكر شؤون الحياة اليومية، لكنني كنت اعرف ان مشاعر احدنا
تجاه الاخر كانت تزداد و تقوى.

و رجعت الى انكلترا في يوم هادئ كئيب من ايام ايلول: بدت الاوراق على الاشجار
ذهبية في ضوء المساء، و كانت الريح تعصف.

ارسلت لصوفيا برقية من ارض المطار:

((لقد عدت لتوي.
ارجو ان نتناول العشاء معا هذا المساء في ماريو الساعة التاسعة!
تشارلز)

بعد ذلك بساعتين كنت اجلس اقرا جريدة (التايمز) و اتفحص اعمدة المواليد و الزواج و
الوفيات، فوقعت عيني على اسم ليونايدز:

(في 19 ايلول، في ثري غابلز، سوينلي دين، مات اريستايدليونايدز زوج بريدنا ليونايدز المحب عن
عمر يناهز الثامنة و الثمانين. مع الاسف العميق!)

ثم قرات اعلانا اخر:

(مات اريستايد ليونايدز فجاة في مسكنه ثري غابلز، سوينلي دين! ينعاه اولاده و احفاده المحبون
بعمق الاسى!
ترسل الورود الى كنيسة القديس اليرد في سوينلي دين)

اثار الاعلان استغرابي، فربما ادى خطا من جانب المحررين في الصحيفة الى هذا الازدواج، لكن
شغلي الشاغل كان صوفيا.

ارسلت لها برقية ثانية على عجل:

(لقد قرات لتوي خبر وفاة جدك.. اسف جدا!
متى استطيع رؤيتك؟

تشارلز))

وصلتني برقية من صوفيا في السادسة و انا في بيت ابي:

(ساكون في ماريو في التاسعة ليلا.

صوفيا))

جعلتني فكرة لقاء صوفيا مرة اخرى عصبيا. و كان الوقت يمر بطء يثير الجنون. كنت
انتظرها في الماريو قبل الموعد بثلث ساعة و تاخرت هي عن الموعد خمس دقائق.

ان لقاء شخص مرة اخرى بعد انقطاع طويل مربك الى حد ما و ان يكن
حاضرا في ذهنك طوال تلك الفترة. حين دخلت صوفيا من الباب الدوار كان لقاؤنا متكلفا.
كانت تلبس الاسود بسبب الحداد بلا ريب، و قد فاجاني ان صوفيا من الذين يلبسون
الاسود حقا حدادا على قريب مات!

شربنا عصيرا ثم ذهبنا الى طاولتنا. تحادثنا سريعا بطريقة محمومة، نسال عن الاصدقاء القادمى ايام
كنا في القاهرة. و كان حديثنا مجاملة لكنه طغى على الارتباك الذي ساد بداية اللقاء.

واسيتها بوفاة جدها و قالت صوفيا بهدوء بانها حدثت فجاة كلها.

ثم اطنلقت مرة اخرى للذكريات، وبدات اشعر بالخوف من شيء ما، شيء غير الارتباك الطبيعي
من اللقاء ثانية بعد غيبة طويلة. كان في صوفيا شيء غير طبيعي حتما: هل تخبرني
بانها عرفت رجلا اخر غيري تهتم به اكثر مني و ان احساسها بي كان خداعا؟
ساورني احساس عميق بان الامر لم يكن كذلك، و لكني فشلت في الاهتداء الى احتمال
اخر، و في غضون ذلك اكملنا حديثنا المصطنع!

ثم فجاة عندما وضع الساقي القهوة لنا و تراجع و هو ينحني، بدا الحديث يتغير،
فانا اجلس الان مع صوفيا كما كنا نفعل من قبل كثيرا على طاولة صغيرة في
مطعم، كان سنين الغربة التي عشناها لم تكن ابدا. قلت:

– صوفيا!

– تشارلز!

تنهدت عميقا دلالة على الارتياح و قلت:

– احمد الله ان هذا الامر قد انتهى و ولى. ما الذي اصابنا؟

– ربما كانت غلطتي، كنت حمقاء!

– هل الامر الان طبيعي؟

– اجل.. طبيعي الان.

و ابتسمنا، فقلت:

– حبيبتي، هل نتزوج قريبا؟

انطفات ابتسمتها فاصابني الانقباض ثانية، قالت:

– ربما، لا ادري يا تشارلز ان كنت استطيع الزواج بك؟

– و لم لا يا صوفيا؟ الانك تشعرين بانني غريب؟ اتريدين وقتا لتعتادي علي ثانية؟
هل عرفت رجلا غيري؟

هزت راسها و قالت:

– لا، ليس كذلك.. – و خفضت صوتها – .. بل بسبب موت جدي.

– موت جدك؟ لماذا؟ و ما الفرق؟ انك لا تقصدين حتما ان امتناعك بسبب المال،
اليس كذلك؟ و هل ترك جدك مالا؟ لكن الامر يا عزيزتي..

– انه ليس المال – وابتسمت ابتسامة سريعة – اظن انك سكتون راغبا تماما ان
تاخذني على حالتي الجديدة كما يقول المثل القديم، ثم ان جدي لم يخسر مالا في
حياته.

– اذن فما الامر؟

– اظن – يا تشارلز – ان جدي لم يمت موتا طبيعيا، ربما يكون قد
قتل!

– يا لها من فكرة غريبة! ما الذي يجعلك تظنين ان جدك قتل؟

– انا لم افكر فيها، بل كان الطبيب يشك في الامر. انه لم يوقع شهادة
الوفاة، و سوف يشرح الاطباء الجثة، فلعل في الامر شيئا غير طبيعي.

لم اجادلها، لانها فتاة ذكية جدا، صاحبة اراء صائبة و استنتاجات سليمة، بل قلت لها
جادا:

– قد يكون لشكوكهخم اسبابها، لو ان لها اسبابا فكيف يؤثر هذا علينا نحن الاثنين؟

– قد يؤثر في حال من الاحوال، فانت تعمل في السلك الدبلوماسي. انهم شديدو الاهتمام
بامر الزوجات. لا، ارجوك لا تقل شيئا يتفطر له قلبك! كانك تريد ان تقول: (اريد
ان يكون زواجنا حسنا، لا ينبغي لاحد منا ان يضحي من اجل الحب!)، فما يدريك
يا تشارلز؟ ربما يكون كل شيء طبيعيا..

– ايكون الطبيب قد ارتكب خطا؟

– و ان لم يرتكب خطا فلا يهم ما دام ذلك الشخص قد قتله.

– ماذا تقصدين يا صوفيا؟

– انه امر بغيض لكنني اريد ان اكون صريحة.

و ادركت صوفيا كلماتي قبل ان اقولها، فقالت:

– لا يا تشارلز، لن اقول شيئا اخر. ربما قلت كثيرا من قبل، لكنني اصررت
على المجيء هنا و لقائك هذه الليلة؛ لكي اراك بعيني و افهمك. لن نفعل شيئا
حتى تنجلي هذه المشكلة.

– خبريني عنها على الاقل.

– لا اريبد يا تشارلز، لا اريدك ان ترى الامر من زاويتي، بل اريد ان
تكون نظرتك صوابا و ان ترى الامر بطريقة صحيحة.

– كيف افعل ذلك؟

قالت لي و هي تنظر الي بعينين زرقاوين تبرقان بوهج غريب:

– فلتسمعه من ابيك.

كنت قد اخبرت صوفيا – و نحن في القاهرة – ان ابي يعمل مساعد مفوض
في سكوتلانديارد، و هو ما يزال كذلك. و عندما قالت كلمتها الاخيرة احسست بالاحباط فقلت
مستفسرا:

– اذن فالامر سيء الى هذا الحد؟

– اظن ذلك، هل ترى رجلا يطيل الجلوس الى طاولة قرب الباب وحيدا؟ رجلا وسيما
بليدا كان يعمل من قبل في الجيش؟ لقد كان هو نفسه على رصيف محطة سوينلي
دين هذا المساء ساعة دخلت القطار.

– تقصدين انه تبعك الى هنا؟

– نعم، اظن اننا جميعا تحت الرقابة، لقد المحوا الينا ان من الافضل ان نمكث
جميعا في البيت، و لكنني كنت عقدت العزم على رؤيتك – و برز ذقنها الصغير
و هي تتكلم مشاكسة – لقد خرجت من شباك الحمام ة انزلقت على انبوب المياه!

– حبيبتي!

– لكن الشرطة قديرون في عملهم، و هناك طبعا البرقية التي ارسلتها لك. حسنا، لا
تؤاخذني، اننا هنا معا لكن علينا من الان فصاعدا ان نفترق.. و سكتت قليلا ثم
اضافت:

– و لسوء الحظ، فان ايا منا لا يشك بحب صاحبه له يا تشارلز!

– لا شك بتاتا، و لا تقولي: (لسوء الحظ)، لقد بقيت انا و انت على
قيد الحياة اثناء الحرب العالمية، و نجونا من الموت المفاجيء كثيرا، و لا اعلم كيف
يدهم الموت عجوزا فجاة؟.. كم كان عمره؟

– سبعة و ثمانين عاما!

– اجل، قراته في جريدة (تايمز) و لو سالتني لقلت انه مات في الشيخوخة، و
ان اي طبيب يحترم نفسه سوف يرضى بهذه الحقيقة.

– لو كنت تعرف جدي لاسفت على موته!

*****
الجزء الثالث

اهتممت على الدوام بعمل ابي في الشرطة، لكني لم اتهيا للحظة التي اكون فيها مهتما
بشكل مباشر هكذا. و لم اكن بعد قد رايت الرجل العجوز، فعندما وصلت البيت كان
هو في الخارج. بعدما اغتسلت و حلقت ذقني و غيرت ثيابي خرجت من اجل صوفيا،
و حين رجعت اخبرني جلوفر انه كان في مكتبته.

كان يجلس وراء مكتبه عابسا يطالع كثيرا من الاوراق، و حين راني داخلا قفز عن
مقعده مرحبا:

– تشارلز، لم ارك منذ زمن بعيد.

كان لقاؤنا بعد خمس سنين من الحرب لقاء يصيب اي فرنسي بخيبة امل، و الحقيقة
اننا كان بيننا عاطفة اجتماع الشمل؛ فانا و العجوز نحب بعضنا كثيرا و نفهم بعضنا
جيدا. قال العجوز:

– اسف لانني كنت خارجا حين وصلت هنا، انني غارق في العمل حتى اذني، تبا!
لهذه القضية التي بدات ادرسها الان..

اسندت ظهري الى الكرسي و سالته:

– قضية اريستايد ليونايدز؟

عبس العجوز و قطب حاجبيه و نظر الي نظرة تقدير، و قال بلسان هادئ و
قوي:

– تشارلز، كيف عرفت ذلك؟

– بلغتني معلومات.

– ما خطبك يا تشارلز؟ اخبرني.

– اخشى الا يعجبك كلامي! لقد لقيت صوفيا ليونايدزفي القاهرة. احبتها، و سوف اتزوجها. التفينا
هذه الليلة. لقد تعشت معي.

– تعشت معك؟ في لندن؟ و كيف خرجت؟ لقد طلبنا من افراد العائلة الا يغادروا
البيت.

– اجل، لكنها انزلقت على انبوب المياه من شباك الحمام.

ابتسم العجوز ابتسامة سريعة و قال:

– تبدو فتاة داهية!

– لكن شرطتكم قديرون تماما، فقد تبعها شرطي الى مطعم ماريو، و سوف ترى اوصافي
في البيانات التي بين يديك: الطول خمسة اقام و احد عشر انشا، الشعر بني، العينان
عسليتان، بدلة كحلية مقلمة..

نظر العجوز الي نظرة قاسية، و سالني:

– اهذا كلام جاد؟

– اجل، انه كلام جدا يا ابي!

صمتنا برهة قصيرة، ثم سالته:

– و هل تمانع ذلك؟

– لم اكن لامانع ذلك قبل اسبوع. انها اسرة غنية جدا، و الفتاة سوف ترث
المال، و انت فتى بالغ عاقل راشد، و لكن..

– ماذا يا ابي؟

– سيكون الامر طبيعيا لو..

– ماذا؟

– لو كان الذي فعلها هو ذاك الشخص!

للمرة الثانية اسمع العبارة ذاتها في تلك الليلة، و بدات اتشوق لمعرفة التفاصيل و جلاء
الموضوع:

– من هو ذلك الشخص؟

نظر الي نظرة حادة:

– ماذا تعرف عن هذا الامر؟

– لا شيء.

تساءل مندهشا:

– (لا شيء)؟ الم تخبرك الفتاة؟

– لا، قالت بانها تحب ان ارى الامر من وجهة نظري من غيرتاثير منها.

– لماذا؟

– اليس ذلك واضحا؟

– لا يا تشارلز.

و جعل ابي يروح و يجيء و ما زال عايسا. اشعل السيغار و نفث دخانه،
فعرفت ان الوالد العجوز انزعج. ثم فاجاني بسؤال:

– ماذا تعرف عن العائلة؟

– تبا! اعرف ان هناك الرجل العجوز و العديد من ابنائه و احفاده و ازواجهم.
لكني لم استوعب جميع افراد هذه العائلة الكبيرة، ليتك يا ابي توضح الصورة لي!

قال و هو يجلس:

– نعم، هذا جيد. سوف ابدا بالاب الكبير اريستايد ليونايدز، فقد وصل الى انكلترا و
هو في الرابعة و العشرين.

– يوناني من سميرنا؟

– ها انت تعلم هذا!

– اجل، لكن هذا هو كل ما اعرفه.

و انفتح الباب، و دخل جلوفر ليقول ان رئيس المفتشين تافيرنر حضر فقال ابي:

– انه المسؤول عن القصة فلندخله، لقد كان يطلع على ملف العائلة، و هو يعلم
عن افرادها اكثر مما اعلم.

و سالت ابي ان كانت دائرة الشرطة المحلية قد استدعت سكوتلانديارد فقال:

– انها من شاننا، لان سوينلي دين تقع في منطقة لندن الكبرى.
و دخل رئيس المفتشين تافيرنر الى الغرفة فاومات براسي محييا، فلقد كنت اعرفه منذ سنين.
حياني بحرارة و هناني على عودتي سالما. ثم قال ابي:

– انني ابين الصورة لتشارلز، فان انا اخطات فذكرني يا تافيرنر. وصل ليونايدز الى لندن
عام 1844، حيث انشا مطعما صغيرا في سوهو، و كان ناجحا، فانشا مطعما اخر، و
ما زال هكذا حتى صار يمتلك سبعة مطاعم او ثمانية، و كانت كلها رابحة!

تافيرنر: لم يكن ليونايدز يخطئ في اي شيء يفعله.

ابي: كانت فيه حاسة طبيعية، و سرعان ما اصبح وراء معظم مطاعم لندن الكبرى. ثم
عمل في سوق التجهيزات الغذائية، و كان عمله فيها ضخما حقا.

تافيرنر: و كان ليونايدز وراء بعض التجارات الاخرى مثل الثياب البالية و محال الجواهر التقليدية
و غيرها كير!.. و كان رجلا غير امين.

قال تافيرنر الجملة الاخيرة بعد هنيهة من التفكير، فسالته قائلا:

– اكان محتالا؟

– لا، كان فيه عوج و لكن لم يكن محتالا، و هو – و ان
لم يخرج عن القانون – الا انه كان يفكر باي اسلوب للالتفاف عليه. لقد جنى
ارباحا كبيرة بهذه الطريقة، و حتى في الحرب الاخيرة رغم انه كان اثناءها طاعنا في
السن. لم يفعل شيئا غير قانوني، لكنه كان اذا شرع في عمل يلتمس له في
القانون مخرجا ثم يكون قد انتقل الى عمل غيره! ارجو ان تكون قد فهمت ما
اعنيه.

قلت:

– انه لا يبدو شخصية جذابة.

– من الغريب انه كان جذابا قوي الشخصية حتى انك لتشعر بذلك من لمحة واحدة.
و اذا نظرت اليه لم تر ما يثير اعجابك، كان قزما قبيحا لكنه كان ساحر،
فما اكثر النساء اللائي احببنه!
قال ابي: لقد تزوج زواجا يصدم السامع، تزوج ابنة اقطاعي في الريف صاحب اراض لتربية
الثعالب.
رفعت حاجبي من الدهشة و قلت:

– المال!؟

هز العجوز راسه و قال:

– لا، كان زواج حب. لقيتخ الفتاة لتبحث معه شان بعض التجهيز الغذائي في حفل
زفاف صديقة لها فوقعت في حبه. و سخط ابوها عليها لكنها الحت في الزواج منه.
لقد قلت لك بان للرجل سحرا عجيبا جذبها، و يبدو انها كانت قد سئمت من
الرجال التقليديين حولها.

– و هل كان زواجهما سعيدا؟

– كان سعيدا جدا. و رغم ان اصدقاءهما المحترمين لم يخالطوهما فان ذلك لم يكن
يقلقهما، و عاشا من غير اصدقاء. و بنى زوجها بيتا تنكره الطبيعة و العقل في
سوينلي دين، و سكنا هناك و انجبت هي ثمانية اطفال. كان العجوز لينايدز ذكيا حين
اختار سوينلي دين؛ لانها كانت في بداية التحول الى متطقة نموذجية راقية، فلم يكن فيها
– بعد – ملعبا الغولف الثاني و الثالث.

و كان حولهما جماعة من السكان القدامى الذي كانوا يحبون حدائقهم كثيرا، احبوا جارتهم السيدة
ليونايدز، و احبوا رجال المدينة الاغنياء الذين اتوا ليعيشوا جوار السيد ليونايدز.

اعتقد انهم كانوا سعداء تماما حتى ماتت السيدة في عام 1905 بمرض ذات الرئة!

– و هل تركته مع ثمانية اطفال؟

– احدهم مات طفلا و اثنان قتلا في الحرب الاخيرة، و كان هناك ثلاث بنات
احداهن تزوجت و رحلت الى استراليا و ماتت هناك، و الثانية بقيت عانسا ثم صدمتها
سيارة فماتت، و الثالثة ماتت قبل سنة او اثنتين. و ما زال من ابنائه اثنان
على قيد الحياة: روجر، الولد الاكبر، تزوج و لم ينجب اطفالا، و فيليب الذي تزوج
ممثلة شهيرة فانجبت له ثلاثة اطفال: صاحبتك صوفيا، و يوستيس، و جوزفين.

– و هل يعيشون جميعا في.. ما اسم ذلك البيت؟ ثري غابلز؟

– اجل، لقد تدمر بيت روجر ليونايدز من القصف في اوب الحرب. اما فيليب و
بناته فانهم يعيشون هناك من عام 1937. و هناك الخالة العجوز اخت السيدة ليونايدز –
الانسة دي هافيلاند – التي كانت تشمئز من زوج اختها، لكنها عرفت ان من واجبها
بعد موت اختها ان تقبل دعوة السيد ليونايدز لكي تعيش عنده و تربي الاطفال.

قال تافيرنر: انها دائمة الحماس في عملها لكنها لا تغير رايها في احد من الناس،
فهي تعارض ليونايدز و تنقد اسلوبه.

قلت:

– حسنا، يبدو انه بيت مليء تماما! فمن تظنه القاتل؟

هز تافيرنر راسه و قال:

– الوقت ما يزال مبكرا لقول ذلك.

قلت:

– ماذا دهاك يا تافيرنر؟ انا واثق بانك تعلم القاتل، تحدث بحرية فنحن لسنا في
محكمة يا رجل!

تجهم تافيرنر و قال:

– لا، و ربما لا تنعقد المحكمة ابدا.

– هل تقصد انه ربما لا يكون قد قتل؟

– بل قتل بلا شك، تسمم، لكن اثبات الدليل في احوال التسمم هذه يتطلب براعة
شديدة، قدتشير جميع الوجوه الى اتجاه واحد. انها قضية واضحة، جريمة كاملة، لكني في حيرة،
انها جريمة متقنة جدا!

نظرت الى العجوز مستغيثا، فقال بطء:

– انت تعلم يا تشارلز ان الحل الواضح في قضايا القتل يكون غالبا هو الحل
الصحيح. لقد تزوج العجوز ليونايدز مرة ثانية قبل عشر سنين.

– و هو في السابعة و السبعين؟

– اجل، تزوج فتاة في الرابعة و العشرين!

صفرت مندهشا:

– و من هي؟

– فتاة كانت تعمل في مقهى، محتشمة و حسناء، لكنها ضعيفة و مهملة.

– اتكون هي قتلته؟

و خاطبني تافيرنر:

– انني اسالك انت يا سيدي، فالفتاة قد بلغت الرابعة و الثلاثين، و هذه سن
خطرة. و هي فتاة تحب العيش الهاديء، و في البيت شاب غريب يعلم الاطفال، و
هو لم يذهب الى الحرب لمرض اصاب قلبه، و كانت علاقتهما معا علاقة حميمة.

نظرت اليه متاملا، كان ذلك نموذجا قديما و مالوفا: تلك العائلة المتباينة الافراد، و معها
السيدة ليونايدز الثانية التي كانت – حسب كلام ابي – امراة جديرة بالاحترام، و لكن
لا يجدر ان ننسى ان الكثير من الجرائم ارتكبت دوما مستترة بثوب الاحترام.

و سالت تافيرنر:

– و ماذا كان ذلك السم؟ اهو الزرنيخ؟

– لم ياتينا – بعد – تقرير المختبر، لكن الطبيب يظن انه سم الايسيرين.

– هذا مستغرب قليلا، اليس كذلك؟ من السهل حتما كشف المشتري.

– كان دواءيتداوى به… لقد كان قطرة عين.

قال ابي: كان ليونايدز مصابا بالسكري، و كان ياخذ حقنا دورية من الانسولين. كان الانسولين
في قناني صغيرة اغطيتها من المطاط، فيوخز الغطاء بابرة الحقن ثم تسحب الحقنة و فيها
الانسولين.

قلت مستنتجا:

– و لم يكن الذي في الزجاجة الانسولين، بل ايسيرين، اليس كذلك؟

– تماما.

– و من الذي حقنه الابرة؟

زوجته.

لقد فهمت الان ماذا كانت تقصد صوفيا بقولها: (ذلك الشخص). و سالته:

– و كيف كانت العائلة مع السيدة ليونايدز الثانية؟

– لم تكن جيدة، و نادرا ما تبدلوا الحديث مع بعضهم.

كان كل شيء يتضح اكثر فاكثر، لكن كان واضحا ان المفتش تافيرنر لم يكن سعيدا
بذلك. فسالته:

– لا يبدو انك مقتنع تماما بهذه الفرضية؟

– لو انها فعلت ذلك يا تشارلز لكان سهلا عليها ان تستبدل بالقنينة قنينة انسولين
حقيقية بعد ذلك، لا استطيع ان افهم لم لم تفعل ذلك؟

– و هل في البيت كثير من الانسولين؟

– اجل، قنان ملاى و اخرى فارغة، و لو انها فعلته لما استطاع الطبيب كشفه
قط، لان جسم الانسان اذا تسمم بالايسيرين فمات لا يعرف في الاعراض التي تظهر على
الجثة الا قليلا جدا. اما الذي حصل هنا فهو ان الطبيب قد فحص زجاجة الانسولين
فعرف فورا ان الذي فيها لم يكن انسولينا.

قلت متاملا:

– اذن فاما ان تكون السيدة ليونايدز غبية جدا و اما ان تكون ذكية جدا.

– انت تقصد..

– ربما راهنت على استنتاج ستصلون اليه بان احدا لا يمكن ان يكون بالغباء الذي
يبدو لكي يرتكب عملا كهذا. على اية حال، هل هناك مشبوهون اخرون!

– كل من في البيت مشبوهون جميعا، و قد كان فيه مخزون كبير من الانسولين
يكفي اسبوعين، فربما عبثت يد باحدى القوارير و تم وضعها لكي تستعمل في الوقت المقرر.

– و هل يستطيع كل منهم ان يصل اليها؟

– اجل، فلم تكن في خزانة مقفلة، بل كانت تحفظ على رف خزانة الادوية في
الحمام، و كل ساكن في البيت ياتي و يذهب اليه بحرية.

– و ماذا يدفعهم لقتله؟

تنهد ابي و قال:

– يا عزيزي تشارلز، كان اريستايد ليونايدز غنيا جدا، صحيح انه خصص مالا كثيرا لعائلته،
و لكن لعل احدهم اراد المزيد.

– لا يوجد احد يريد ان يكون نصيبه اكبر من الجميع اكثر من تلك الارملة،
هل كان صديقها ذا مال؟

– بل فقيرا مثل فار الكنيسة!

و فجاة لمعت في ذهني بعض الافكار. تذكرت عبارة صوفيا المقتيسة، و تذكرت فجاة ابيات
نشيدنا في الحضانة:

((رجل ملتو مشى مسافة ميل ملتو فوجد قطعة شلن ملتوية عند باب ملتو و قطه
الملتوي امسك بفار ملتو، و عاشوا جميعا معا في بيت صغير ملتو)).

قلت اخاطب تافيرنر:

– كيف وجدت السيدوليونايدز و ما رايك فيها؟

رد بطء:

– انها ليست سهلة، هادئة جدا قلا تعرف ما تفكر فيه لكنها تحب العيش الهاديء،
اقسم انني لعلى حق في هذا. انها تذكرني بقطة، قطة كسولة كبيرة تهرهر، و هذا
لا يعني انني اكره القطط، انها جميلة! – و تنهد – .. اننا نسعى وراء
الدليل.

اجل، كنا جميعا نريد دليلا على ان السيدة ليونايدز قد سممت زوجها. صوفيا كانت تريده،
و تافيرنر رئيس المفتشين، و كذلك انا، و كل شيء سيكون حسنا بعد ذلك.

لكن صوفيا لم تكن متاكدة، و انا لست متاكدا، و رئيس المفتشين مثلنا!

*****
الجزء الرابع

ذهبت في اليوم التالي الى منزل ثري غابلز مع تافيرنر. كان موقفي غريبا و غير
تقليدي ابدا، لكن العجوز لم يكن تقليديا بتاتا.

و كانت لي مكانة، فقد عملت في الشهبة الخاصة في سكوتلانديارد في ايام الحرب الاولى،
و عملي ذاك قد بواني مكانة رسمية الى حد ما، و ان كانت مهمتي الان
مختلفة تماما. و قال ابي:

– اذا اردنا حل هذه القضية فينبغي ان نحصل على معلومات داخلية، يجب ان نحيط
بالناس الذين يعيشون في ذلك البيت، علينا ان نعرفهم من الداخل لا الخارج. انت وحدك
الذي تستطيع فعل ذلك.

لم اكن احب ذلك. القيت عقب لفافة التبغ في المنفضة و انا اقول:

– و هل انا جاسوس للشرطة؟ هل علي ان اجلب معلومات داخلية من صوفيا التي
احبها و تحبني و تثق بي؟

انفعل العجوز كثيرا و قال محتدا:

– ارجوك لا تنظر للامر هكذا. اولا: هل تظن ان فتاتك الشابة قد قتلت جدها؟

– كلا، هذه فكرة سخيفة دون شك.

– حسنا، و نحن لا نظن ذلك ايضا؛ لان صوفيا كانت في الخارج بضع سنين،
و كانت على علاقة ودية معه دائما، و كانت تتقاضى راتبا سخيا منه، و لا
شك ان خطوبتها كانت ستسره. اننا لا نشتبه فيها، لكني اريدك ان تعلم شيئا واحدا:
اذا لم يتم حل هذه القضية فلن تتزوجك الفتاة، انني متاكد مما اقول بسب ما
اخبرتني به، و هذه جريمة لعلها لا تحل ابدا.

ربما نكون – يا تشارلز – متاكدين ان الزوجة و صديقها الشاب تعاونا على هذا
العمل لكن اثباته مسالة اخرى. و ليس بين ايدينا حتى الان قضية بينة نرفعها الى
المدعي العام، و ما لم نحصل على دليل قطعي يدينهما فسيبقى هناك شك بغيض دائم،
هل تفهم؟

– اجل، لقد فهمت.

– لم لا تلجا اليها؟

– هل تقد اسال صوفيا ان كنت..؟

ثم سكت و ما زال العجوز يوميء براسه بقوة:

– نعم نعم. لا اقصد ان تتحيل و تخادعها من غير ان تصارحها. انظر ماذا
تقول.

و هكذا حدث، خرجت في اليوم التالي مع رئيس المفتشين تافيرنر و الرقيب التحري لامب
الى سوينلي دين.

انعطفنا الى طريق ضيقة وراء ملعب الغولف عند واحدة من البوابات، و سرنا بالسيارة على
طول طريق ملتوية غطت الاعشاب جنباتها، و انتهت هذه الطريق الى كومة من الحصى عند
باب البيت.
عجبت لذلك البيت، و احسسن انه مشوه غريب التصميم، و لعلي قد عرفت السبب، فالبيت
كان على هيئة كوخ تضخم بصورة غير هندسية، كانك تنظر اليه من خلال عدسة مكبرة:
عوارضه الخشبية مائلة، و اخشابه مسندة… كان بيتا صغيرا اميل كانه نما كما ينمو الفطر
في الليل!

و لقد عرفت الفكرة. فكرة صاحب مطعم يوناني فيها شيء من الانكليزية، كان يريد ان
يجعله بيت رجل انكليزي مبني بحجم القلعة! ترى، ماذا كان راي السيدة ليونايدز حين راته
اول مرة؟ اظن انها لم تستشر و لم تر مخطط البناء بل الارجح انها كانت
مفاجاة من زوجها الغريب، لكني اظنها عاشت فيه راضية.

و قال المفتش تافيرنر:

– انه يحير الناظر قليلا، اليس كذلك؟ كان العجوز راى في البيت حين بناه شيئا
كبيرا على شكل ثلاثة بيوت منفصلة مع مطابخها، و جهز في الداخل بمثل الفنادق الفخمة.

و جاءت صوفيا من الباب الامامي حاسرة الراس تلبس قميصا اخضر و تنورة من الصوف
الخشن، فوجئت من رؤيتي و صاحت:

– انت؟

– لقد جئت لاتحدث معك يا صوفيا، اين يمكننا ان نذهب؟

اعتقدت في البادية انها سترفض، لكنها التفتت و قالت:

– من هذه الطريق.

– سرنا فوق المرجة، كان المنظر رائعا عبر ملعب الغولف في سوينلي دين، حيث كانت
تبدو في الاتجاه المقابل مجموعة من اشجار الصنوبر فوق احدى التلال، و الريف يمتد وراءها
داكنا.

اخذتني صوفيا الى حديقة صخرية، و جلسنا على مقعد خشبي بسيط غير مريح. قالت:

– حسنا؟

لم يكن صوتها مشجعا. اخبرتها عن دوري كله و استمعت الي باصغاء شديد و كان
وجهها يخبرك بما تفكر فيه، لكنها حين اتممت كلامي تنهدت عميقا و قالت:

– ان اباك رجل ذكي جدا!

– الرجل العجوز له اهدافه، اظن انها فكرة حقيرة، لكن…

قاطعتني قائلة: لا. ليست فكرة حقيرة على الاطلاق، بل هي الشيء الوحيد الذي قد يكون
مفيدا. ان اباك يا تشارلز يعرف يقينا ما يدور في دماغي، يعرفه اكثر مما تعرفه
انت.

و اطبقت كفيها بعنف يائس و قالت بحدة:

– يجب ان اصل الى الحقيقة. يجب ان اعرف!

– هل هذا بسبنا؟ لكن يا عزيزتي…

– ليس بسبنا فحسب يا تشارلز. يجب ان اعرف حتى يطمئن بالي. انني لم اخبرك
يا تشارلز الليلة الماضية، لكن الحقيقة هي…. انني خائفة!

– خائفة؟

– نعم، خائفة، خائفة، خائفة. الشرطة يعتقدون، و والدك يعتقد، و انت تعتقد، الجميع يعتقدون
ان بريندا هي القاتلة.

– الاحتمالات…

– اه! انها مجرد اختمالات. انها ممكنة، لكن حين اقول: (من المحتمل ان بريندا فعلت
ذلك) فانني ادرك تماما ان ذلك ما هو الا امنية اتمناها؛ لانني في الحقيقة لا
اعتقد ذلك.

قلت بطء:

– الا تعتقيدن ذلك؟

– لا ادري، لقد سمعت عن الجريمة من الخارج كما اردت لك ذلك، و الان
سوف اريك اياها من الداخل. انني – بساطة – لا اشعر ان بريندا تفعل شيئا
يوقعهل في الخطر؛ لانها تحرص على نفسها كثيرا.

– و ماذا عن هذا الشاب لورنس براون؟

– لورنس جبان كالارنب، ليست لديه الشجاعة لفعل ذلك؟

– عجيب!

– الناس يفاجئون بعضهم كثيرا، احيانا تظن بانسان شيئا فيكون ظنك خاطئا، ليس دائما، احيانا..

و هزت راسها و قالت:

– بريندا كانت تتصرف دائما تصرفات مناسبة للنساء: تحب الجلوس في البيت و اكل الحلوى
و لبس الثياب الجميلة و المجوهرات، و كانت تقرا الروايات الرخيصة و تذهب الى السينما.

و من الغريب ان جدي كان في السابعة و الثمانين لكنها كانت تحبه، كانت فيه
قوة مؤثرة تجعل المراة تشعر كانها ملكة في قصرها! و لعله اقنع بريندا انها امراة
متميزة، فقد كان ذكيا في معاملة النساء طوال حياته.

و تركت مشكلة بريندا و رجعت الى كلمة قالتها صوفيا ازعجتني. سالتها:

– لماذا قلت انك خائفة؟

ارتعشت صوفيا قليلا و ضغطت على يديها و قالت بصوت خافت:

– لان هذه خقيقة يجب ان تفهمها يا تشارلز. نحن – كما ترى – عائلة
غريبة جدا، و هناك الكثير من القسوة في داخلنا… انواع كثيرة من القسوة.

لعلها رات عدم الفهم باديا على وجهي و لكنها استمرت تتحدث بنشاط:

– سوف احاول ان اوضح ما اعنيه. جدي – مثلا – كان يحدثنا ذات مرة
عن صباه في اليونان، و ذكر عرضا و بدون اي اهتمام انه طعن رجلين بسبب
شجار حدث هناك بصورة طبيعية تماما و نسي هذا الحادث. و لكن بدا غريبا الحديث
عنه هنا في انكلترا بهذه الطريقة العرضية غير المبالية.

اومات براسي موافقا و اكملت صوفيا:

– كان ذلك نوعا من القسوة. ثم كانت جدتي التي اكطاد لا اتذكرها، لكني سمعت
عنها كثيرا. اظن انها كانت قاسية ايضا، و لعل سبب قسوتها افتقارها الى الحنكة.
كل هؤلاء الاجداد صائدي الثعالب و الجنرالات العجائز الذين كان القتل يسري في دمائهم، نفوسهم
مليئة بالغرور و الاعتزاز بالنفس، و لم يكونوا يخافون تحمل المسؤولية في المسائل التي تتعلق
بالحياة و الموت.

– اليس في ذلك بعض المبالغة؟

– بلى، اظن ذلك، و لكنني اخاف هذا النوع كثيرا، انه معتد قاسي الفؤاد. ثم
هناك والدتي. كانت ممثلة. انني احبها، لكنها مغرورة و غير واعية ترى الشيء حسب تاثيره
فيها و لا يهمها تاثيره في الناس. ان هذا مخيف!
و هناك زوجة عمي روجر. اسمها كليمنسي. انها عالمة باحثة تقوم باعداد ابحاث هامة جدا،
و هي قاسية القلب ايضا اذت دم بارد عديمة الاحساس. اما عمي روجر فهو عكسها
تماما: لعله الطف و احب امرىء في العالم، لكن فيه حدة بغيضة، اذا اصابه امر
جعل دمه يغلي ثم لم يعرف ما يفعله! و هناك ابي…

و توقفت طويلا، ثم قالت ببطء:

– ابي يضبط نفسه. لا تعلم فيم يفكر، و لا يظهر اي انفعال على الاطلاق.
ربما يكون ذلك نوعا من الدفاع اللاواعي عن النفس ضد والدتي المنغمسة في العاطفة، لكن
ذلك يضايقني قليلا في بعض الاحيان.

– انت يا طفلتي تثيرين نفسك من غير ضرورة. ان الذي نفهمه في النهاية هو
ان كل شخص ربما كان قادرا على ارتكاب الجريمة.

– اجل، حتى انا.

– ليس انت!

– لا يا تشارلز، لا تستثنني، اعتقد ان بامكاني ان اقتل شخصا.. و لكن ان
حدث ذلك فلابد ان يكون من اجل شيء يستحق.

و ضحكت. لم املك الا اضحك، و ابتسمت صوفيا و قالت:

– ربما كنت حمقاء، و لكن كان يجب علينا اكتشاف الحقيقة حول وفاة جدي، يجب
علينا. ليتها كانت بريندا..!

احسست فجاة بالاسف على بريندا ليونايدز.
*****
الجزء الخامس


اقبلت علينا امراة طويلة تمشي بخفة. كانت تلبس قبعة بالية، و تنورة لا شكل لها،
و كنزة ثقيلة. و قالت صوفيا:

– انها الخالة ايديث.

توقفت المراة مرة او مرتين لتنظر في احواض الزهور، ثم جاءت الينا فنهضت محييا.

– هذا هو تشارلز هيوارد يا خالتي – و التفتت الي – خالتي الانسة دي
هالفيلاند.

كانت ايديث دي هافيلاند امراة في حدود السبعين من عمرها، شعرها رمادي غير مرتب، ذات
نظرات خارقة لاذعة. قالت:

– كيف حالك؟ لقد سمعت عنك و علمت انك عدت من الشرق. كيف حال ابيك؟

اجبتها و قد تفاجات:

– انه بخير!

– اعرفه منذ كان صبيا، و اعرف امه جيدا. انت تشبهها. هل جئت لتساعدنا ام
من اجل امر اخر؟

قلت متضايقا:

– ارجو ان اساعدكم!

– لعل بعض المساعدة تنفعنا. ان المكان يعج بالشرطة الذين يراقبوننا من كل صوب، و
انا لا احب بعضا منهم. لا ينبغي للولد الذي كان في مدرسة محترمة ان يعمل
في الشرطة. لقد رايت ابن مويرا كينول امس يدير اشارة المرور في ماربل ارش… يجعلك
تشعر كانك في دوامة!

و التفتت الى صوفيا و قالت: ان الخادمة تسال عنك يا صوفيا… السمك.

قالت صوفيا: يا الهي! سوف اذهب و اتصل بالهاتف بخصوص ذلك.

اسرعت الى البيت بخفة و تبعتها الانسة دي هافيلاند ببطء، و سرت بجانبها. قالت:

– لا اعرف ماذا كنا سنفعل دون الخادمات؟ كل امرئ لديه خادمة عجوز. انهن يغسلن
و يكوين و يطبخن و ينجزن الاعمال المنزلية… مخلصات. لقد اخترت هذه الخادمة بنفسي من
سنين.

توقفت و اقتلعت نبتة من حوض زهور بقوة:

– نبتة كريهة، انها اللبلاب، اسوا نبتة: تلتف و تنعقد و لا نستطيع اقتلاعها بسهولة،
فهي تمتد في الارض.

و سحقت بعضا من اللبلاب بقدمها ثم نظرت الى البيت قائلة:
ما اسوا هذا العمل يا تشارلز هيوارد! ما هو راي الشرطة؟ اخشى انني تعديت حدودي،
يبدو انه من الغريب الاعتقاد ان اريستايد قد تمسمم و مات! انني لم احبه قط،
لكني لا استطيع الاعتياد على فكرة موته. ان هذا يجعل البيت يبدو فارغا!

و مضيت اصغي الى ايديث دي هافيلاند و هي تروي ذكرياتها في البيت:
– لقد عشت دهرا طويلا هنا، اكثر من اربعين عاما. جئت الى هذا البيت عندما
توفيت اختي. هو طلب مني ذلك.. سبعة اطفال اصغرهم له سنة واحدة فكيف اتركهم للمربية؟
كان زواجهما مستحيلا. كنت اشعر ان مارسيا قد سحرت به: اجنبي قبيح و قزم خسيس!
اعترف انه اطلق يدي في البيت في احضار المربيات و الخادمات و شؤون المدارس.

همست: و هل عشت هنا منذ ذلك الوقت؟

– اجل.. امر عجيب! كنت استطيع ان اغادر البيت عندما كبر الاطفال و تزوجوا. كنت
مهتمة بالحديقة ثم كان هناك فيليب. لو ان رجلا تزوج ممثلة فلا يمكنه ان يتوقع
ان يحيا حياة عائلية. لماذا تنجب الممثلة اطفالا؟ فحالما يلدن اطفالهن يسرعن الى التمثيل في
مسرح ريبرتوري في ايدنبرغ او اي مكا بعيد اخر. لقد احسن فيليب عندما جاء الى
هنا… مع كتبه.

– و ماذا يفعل فيليب ليونايدز؟

– يؤلف الكتب. لا اعرف لماذا، فلا احد يريد ان يقراها، ليس فيها غير اخبار
تاريخية مجردة لم نسمع بها، اليس كذلك؟

– بلى.

– كان عنده مال كثير. يجب على الناس ان يخالفوا نزواتهم و يكسبوا عيشهم.

– اليست هذه الكتب مربحة؟

– قطعا لا. فيليب يستحق ان يكون مرجعا عظيما في عصور معينة، لكنه لم يكن
مضظرا ان يجعل كتبه تدر عليه ارباحا، فقد خصص له اريستايد ما يقارب مئة الف
جنيه! و من اجل ان يجنب اريستايد ابناءه ضرائب الارث بعد موته جعل لكل واحد
منهم نصيبه على حدة: روجر يدير مؤسسة للتجهيز الغذائي، و صوفيا تتلقى دخلا كبيرا جدا،
و اموال الاطفال تحت الوصاية.

– اذن فلا احد يستفيد بشكل خاص من وفاته.

نظرت الي نظرة غريبة.

– نعم، انهم يستفيدون جميعا، ياخذون مزيدا من المال كلهم، و لو انهم طلبوه منه
على اية حال لاعطاهم.

– هل عندك فركة عمن سممه يا انسه دي هافيلاند؟

ردت بطريقة مميزة:

– لا. لقد ازعجني ذلك كثيرا. ليس جميلا ان تفكر ان شخصا كهذا يتجول في
البيت طليقا. اظن ان الشرطة سوف يلصقون التهمة بالمسكينة بريندا.

– اليسوا على صواب في ظنهم هذا؟

– لا ادري. كانت تبدو لي دائما شابة غبية تماما مبتذلة… شابة عادية لا اظنها
يمكن ان تضع له السم. لكن اذا تزوج رجل قريب من الثمانين فتاة في الرابعة
و العشرين فلا شك انها قبلت به من اجل المال. كنا نتوقع – حسب الاحداث
– ان تصبح ارملة غنية في القريب العاجل، لكن اريستايد كان عجوزا قويا بصورة متميزة
و لم يكن مرض السكري يؤثر على صحته، و ربما كان سيعيش عشرين عاما اخرى!
اعتقد انها سئمت الانتظار.

قلت: في تلك الحالة…

قالت الانسة دي هافيلاند بحدة:

– في تلك الحالة يكون الامر طبيعيا. الاقاويل مزعجة طبعا، لكنها – على اية حال
– ليست من العائلة.

– اليس عندك افكار اخرى؟

– و ما هي الافكار الاخرى التي يمكن ان تكون عندي؟

تساءلت؟ كان عندي شك بان هناك الكثير يدور في راسها مما لا اعرفه و فكرت
ان وراء غرورها و كلامها غير المترابط عقلا يعمل بدهاء شديد، و قلت في نفسي:
هل تكون الانسة دي هافيلاند نفسها قد سممت اريستايد ليونايدز؟

لا تبدو الفكرة مستحيلة. و تذكرت كيف سحقت نبات البلاب بقدمها بقسوة تدل على الحقد.

و تذكرت كلمة قالتها صوفيا..((القسوة)). و اختلست نظرة اليها من طرف عيني. انها تعطي سببا
مقنعا، لكن، ما الذي يبدو لايديث دي هافيلاند سببا مقنعا؟

و للاجابة عن ذلك كان ينبغي ان اعرفها اكثر.

*****
الجزء السادس
انفتح الباب و دخلنا الى قاعة رحبة على نحو مدهش فيها طقم من خشب البلوط
الداكن و عليها نحاسيات براقة. و قالت ايديث:

– هذا جناح زوج اختي من البيت، و في الطابق الارضي يعيش فيليب و ماجدا.

دخلنا من جهة اليسار الى غرفة استقبال كبيرة، حيطانها مدهونة بالازرق الفاتح و اثاثها مغطى
بقماش مطرز. و على الحيطان كانت صور و رسومات الممثلين و الراقصين و صوؤ من
المسرحيات معلقة. و كانت فوق رف الموقد صورة لراقصي (الباليه)، و مزهريات كبيرة فيها زهور
الاقحوان و القرنفل. و قالت ايديث ايضا:

– اظنك تريد رؤية فيليب؟

هل كنت حقا اريد لقاءه؟ لا ادري! كنت فقط اريد رؤية صوفيا، و هذا ما
فعلته..

لقد ساهمت حقا في خطة الرجل العجوز، ابي، لكن صوفيا قد انسحبت الان و لا
بد انها في مكان ما تتصل هاتفيا لتطلب السمك.

و لم اعرف كيف ابدا العمل؟ هل اتقرب من فيليب ليونايدز كشاب يريدخطبة ابنته ام
مجرد صديق عابر دخل البيت للزيارة ام كرجل مرتبط بالشرطة؟ لم تعطني الانسة دي هافيلاند
اي وقت لكي افكر في سؤالها، الحقيقة انه لم يكن سؤالا بل كان اصرارا. قالت:

– سنذهب الى المكتبة.

قادتني خارج غرفة الاستقبال عبر ممر طويل، ثم دخلنا من باب اخر. كانت غرفة فسيحة
تملؤها الكتب، و لم تكن الكتب في الخزائنالتي وصلت حد السقف، بل كانت على الكراسي
و الطاولات و حتى على الارض. و مع ذلك لم تكن في حالة فوضى.

كانت الغرفة باردة كان احدا لم يدخلها، و كانت رائحة عفن الكتب العتيقة و شمع
العسل تخرج منها. و بسرعة ادركت ان الغرفة تفتقر الى رائحة التبغ، لم يكن فيليب
مدخنا!

و عندما دخلنا نهض فيليب من وراء طاولته كان رجلا طويلا انيقا في حوالي الخمسين
من عمره.

كان الناس يذكرون كثيرا قبح اريستايد ليونايدز، فتوقعت ان يكون ابنه قبيحا مثله، و لم
اكن مستعدا لرؤية رجل كامل الاوصاف: الانف المستقيم، الخط المتصدع في فكه، الشعر الاشقر الذي
خطه الشيب و المصفف الاى الخلف، و الجبهة الجميلة.

قالت ايديث:

– هذا تسارلز هيوارد يا فيليب.

– ها! كيف حالك؟

لا ادري ان كان فيليب قد سمع بي من قبل؟ فقد صافحني برود و لم
يكن وجهه فضوليا، وقف دون اهتمام. و سالته ايديث:

– اين رجال الشرطة البغيضون؟ هل جاؤوا الى هنا؟

– اظن ان رئيس المفتشين – و نظر في بطاقة على الطاولة – تافيرنر قادم
ليتحدث معي في الحال.

– اين هو الان؟

– لا ادري يا خالتي ايديث، اظن انه بالطابق العلوي.

– مع بريندا؟

– لا اعرف.

عندما تنظر في وجه فيليب ليونايدز لن تصدق ان جريمة وقعت قريبا منه. سالته ايديث:

– اماتزال ماجدا فوق؟

– لا اعلم، في العادة لا تذهب هناك قبل الحادية عشرة.

قالت ايديث:

– هذا الصوت يشبه صوتها.

الصوت الذي كان يشبه صوت السيدة ماجدا كان صوتا عاليا يتحدث بسرعة كبيرة و يقترب
بسرعة. و انفتح الباب من خلفي بقوة و دخلت امراة كانها ثلاث نساء لا واحدة!

كانت تدخن لفافة في ممسك طويل، و تلبس ثوبا فضفاضا طويلا من الساتان قرنفلي اللون
تمسك به بيد واحدة، و كان شعرها الغزير المتموج مسترسلا على ظهرها، وجهها بلا مساحيق
كانه لوحة زيتية، و عيناها زرقاوين جاحظتين، و كانت تتكلم بسرعة و ينطلق لسانها بصوت
جذاب قوي و نظق واضح! قالت:

– حبيبي فيليب، لا استطيع احتمال ذلك، الم تفكر في البلاغات؟ انها لم تظهر في
الصحف بعد و لكنها ستنتشر حتما. و لا اعرف ماذا البس في التحقيق؟ لن البس
ثوبا اسود، ربما ثوبا ارجوانيا. و لم يبقى عندي كوبونات، لقد اضعت عنوان ذاك الرجل
البعيض الذي يبيعها لي! ان الموقف قريب من شارع شيفتسبوري، و لو ذهبت هناك بالسيارة
فان الشرطة سيتبعونني و ربما يسالونني اسئلة سمجة، اليس كذلك؟ ماذا اقول لهم؟ الا نستطيع
ان نترك هذا البيت الكريه الان؟ حرية. حرية! اه! انه عمل غير لطيف. العجوز المسكين!
نحن لم نتركه يوما حين كان حيا. و كان يحبنا رغم كل المشاكل التي حاولت
ان تثيرها تلك المراة في الطابق الاعلى! انني متاكدة اننا لو ذهبنا و تركناه لها
لقطع عنا كل شيء. لو لم تكن امراة مرعبة فظيعة لما وقفت كل العائلة في
وجهها حين دخلت حياته و هو على باب التسعين! فيليب، اظن ان الفرصة الان رائعة
لنؤدي مسرحية ((لايديث تومبسون))، هذه الجريمة ستعطينا الكثير من الدعاية مقدما. لقد قال بيلدين ستين
انه يستطيع ان يجعل هذه المسرحية الشعرية الحزينة عن عمال المناجم ناجحة في اي وقت.
انه دور رائع! اعرف انهم يقولون انني يجب ان اقوم دائما بالادوار الهزلية بسب شكل
انفي، لكنك تعلم يا فيليب ان في مسرحية ((ايديث تومبسون)) كثيرا من المشاهد الكوميدية. لعل
المؤلفة لم تدرك ذلك. الكوميديا تزيد عنصر التشويق. انني اعلم كيف اقوم بهذا الدور مبتذلا
و سخيفا و كاذبا من اوله الى اخره، و من ثم…

و مدت ذراعيها، فسطقت اللفافة من الممسك على طاولة فيليب المصنوعة من الماهوغانيالمصقول و جعلت
تحرقه، فامسكها فيليب بهدوء و القاها في سلة المهملات.

همست ماجدا و قد استسعت عيناها فجاة و تشنج وجهها:
– ثم ياتي الرعب!

بقيت علامات الخوف الشديد بادية على وجهها قليلا، ثم انبسط وجهها و تجعد، و اصبحتمثل
طفلة متحيرة توشك ان تبكي. و فجاة زال كل الانفعالات و سالتني بنبرة رسمية و
قد التفتت الي:

– الا تعتقد ان هذه هي طريقة عرض مسرحية ((ايديث تومبسون))؟

وافقتها. في تلك اللحظة استطعت ان اتذكر بغموض شديد ايديث تومبسون، لكني كنت مهتما ان
ابدا بداية جيدة مع والدة صوفيا. قالت ماجدا:

– ايديث تشبه بريندا، اليس كذلك؟ هل تعرف انني لم افكر بذلك ابدا. غنه مشوق
جدا، هل يجب ان اوضح هذا للمفتش؟

قطب الرجل الجالس وراء المكتب حاجبيه قليلا ثم قال:

– لا حاجة يا ماجدا ان تريه على الاطلاق. يمكنني ان اخبره بكل شيء يريد
معرفته.

ارتفع صوتها: لا اراه؟ بل يجب ان اراه. انك يا حبيبي ضيق الخيال لا تفهم
اهمية التفاصيل. سوف يرغب في معرفة كيف و متى حدث كل شيء بالضبط و سائر
التفاصيل الصغيرة التي رايناها و تعجبنا منها انذاك.

قالت صوفيا و هي تدخل من البياب المفتوح:

– امي، لا نريدك ان تخبري المفتش كثيرا من الاكاذيب.

– صوفيا، حبيبتي!

– اعرف انك قد اعددت كل شيء و انك تهيات لاداء دور جميل جدا، لعلك
حفظته بطريقة خاظئة. خاطئة تماما!

– هراء.. انت لا تعرفين.

– انني اعرف. يجب ان تمثلي هذا الدور على شكل مختلف تماما: تكونين متحفظة قليلة
الكلام، تكبحين جماح لسانك و تحرصين على حماية العائلة.

ظهرت على وجه ماجدا ليونايدز حيرة طفلة ساذجة. قالت:

– حبيبتي، هل تظنين حقا..؟

– اجل، اظن ذلك، احترزي في الكلام، هذه هي الفكرة.

ابتسمت الام بسمة رضى عندما اضافت صوفيا قائلة:

– لقد صنعت لك بعض الشكلاته، انها في غرفة الاستقبال.

– ها! جيد! اكاد اموت جوعا.

وقفت عند الباب و قالت:

– ما اجمل ان يكون لك ابنة!

و لم ادر هل كانت تخاطبني ام تخاطب رف الكتب الذي فوق راسي؟ ثم خرجت
من الغرفة، فقالت اانسة دي هافيلاند تخاطب صوفيا:

– الله اعلم بما ستقول امك للشرطة!

– ستكون على ما يرام.

– قد تقول شيئا!

– لا تقلقي. ستؤدي الدور كما يريد المنتج، و انا المنتج.

و خرجت صوفيا وراء امها ثم التفتت لتقول:

– هاهو رئيس المفتشين جاء يراك يا ابي. لن تمانع ان يبقى تشارلز هنا، اليس
كذلك؟

اظن انني لمحت بعض الحيرة على وجه فيليب ليونايدز، ربما، لكنه همس بصوت غامض:

– اوه بالتاكيد… بالتاكيد.

دخل رئيس المفتشين تافيرنر و قد بدا الحزم على ملامحه، اما سلوكه فكانه كان يقول[IMG]file:///C:/Documents%20and%20Settings/Admin/My%20Documents/My%20eBooks/1/2/3/4/peerdagher/اغاثا%20كرستي/رواية%20البيت%20المائل%20للمبدعة%20الكبيرة%20اغاثا%20كريستي%20-%20ملتقى%20النخبه%20الثقافي_files/رواية%20البيت%20المائل%20للمبدعة%20الكبيرة%20اغاثا%20كريستي%20-%20ملتقى%20النخبه%20الثقافي_files/frown.gif[/IMG](سنتحمل
بعض المكاره ثم نخرج من البيت و لا نعود ابدا، و لن يكون احد اكثر
سرورا مني بذلك.. اؤكد لك اننا لم نات لنتسكع)).

لا ادري كيف فهمنا ما فعله من كلمة واحدة سوى انه سحب كرسيا الى الطاولة.
و جلست غير متطفل بعيدا قليلا. قال فيليب:

– نعم حضرة المفتش؟

قالت الانسة دي هافيلاند فجاة:

– هل تريدني يا حضرة المفتش؟

– ليس الان يا انسة دي هافيلاند، ربما، من بعد، اتحدث معك قليلا.

– بالطبع، ساكون في الطابق العلوي.

و خرجت دي هافيلاند و اغلقت الباب وراءها. و قال فيليب مرة ثانية:

– حسنا يا حضرة المفتش؟

– اعلم انك رجل اعمال منشغل جدا و لا اريد ان اعوقك كثيرا، لكن شكوكنا
ربما تصير من بعد مؤكدة. ان اباك لم يمت ميتة طبيعية، بل مات من جرعة
زائدة من مادة سامة: ((فايسوستجماين)) و هي معروفة عادة ((الايسيرين)). هل يوحي لك هذا شيئا؟

– و ماذا يوحي؟ ان رايي ان ابي لابد قد اخذ السم دون قصد.

– هل تعتقد ذلك حقيقة سيد ليونايدز؟

– نعم، هذا يبدو لي ممكنا تماما؛ لانه كان قريبا من التسعين و بصره ضعيف!

– لذلك فرغ محتويات زجاجة قطرة العين في زجاجة الانسولين. هل يبدو هذا اقتراحا معقولا
يا سيد ليونايدز؟

لم يجبه فيليب حتى ان وجهه اصبح خاليا من التعبير. و ا:مل التافيرنر:

– لقد وجدنا زجاجةو القطرة فارغة في سلة المهملات و ليس عليها بصمات، و هذا
شيء غريب بحد ذاته، ففي الاحوال الطبيعية كان يجب ان يكون هناك بصمات اصابع، قد
تكون بصمات ابيك او بريندا او الخادم…!

رفع فيليب بصره:

– الخادم؟ ماذا عن جونسون؟

– هل ترى ان جونسون هو المجرم؟ ان لديه فرصة بالتاكيد. لكن عندما نصل الى
الدافع يكون الامر مختلفا. كان من عادة ابيك ان يدفع لجونسون مكافاة كل عام، و
في كل سنة كانت المكافاة تزيد؛ لان جونسون يعلم ان تلك المكافات هي بدل من
نصيبه في الوصية. و الان بعد سبع سنين، بلغت المكافاة من الخدمة مبلغا كبيرا ياخذه
كل عام و ما زالت تزيد. و من مصلحة جونسون ان يعيش ابوك طويلا، كما
انهما كانا متحابين كثيرا، و سجل جونسون من خدمته السابقة لا يرقى اليه الاتهام. انه
خادم ماهر جدا و مخلص! اننا لا نشل فيه.

– فهمت.

– و الان يا سيدي، هل تعطيني وصفا مفصلا لتحركاتك في اليوم الذي حدثت فيه
وفاة والدك.

– اجل يا حضرة المفتش: كنت هنا في هذه الغرفة طوال اليوم باستثناء اوقات وجبات
الطعام.

– الم تر والدك على الاطلاق؟

– قلت له: ((صباح الخير)) بعد الافطار، و هي عادتي.

– هل كنتما وحدكما عندئذ؟

– كانت… كانت زجة ابي في الغرفة.

– و هل كان طبيعيا كالعادة؟

اجاب فيليب بسخرية مبطنة:

– لم يظهر عليه انه سيقتل ذلك اليوم.

– هل جناح ابيك منفصل تماما عن هذا الجناح؟

– اجل، لا مدخل اليه الا من باب القاعة.

– و باب القاعة هل يظل مغلقا؟

– لا. لم اعلم انه يغلق.

– هل يستطيع اي واحد ان ينتقل بحرية بين دلك الجناح و هذا؟

– اجل. لقد كان مفصولا من اجل راحة اهل المنزل.

– كيف بلغك اول مرة نبا موت ابيك؟

– اخي روجر هو الذي يسكن الجناح الغربي من الطابق الذي فوقنا جاء هرولة ليخبرني
ان ابي قد انتابته نوبة مفاجئة، و قال انه يتنفس بصعوبة و انه يبدو مريضا
جدا…

– فماذا فعلت؟

– اتصلت بالطبيب، حيث بدا لي ان احدا لم يفكر في استدعائه. و كان الطبيب
خارجا فتركت له بلاغا لكي ياتي من فوره ثم صعدت الى الطابق الاعلى..

– و بعدها؟

– ابي كان في حال خطيرة. لقد مات قبل ان يصل الطبيب!

لم يكن في صوته اي انفعال، كان بيانا بسيطا عن الحقيقة!

– اين كان بقية افراد العائلة؟

– زوجتي كانت في لندن و عادت بعد موته بوقت قصير، و اظن ان صوفيا
كانت غائبة هي الاخرى. اما يوستيس و جوزيفين فقد كانا في البيت.

– ارجو ان لا تخطئ فهمي يا سيد ليونايدز لو انني سالتك: كيف يؤثر بالضبط
موت ابيك في وضعك المالي؟

– اقدر تماما انك تريد الحقيقة. لقد جعلنا مستقلين ماديا منذ سنين عدة. فقد جعل
اخي رئيسا و مساهما في شركة لتجهيز الاغذية، و هي اكبر شركة له، و وضع
ادارتها تحت يده.
و لقد خصص لي ما اعتبره مبلغا مساويا: مئة و خمسين الف جنيه على شكل
سندات مالي مختلفة، و كان بامكاني ان استثمر راس المال كيف اشاء. كما خصص نصيبا
كبيرا ايضا لشقيقتي اللتين توفيتا بعد ذلك.

– و رغم ذلك ظل رجلا غنيا جدا؟

ابتسم فيليب لاول مرة ابتسامة باهتة و قال:

– لا، فقد احتفظ لنفسه بدخل متواضع نسبيا لكنه بدا بمشاريع جديدة فصار اغنى من
ذي قبل!

– لقد جئت انت و اخوك للعيش هنا. هل كان ذلك بسبب صعوبات مالية؟

– كلا بالتاكيد، بل من اجل الراحة. كان ابي يرحب بنا دائما لنعيش عنده، و
لاسباب مختلفة كنت ارغب هذا. كنت احب ابي كثيرا. جئت هنا مع اسرتي عام 1937.
لا ادفع اجرة لكني ادفع نسبة من الضريبة.

– و اخوك؟

– اخي جاء هنا هاربا من الغارة الجوية التي دمرت بيته عام 1943 في لندن.

– و الان يا سيد ليونايدز، هل لديك اية فكرة عن محتويات وصية والدك؟

– فكرة واضحة جدا. لقد اعاد ابي كتابة وصيته عام 1946. لم يكن والدي كتوما
و كان يهتم بافراد العائلة، فعقد احتماعا خاصا للاسرة حضره محاميه الذي شرح لنا بنود
الوصية، و اظنم انك اطلعت عليها فلاشك ان السيد جيتسكيل قد ابلغك بها.
لقد اوصى بمئة الف جنيه خالية من الضرائب لزوجته ناهيك عن ((هبة الزواج)) السخية التي
حصلت عليها. ثم جعل املاكه ثلاث حصص: واحدة لي، و الثانية لاخي، و الثالثة تحت
الوصاية لاحفاده الثلاثة. ان البيت كبير لكن ضريبة الارث ستكون كبيرة.

– و هل اوصى بشيء للخدم او المؤسسات الخيرية؟

– لا. ان الرواتب التي تدفع للخدم كانت تزاد سنويا ما داموا في الخدمة.

– هل انت – و عذرا لسؤالي هذا يا سيد ليونايدز – في حاجة ماسة
للمال؟

– ضريبة الدخل – كما تعرف يا حضرة المفتش – كبيرة، لكن دخلي يكفي حاجتي
و حاجة زوجتي ايضا. اضف اليه ان والدي كان دائم العطايا، و اذا طرات لنا
حاجة كان يسدها فورا! تاكد ان ليس عندي اي ضيق مالي يدفعني الى الرغبة في
موت ابي يا حضرة المفتش.

– انا اسف جدا يا سيد ليونايدز لا اعني هذا لكن علينا ان نحصل على
جميل الحقائق. اخشى انه يجب ان اسالك بعض الاسئلة الحرجة… هل كان والدك و زوجته
سعيدين معا؟

– حسب ظني كانا سعيدين تماما.

– الم تحدث بينهما مشاجرات او خلافات؟

– لا اظن ذلك.

– الم يكن بينهما فرق كبير في السن؟

– بلى.

– اسمح لي: هل وافقت على زواج ابيك الثاني؟

– لم يطلب موافقتي على ذلك.

– هذا ليس جوابا يا سيدي.

– مادمت تصر فانني اقول ان زواجه كان عملا غير حكيم.

– و هل تنازعت معه من اجل ذلك؟

– عندما سمعت به كان الزواج تم و انقضى الامر!

– هل صدمك الخبر؟

لم يجبه فيليب.

– هل غضبت من زواجه؟

– كان والدي حرا يفعل ما يشاء.

– كيف كانت علاقتك مع السيدة ليونايدز؟

– عادية.

– هل انت على علاقة ودية معها؟

– اننا لا نكاد نلتقي.

غير تافيرنر موضوعه:

– هلا اخبرتني بشيء عن السيد لورنس براون؟

– اخشى انني لا استطيع! والدي هو الذي وظفه.

– لكنه كان يعلم اطفالك انت يا سيد ليونايدز.

– صحيح. كان ابني مصابا بشلل الاطفال اصابة بسيطة و قد نصح الاطباء الا نرسله
الى مدرسة حكومية، فاشار ابي ان نعيت له معلما يعلمه هو و ابنتي الصغيرة جوزيفين،
و كان الخيار في ذلك الوقت محدودا؛لان المعلم كان يجب الا يكون مطلوبا للخدمة العسكرية
انذاك. كانت اوراق هذا الشاب مرضية، و كان ابي و خالتي التي تعتني بالاطفال راضيين
عنه فاذعنت لهما، و انا لم اجد عيبا في طريقة تعليمه، فقد كان مخلصا و
يفي بالمطلوب.
– كان يسكن في جناح ابيك و ليس هنا، اليس كذلك؟

– في الطابق العلوي غرف كثيرة.

– ارجو الا يسوؤك هذا السؤال: هل لاحظت ما يدل على علاقة غرام بين لورانس
براون و زوجة ابيك؟

– لم تتهيا لي فرصة حتى الاحظ شيئا مثل هذا.

– الم تسمع كلاما او ثرثرة في هذا الامر؟

– انا لا اصغي الى الثرثرة يا حضرة المفتش.

– هذا جدير بالاكبار! اذن فانت لم تسمع سوءا و لم تر سوءا و لا
تريد ان تنطق بسوء، اليس كذلك؟

– ان كنت تريد ان تفهمها كطذلك، فلك ما تريد يا حضرة المفتش.

نهض تافيرنر و قال:

– حسنا، شكرا لك يا سيد ليونايدز.

و تبعته دون فضول خارج الغرفة فسمعته يقول:

– انه رجل فاتر.

*****
الجزء السابع
قال تافيرنر:

– و الان سنذهب لنتحدث مع السيدة فيليب. اسمها الفني هو ((ماجدا ويست)).

– و هل تفيدنا؟ اعرف اسمها، و لقد رايتها في مسرحيات عدة لكن لا اذكر
متى و اين؟

– انها واحدة من فؤقة ((الاعمال الناجحة))، مثلت دور البطولة مرة او مرتين في غربي
انكلترا، و قد نجحت و اشتهرت في المسارح الثقافية الرفيعة و اندية الاحد. اظن انها
لم تكن تعتمد على المسرح في كسب الرزق. كانت تستطيع ان تختار المسرحية التي تعجبها
و تذهب حيث تشاء، و من وقت لاخر كانت تدفع المال من اجل عرض فيه
دور احبته، و لم تكن ترضى باي دور. النتيجة انها تراجعت قليلا الى مرتبة الهواة
اكثر من كونها ممثلة محترفة! انها ممثلة جيدة لا سيما في الكوميديا لكن المخرجين لا
يحونها كثيرا، يزعمون انها لا تلتزم بالقيود و تثير المتاعب و المشاجرات و تستمتع باثارة
المنزعات بين الناس. لا اعرف مدى صحة هذا، لكنها غير محبوبة من قبل زملائها الفنانين.

خرجت صوفيا من غرفة الاستقبال و قالت:

– والدتي هنا يا حضرة المفتش.

تبعت تافيرنر الى غرفة الاستقبال الكبيرة. في البداية لم استط معرفة المراة التي جلست على
الاريكة المطرزة. كان شعرها يرتفع عاليا فوق راسها بتسريحة من العهد الادواردي، و كانت تلبس
معطفا اخضر انيقا و تنورة و قميصا بنفسجيا باهت اللون مثبتا عند الرقبة بدبوس صغير
من الحجر الكريم.

ادركت لاول مرة سحر انفها المائل الذي ذكرني باثين سيلر، و لم اصدق ان هذه
المراة كانت هي ذات المراة العنيفة في الثوب المخملي الفضفاض! قالت:

– المفتش تافيرنر؟ هلا دخلت و جلست؟… هل تدخن؟ هذا عمل فظيع جدا! انني اشعر
الان بالنفور من التدخين!

كان صوتها خافتا و خاليا من العاطفة، صوت امرئ عازم على ضبط النفس مهما يكن
الثمن، و قالت:

– ارجو ان تخبرني: هل استطيع مساعدتك بشيء؟

– شكرا لك سيد ليونايدز: اين كنت يوم الماساة؟

– كنت قادمة في سيارتي من لندن حيث تناولت الغداء في ذلك اليوم في مطعم
ايفي مع صديقة لي، ثم ذهبنا لنشاهد عرض ازياء و شربنا القهوة مع بعض الاصدقاء
في بيركلي، و بعد ذلك انطلقت راجعة الى البيت و حين وصلت رايت كي شيء
مضطربا…

و ارتعش صوتها قليلا و هي تقول: وجدت حماي قد اصابته نوبة فجاة… كان ميتا!

– اكنت تحبين حماك؟

رفعت صوتها:

– كنت احب…

ارتفع صوت ماجدا، و في تلك اللحظة مدت صوفيا يدها بهدوء فعدلت لوحة معلقة فوق
الموقد، و في الحال انخفض صوت ماجدا:

– كنت احبه كثيرا. كنا جميعا كذلك.لقد كان طيبا جدا معنا!

– هل كانت علاقتك جيدة مع السيدة ليونايدز؟

– لم نكن نرى بريندا كثيرا.

– و لم كان ذلك؟

– لم تكن بيننا اشياء كثيرة مشتركة. مسكينة بريندا! لا بد ان حياتها كانت صعبة
في بعض الاحيان.

مرة اخرى عبثت صوفيا باللوحة فوق الموقد.

– حقا؟ و كيف؟

هزت ماجدا راسها و ابتسمت بسمة حزينة قصيرة:

– اه! لا ادري.

– هل كانت السيدة بريندا سعيدة مع زوجها؟

– اظن ذلك.

– لام تحدث بينهما مشاجرات؟

مرة اخرى هزت راسها و هي تبتسم ابتسامة لطيفة:

– الحق انني لا اعرف يا حضرة المفتش، فجناحهما من البيت منفصل عنا تماما.

– الم تكن هي على صداقة حميمة مع السيد لورنس براون؟

عبست ماجدا ليونايدز، فتحت عينيها تنظران الى تافيرنر نظرة توبيخ، و قالت بوقار:

– ما كان ينبغي لك ان تسالني اسئلة كهذه. كانت بريندا محبوبة عندنا جميعا، كانت
امراة لطيفة جدا!

– هل انت راضية عن السيد براون؟

– انه رجل هادئ لطيف، لكنك لا تحس بوجوده. انا لم اره كثيرا!

– اانت راضية عن تدريسه؟

– اظن ذلك، لا اعرف. و لكن كان فيليب يبدو راضيا.

جرب تافيرنر اسلوب الصدمة:

– اسف لسؤالي هذا: هل كان هناك برايك اي علاقة حب بين السيد براون و
السيدة ليونايدز؟

نهضت ماجدا مثل سيدة من النبلاء و قالت:

– لم ارى اي دليل على شيء من هذا، و احسب – يا حضرة المفتش
– انه ليس من حقك ان تسالني مثل هذا السؤال، فبريندا كانت زوجة حمي.

استحسنت جوابها هذا. اما تافيرنر فقد وقف قائلا:

– هل استطيع ان اسال الخدم هذا السؤال؟

لم تجبه ماجدا، فتابع: شكرا لك يا سيدة ليونايدز.

و خرج المفتش، فقالت صوفيا لامها بحرارة:

– لقد اديت ذلك بشكل جميل يا حبيبتي.

فتلت ماجدا خصلة من الشعر وراء اذنها اليمنى و نظرت وجهها في المراة. قالت:

– نعم… نعم. اعتقد انني اديت عملي بالطريقة الصحيحة.

نظرت صوفيا الي و سالت:

– اما كان يجب ان تخرج وراء المفتش؟

– اسمعيب يا صوفيا، ما الذي ينبغي لي…؟

سكت لساني. لم استطع سؤالها صراحة امام امها عن دوري الذي يجب ان اقوم به؛
لان ماجدا لم تبد – حتى الان – اقل اهتمام بي. لعلي كنت في نظرها
صحفيا او مستشارا عند ابنتها! ربما اكون صحفيا او عينا للشرطة او حتى ناحوتيا، اذ
كل هذه الاشياء عند ماجدا واحدة؛ فالشرطي و الصحفي و الحانوتي كلهم عندها ((جمهور))! قالت
ماجدا و هي تنظر الى قدميها بسخط:

– هذا الحذاء تافه!

استجبت لحركة متعجرفة من صوفيا و اسرعت خارجا وراء تافيرنر. لحقت به في الصالة الخارجية
و هو يلج الباب الى الدرج، قال:

– ساصعد لارى الاخ الاكبر.

اوضحت له مشكلتي دون ضجة مستفسرا:

– ارجوك اسمعني يا تافيرنر! ماذا يفترض ان اكون؟

اندهش:

– ماذا يفترض ان تكون؟

– اجل، ماذا افعل هنا، في هذا البيت؟ ان سالني احد فماذا اقول؟

فكر المفتش لحظة و قال:

– ها! فهمت… – و ابتسم –.. و هل سالك احد شيئا؟

– لا.

– اذن فلم لا تترك الامر هكذا؟ لا تشرح ابدا. هذا اسلوب جيد، لا سيما
في بيت مضطرب كهذا البيت: كل منهم شغلته مشاكله الخاصة و مخاوفه فلا احسبه يفكر
في امرك. سوف يرضون بوجودك ما دمت تبدو واثقا من نفسك. ان قول اي شيء
خطا عظيم ما دمت لا توجد ضرورة لذلك. و الان هيا الى الدرج، لا شيء
مغلقا هنا. انت تفهم طبعا ان هذه الاسئلة التي اسالها كلها هراء. ان الاسئلة عمن
كان في البيت و من لم يكن غير هامة، او: اين كانوا جميعا في ذلك
اليوم؟

– اذن فلماذا..؟؟

– لانها فرصة لانظر اليهم جميعا فاكون انطباعاتي و اسمع ما يريدون قوله، ربما يعطيني
احدهم – بالمصادفة المخصة – مؤشرا مفيدا..

و صمت قليلا ثم همس: اقسم ان ماجدا ليونايدز يمكنها ان تكشف اشياء كثيرة لو
ارادت ذلك.

– و هل تعتمد على كلامها هذا؟

– لا، لن يعتمد عليه، لكن لعله يرشدنا الى وجهة ما في التحقيق! كل احد
في هذا البيت الملعون له وسائله و فرصته. ما اسعى اليه هو الدافع.

عند راس الدرج كان ثمة باب يسد الممر الايمن و كان عليه مطرقة نحاسية. طرق
المفتش البا كما ينبغي ففتحه رجل بدت في وجهه علامات الدهشة و المفاجاة. لا بد
انه كان يقف وراء الباب!

كان رجلا عملاقا لك كتفان قويان و شعر اسود جعد ووجهه قبيح الى ابعد حد
غير انه وجه لطيف.

نظر الينا ثم رد بصره بسرعة بتلك الطريقة المتحيرة ينظر بها الرجل الصادق الحيي، و
قال:

– تفضلا. نعم. ارجوكما! كنت انوي الخروج لكن هذا لا يهم. تفضلا الى غرفة الجلوس.
سانادي كليمنسي… ها! انت هنا يا حبيبتي؟ انه رئيس المفتشين تافيرنر… هل عندنا تبغ؟ ارجوك
انتظر لحظة.

اصطدم بسور و قال مرتبكا:

– ارجو المعذرة!

ثم خرج من الغرفة كالنحلة الطنانة التي تترك وراءها صمتا!

كانت زوجته واقفة بجانب الشباك. اسرتني شخصيتها الجذابة و شدت انتباهي الغرفة التي كنا نقف
فيها. كانت الحيطان مصبوغة باللون الابيض. الابيض الحقيقي، غير العاجي و لا المائل الى الصفرة،
و لم يكن عليها من الصور سوى واحدة فوق رف الموقد كانت عملا هندسيا غير
تقليدي: مثلثات رمادية داكنة و سفينة زرقاء!

كانت السيدة روجر تختلف عن السيدة فيليب تماما. ماجدا ليونايدز قد تكون في دور ست
نساء مختلفات، لكن كليمنسي ليونايدز – هو ما كنت متكادا منه – لا يمكن ان
تكون ابدا واحدة اخرى غير ذاتها: كليمنسي ليونايدز. كانت امراة ذات شخصية حادة واضحة.

اظن انها في الخمسين. شعرها رمادي قصير لكنه يزيد راسها الصغير الجميل جمالا! ووجهها رقيق
يدل على الذكاء، و عيناها رماديتان تدلان على قوة غريبة حادة. و كانت تلبس ثوبا
خمريا من الصوف يناسب قوامها النحيف تماما.

و شعرت فورا انها امراة مذعورة؛ لان مستوى المعيشة الذي تعيشه لم يكن ذلك الذي
تعيشه امراة عادية، و فهمت لماذا استخدمت صوفيا تعبير القسوة حين وصفتها. ارتعشت قليلا بسبب
برودة الغرفة، و قالت كليمنسي بصوت هادء و لسان مهذب:

– اجلس من فضلك يا حضرة المفتس! هل عندك اخبار جديدة؟

– كان موته بسب الايسيرين يا سيدة ليونايدز.

قالت متاملة:

– اذن فهذا يجعل الامر جريمة قتل! الا يمكن ان تكون حادثا من اي نوع؟

– لا يا سيدتي.

– ارجو ان تكون لطيفا مع زوجي يا حضرة المفتش، فهذا الامر يؤثر فيه كثيرا.
لقد كان يحب اباه كثيرا و هو مرهف الاحساس عاطفي الى ابعد الحدود.

– هل كنتما على علاقة حسنة مع حماك يا سيدة ليونايدز؟

– نعم، علاقة حسنة تماما. ثم اضافت بهدوء: و لكني لم اكن احبه كثيرا.

– لماذا؟

– لا تعجبني اهدافه في الحياة و لا اسلوبه في تحقيقها.

– و السيدة بريندا؟

– بريندا؟ لم اكن اراها كثيرا.

– هل تظنين ان من الممكن وجود علاقة بينها و بين السيد لورانس براون؟

تقصد علاقة حب؟ لا، لكني لم اكن اعلم شيئا من ذلك.

بدا من صوتها انها غير مهتمة.

رجع زوجها روجر مسرعا بنفس حركته الطنانة المزعجة و قال:

– لقد تاخرت… مكالمة هاتفية. حسنا يا حضرة المفتش، ماذا هناك؟ حسنا، هل لديك اخبار؟
ما الذي سبب وفاة والدي؟

– كانت الوفاة بسبب التسمم بالايسيرين.

– حقا؟ يا الهي! اذن لابد انها تلك المراة! لم تستطع الانتظار! لقد اخرجها من
حياة الفقر، اهكذا جزاؤه؟ قتلته بدم بارد! يا الهي! ان دمي يغلي عندما افكر بهذا.

– هل لديك سبب محدد يجعلك تعتقد ذلك؟

كان روجر يراوح جيئة و ذهابا و هو يشد شعره بيديه:

– سبب؟ لم؟ من يمكنه ان يفعل ذلك غيرها؟ لم اكن اثق بها يوما. لم
احبها البتة.لا احد منا يحبها. لقد فزعت انا و فيليب حين دخل علينا والدي يوما
من الايام و اخبرنا انه تزوج! في مثل عمره؟ ذاك جنون… جنون! كان ابي رجلا
مدهشا يعجبك يا حضرة المفتش. كان عقله مدبرا كانه في سن الاربعين. ان كل شيء
املكه هو من خيره و فضله. لقد فعل كل شيء من اجلي. لم يخذلني يوما
بل انا الذي خذلته! اني كلما ذكرت ذلك…!

و القى بنفسه على الكرسي بقوة، و جاءت اليه زوجته:

– كفى يا روجر! لا تجهد نفسك!

امسك بيدها و قال:

– اعرف يا عزيزتي. اعرف، و لكن كيف اقعد هادئا؟ كيف اتمالك نفسي؟

– يجب ان نبقى جميعا هادئين. ان السيد المفتش يريد
مساعدتنا.

– هذا صحيح يا سيدة ليونايدز.

صاح روجر:

– هل تعلم ما اود ان افعل؟ لو انني احنق تلك المراة بيدي كلتيهما! لقد
ضنت على ذلك العجوز بضع سنين من الحياة! يا ليتني امسك بها!… – وقف روجر
و هو يرتعش من الغيظ، و مد يديه المرتعشتين – اجل، كنت سالوي عنقها… الوي
عنقها.

زجرته كليمنسي:

– روجر!

نظر اليها خجلا:

– اسف يا عزيزتي.

ثم التفت الينا قائلا: اسف فعلا، لقد غلبتني مشاعري. انني… اعذروني.

و خرج من الغرفة ثانية، و قالت زوجته في ابتسامة باهتة:

– الحقيقة انه لا يستطيع ان يؤذي ذبابة!

قبل تافيرنر كلمتها بادب ثم شرع في اسئلته الروتينية.

– اين كنتما يوم مات السيد ليونايدز؟

– كان روجر في لندن في بوكس هاوس – و هو مركز شركة التجهيز الغذائي
– ثم عاد في وقت مبكر من المساء و امضى بعض الوقت مع ابيه، و
هذه عادته. انا كنت – كالعادة – في معهد لامبرت في شارع غورو حيث مكان
عملي، و رجعت الى البيت قبل السادسة.

– ارايت حماك؟

– لا. كنت قد رايته اخر مرة في اليوم الذي صبق وفاته و شربنا القهوة
معه بعد العشاء.

– الم تريه يوم وفاته؟

– ذهبت – في الحقيقة – الى جناحه من البيت لان روجر حسب ان ترك
غليونه عند والده في غرفة نومه… غليون ثمين جدا، لكنني وجدته على طاولة الصالة هناك
فلم ارغب ان ازعج العجوز. كان غالبا ينام نوما خفيفا في حوالي السادسة.

– متى بلغك نبا مرضه؟

– جاءت بريندا مسرعة. كان ذلك بعد السادسة و النصف بدقيقة او اثنتين.

لم تكن هذه الاسئلة هامة كما علمت، لكني ادركت كيف يحرص المفتش تافيرنر ان يمعن
النظر في المراة التي كانت تجيب عن اسئلته.

سالها بعض الاسئلة عن طبيعة عملها في لندن فقالت انه يتعلق بالتاثير الاشعاعي للتفجير النووي.

– اذن فانت تعملين في حقل القنبلة الذرية، اليس كذلك؟

– عملي لا يمس القدرة التدميرية للقنبلة الذرية، فالمعهد ينفذ تجارب في التاثير العلاجي.

و عندما نهض تافيرنر ابدى رغبته في رؤية جناحهما الخاص من البيت فتفاجات قليلا لكنها
اظهرت له استعدادها الكامل.

ذكرتني غرفة النوم بسريرها المزدوج ذي الاغطية البيضاء بالمستشفى او بصومعة دير من الاديرة! اما
الحمام فكان بسيطا لا ترى فيه اي اداة رفاهية و لا مواد تجميل، و كان
المطبخ خاليا من الاثاث نظيفا و مجهزا تجهيزا جيدا بادوات من النوع العملي. ثم جئنا
الى باب فتحته كليمنسي قائلة:

– هذه غرفة زوجي الخاصة.

قال روجر:

– ادخلوا. تفضلوا.

احسست بالطمانينة… هاهو شيء من البساطة في مكان اخر من هذا البيت الاعوج الذي يثير
في نفسي الكابة.

كان في غرفته الشخصية مكتب كبير تبعثرت عليه الصحف و الغليونات القديمة و رماد التبغ،
و كانت فيه كراسي كبيرة عتيقة. و السجاد العجمي يغطي البلاط، و على الحيطان صور
باهتة لجماعات مدرسية و جماعة ((كالريكيت)) و الفصائل العسكرية، و رسومات بالالوان المائية للصحراء و
المنارات و القوارب المبحرة و البحر و غروب الشمس. كانت غرفته صافية، غرفة رجل محب
حنون و حلو المعشر.

كان روجر يصب لنا الليمون بطريقة غير بارعة من وجاجة و هو يبعد الكتب و
الصحف عن احد الكراسي. قال:

– الغرفة فوضى! كنت افرغ الغرفة و اتخلص من الصحف القديمة… قدم لنا الليمون ثم
تابع كلامه ملتفتا الى تافيرنر:

ارجو ان تسامحني… لقد فقد السيطرة على مشاعري.

و نظر حوله كانه يشعر بالذنب، و لم تكن كليمنسي ليونايدز معنا في الغرفة ثم
تابع.

– انها رائعة، اعني زوجتي. رغم كل الذي جرى فهي رائعة! لا تدري كم انا
معجب بها! فقد عاشت وقتا عصبيا مخيفا قبل ان نتزوج احب ان اخبرك عنه. لقد
كان زوجها الاول رجلا عظيما – اقصد انه ذو عقل عظيم – لكن جسمه كان
ضعيفا من مرض السل، و كان ينجز بحثا قيما في علم البلوريات، و كان راتبه
قليلا مع انه كان متفوقا في عمله. لكنه لم يستسلم، و قد كدحت من اجله
فلم تجعله يعلم ان كان يموت، و لم تشتك بتاتا و لم تتذمر، و كانت
تبدو دائما سعيدة!

ثم مات فحزنت عليه كثيرا، و اخيرا رضيت بالزواج مني، و كنت سعيدا جدا لانني
كنت قادرا ان امنحها السعادة و الراحة. و قد رجوتها ان تترك العمل لكنها عرفت
بالطبع ان العمل في الحرب كان واجبا عليها و ما تزال تشعر انها يجب ان
تستمر في عملها… زوجة رائعة! لقد كنت محظوظا! كنت سافعل كل شيء من اجلها.

اجابه تافيرنر جوابا مناسبا ثم عاد الى اسئلته السابقة من جديد:

متى بلغك ان اباك مريض؟

– اسرعت بريندا تناديني، قالت ان نوبة مرضية ما اصابت ابي، و كنت اجلس مع
العجوز العزيز قبل ذلك بنصف ساعة فقط، و كان في صحة تامة! اسرعت اليه و
كان يلهث و وجهه ازرق. نزلت مسرعا الى فيليب فاتصل بالطبيب. انني… اننا لم نستطع
ان نفعل شيئا! لم اتخيل قطعا و لا لحظة واحدة بان هناك عملا غريبا. غريب؟
هل قلت: غريب؟ يا الهي يبا لها من كلمة استخدمتها.

و ببعض الصعوبة خلصنا انفسنا انا و تافيرنر من الجو العاطفي لغرفة روجر ليونايدز، و
وجدنا انفسنا خارج الباب مرة اخرى عند اول الدرج. قال تافيرنر:

– انه مختلف تماما عن اخيه… اشياء و غرف غريبة، هذا يخبرك كثيرا عمن يعيشون
فيها.

– اجل.

– و غريبون هؤلاء الناس، و زواجهما غريب ايضا اليس كذلك؟

لم اكن اعلم اكان يقصد كليمنسي و روجر ام فيليب و ماجدا؟ كانت كلماته تنطبق
على الزواجين لكن الزواجين كلاهما سعيد، كان زواج كليمنسي و روجر سعيدا حتما. ثم سالني:

– هل يمكن ان يكون مجرما يضع السم؟ هل تقول عنه ذلك؟ لا احسبه رجلا
خشنا. اما زوجته فالاحتمال لديها اكبر. انها من صنف النساء عديمات الرحمة، و ربما كان
بها مس من الجنون!

– لكني اظن انها لن تقتل احدا من الناس لمجرد ان هدفه و اسلوب حياته
غير مرضيين بالنسبة لها. ربما كانت تكره العجوز حقا، و لكن هل ترتكب جريمة بسب
الكراهية الخالصة؟

– قليلا جدا، و انا لم اصادف حالة كهذه. لا. اظن اننا في حال اكثر
امانا لو اشتبهنا في السيدة بريندا، لكن اين الدليل؟

*****
الجزء الثامن

فتحت الخادمة باب الجناح المقابل و اصابها الخوف حين رات تافيرنر و ان كانت مسحة
من الازدراء ظاهرة عليها. قالت:

– لعلك تريد ان ترى السيدة؟

– نعم، من فضلك.

و تقدمتنا الى غرفة الجلوس الكبيرة و خرجت.

كان اثاثها يشبه ذاك الموجود في غرفة الاستقبال في الطابق الارضي: قماش الريتون ملونا بالوان
زاهية، و ستائر حريرية مخططة، و لوحة فوق رف الموقد لفتت انتباهي، ليس من اليد
البارعة التي رسمتها فحسب، بل ايضا بسبب الوجه الاسر لصاحب الصورة.

كانت رسما لرجل ضئيل. عيناه داكنتان خارقتان، على راسه قلنسوة من المخمل الاسود، و قد
التصق راسه بكتفيه. لقد كانت حيوية الرجل و قوته تشع من اللوحة، و بدا ان
العينين اللامعتين اذهلتاني! قال تافيرنر:

– هذا هو. رسمها اوغسطس جون. ان شخصيته قوية، اليس كذلك؟

– بلى.

و فهمت معنى قول ايديث دي هافيلاند اذ قالت ان البيت يبدو يدونه خاليا. ما
اغرب هذا الرجل الصغير املنحني: الذي بنى البيت الصغير المائل، فلما غاب فقد البيت الصغير
المائل معناه! قال تافيرنر:

– و تلك زوجته الاولى هناك. رسمها سارجنت.

امعنت النظر في الصورة المعلقة على الحائط بين الشباكين. كان فيها وحشية ما مثل كثير
من رسوم سارجنت، و قد رسم الوجه بشكل مبالغ فيه فظهر كانه وجه فرس. كانت
رسمة لسيدة انكليزية تقليدية من الريف لا من طبقة النبلاء، انيقة لكنك لا تلمح فيها
معنى الحياة، سيدة لم تكن تبتسم، بل كانت مستبدة قوية!

انفتح البا و دخل الرقيب لامب قائلا:

– لقد عملت اللازم يا سيدي، استجوبت الخدم جميعا و لكني لم احصل على اي
شيء.

تنهد تافيرنر في حين اخرج الرقبيب لامب دفتره من جيبه و رجع بعيدا ثم جلس.
و انفتح الباب مرة اخرى و دخلت زوجة اريستايد ليونايدز الثانية.

كانت تلبس ثوبا اسودا فاخرا ستر بدنها كله. كان وجهها معتدل الجمال، و شعرها بنيا
جميلا مصففا باتقان، و على صدرها عقد لالئ كبيرة، و كان في احدى يديها خاتم
من الزمرد و في الاخرى خاتم كبير من الياقوت.

نظرت الى وجهها المزين فعرفت انها كانت تبكي، و لاحظت انها خائفة. و خاطبها تافثيرنر
بلطف:

– صباح الخير يا سيدة ليونايدز، انني اسف لازعاجك مرة اخرى.

قالت بصوت فاتر:

– يبدو انك مضطر لذلك.

– ان كنت ترغبين في دعوة محاميك يا سيدتي فهذا يوافق النظام تماما، اليس كذلك؟

تسائلت ان كانت قد فهمت مدلول هذه الكلمات؟ من الواضح انها لم تفهم. عبست و
قالت:

– لا احب السيد جيتسكيل و لا اريده.

– يمكنك ان تحضري محاميا خاصا لك يا سيدة ليونايدز.

– هل يجب علي ذلك؟ انا لا احب المحامين، انهم مزعجون.

تبسم تافيرنر و قال:

– الامر اليك، اذن فهل نواصل؟

امسك الرقيب لامب بقلمه و جلست بريندا ليونايدز على الاريكة في مواجهة تافيرنر و سالته:

– هل وجدتم شيئا.

لاحظت ان اصابعها كانت تعبث بعقدة في فستانها باضطراب.

– نقول جازمين بان زوجك قد تسمم بالايسيرين و مات.

– تقصد ان قطرة العين تلك قد قتلته؟

– من المؤكد ان السيد ليونايدز حين حقن بتلك الابرة الاخيرة تسمم؛ لان ما فيها
كان ايسيرينا لا انسولينا.

– لم اكن اعلم ذلك. لا علاقة لي بهذا يا حضرة المفتش! حقيقة لم تكن
لي اي علاقة!

– اذن فلا بد من ان احدا غير الانسولين عمدا و عبا الزجاجة بالقطرة.

– يا له من عمل شرير! هل تظن ان احدا قد فعلها عمدا ام انه
قد اخطا؟ لا ينبغي المزاح هنا، اليس كذلك؟

– لا نظن انها كانت مزاحا يا سيدتي.

– لعله احد الخدم…

لم يرد تافيرنر عليها.

– لا بد… لا ارى شخصا اخر يمكن ان يفعل ذلك.

– هل انت متاكدة؟ فكري يا سيدة ليونايدز، اليس عندك فكرة تفسر ما حدث؟ الم
يكن في البيت مشاعر غير ودية؟ مشاجرات؟ احقاد؟

حدقت اليه بعينين واسعتين جريئين، ثم قالت:

– ليس عندي اية فكرة.

– هل قلت انك كنت في السينما ذلك المساء؟

– نعم، عدت في الساعة السادسة و النصف، وقت ابرة الانسولين. حقنته الابرة بهدوء ثم
اصابته حالة غريبة. ارتعبت. اسرعت الى روجر…

و علا صوتها و جعلت تتكلم كان الهستيريا اصابتها: لقد قلت لك كل هذا انفا،
هل علي ان اعبد كل هذا مرة تلو الاخرى؟

– اسف يا سيدتي! و الان هل استطيع ان اكلم السيد براون؟

– لورانس؟ لماذا؟ انه لا يعرف شيئا في هذا الشان.

– لكني اريد ان اكلمه.

حدقت فيه بارتياب:

– انه يدرس يوستيس اللغة اللاتينية في غرفة الدرس، اتريده ان ياتي هنا؟

– لا، سوف نذهب اليه.

خرج تافيرنر من الغرفة سريعا و تبعته انا و الرقيب. قال الرقيب لامب:

– لقد ارعبتها يا سيدي!

و صعدنا بضع درجات ثم سرنا في ممر و دخلنا غرفة كبيرة تشرف على الحديقة
و فيها طاولة. جلس وراء الطاولة شاب اشقر الشعر وسيم في الثلاثين من عمره، و
فتى اسمر في السادسة عشرة.

دخلنا عليهما فرفعا بصرهما الينا. يوستيس، اخو صوفيا، نظر الي، و نظر لورانس براون الى
رئيس المفتشين نظرة خوف. لم ار في حياتي رجلا مشلولا من الخوف مثله! وقف ثم
جلس مرة اخرى. قال بصوت كانه صرير:

– اوه! صباح الخير يا حضرة المفتش.

كان تافيرنر فظا:

– صباح الخير. هل استطيع التحدث اليك؟

– نعم، بالطبع، يسرني ذلك.

نهض يوستيس و قال بمرح:

– هل امضي انا يا حضرة المفتش؟

قال المعلم:

– سوف… سوف نواصل دروسنا فيما بعد.

خرج يوستيس مختالا و عندما وصل البا وقعت عينيه علي فتبسم ثم اغلق البا وراءه.
قال تافيرنر:

– حسنا يا سيد براون. ان بيان المختبر جازم تماما: الايسيرين هو ما قتل السيد
ليونايدز.

– انني… هل تقصد… ان السيد ليونايدز قد تسمم؟ كنت امل…

قال المفتش بغلظة:

– لقد سمم. شخص ما استبدل بالانسولين قطرة الايسيرين اللعين.

– لا اصدق. لا اصدق!

– من الذي اقدم على فعل ذلك؟

صرخ الشاب:

– لا احد. لا احد بتاتا.

– هل تريد حضور محاميك؟

– ليس لي محام… لا اريد محاميا. لا شيء عندي اخفيه… لا شيء!

– الا تعلم ان اقوالك تدون؟

– انا بريء، اقسم انني لبرئ!

– لم اقل بانك مجرم.

سكت تافيرنر قليلا ثم اضاف قائلا:

– كانت السيدة ليونايدز اصغر من زوجها بستة عقود، اليس كذلك؟

– اظن ذلك… اقصد: نعم، هذا صحيح.

– لا بد انها كانت تضجر من الوحدة احيانا؟

ظل لورانس صامتا و لم يجبه، فقط مرر لسانه على شفتيها الجافتين.

– ان وجود رفيق لها اصغر منها او اكبر قليلا يعيش هنا كان امرا مناسبا،
اليس كذلك؟

– انني… لا، اطلاقا… اقصد: لا ادري!

– يبدو لي انه من الطبيعي ان تنشا بينكما علاقة.

احتج الشاب بعنف:

– كلا، لم يكن، لا شيء من ذلك. اعرف ما تفكر به، و لكنك واهم.
كانت السيدة بريندا كريمة جدا معي و كنت اكن احتراما عظيما لها، لا شيء اكثر
من هذا. اؤكد لك ذلك، انه امر بشع ان تقول هذا! بشع! لم اقتل احدا،
و لم اعبث بالزجاجات! ان مجرد فكرة القتل عندي كابوس رهيب. لو دخلت المحكمة فسوف
يتفهمون ان لدي دوافع دينية تمنعني ان اقترف القتل!
لقد كنت اشتغل في المستشفيات و كنت قبلها اذكي النار في مراجل القطارات و هو
عمل شاق لم اتحمله، لكن الجيش اذن لي بالتعليم. لقد بذلت ما بوسعي من اجل
يوستيس و جوزفين الطفلة الذكية و الصعبة، و كان كل واحد لطيفا معي الى ابعد
حد: السيد ليونايدز و زوجته و الانسة دي هافيلاند! و الان يقع هذا الامر الرهيب
و انت تشك في، في انا… انني قتلته؟

حملق المفتش تافيرنر اليه باهتمام و قال:

– انا لم اقل هذا.

– لكنك تفكر فيه. اعلم انك تفكر فيه، و هم جميعا يفكرون فيه. انهم ينظرون
الي… انني لا استطيع مواصلة حديثي معك! انني متعب و متوتر الاعصاب!

و ناطلق خارجا من الغرفة. التفت تافيرنر الي:

– حسنا؟ ماذا ترى فيه؟

– لقد خاف كثيرا!

– نعم اعرف، لكن هل هو القاتل؟

قال الرقيب لامب:

– اتدري يا سيدي؟ انني اراه جبانا لا يجرؤ على ذلك ابدا.

وافقة رئيس المفتشين:

– انه لن يضرب احد على راسه و لن يطلق رصاصة من مسدس. لكن ما
عساه ان يفعل في هذه الجريمة السهلة؟ يعبث بزجاجتين فحسب، يعين رجلا عجوزا على الخلاص
من هذه الدنيا بطريقة غير مؤلمة نسبيا.

– القتل الرحيم يا سيدي!

– ثم بعد ذلك، ربما بعد زمن، يكون الزواج من امراة ترث مئة الف جنيه
معفاة من الضريبة و لديها مئة الف اخرى و كومة كبيرة من الياقوت و الزمرد
– و تنهد تافيرنر – لكن هذا كله ظنون و تخمين. لقد نجحت في ارهابه،
و لكن هذا لا يثبت اي شيء؛ لانه كان سيخاف حتى لو كان بريئا. و
على اية حال فانا لا اجزم انه فعل ذلك، ارى ان امراة هي التي فعلتها،
و لن لماذا لم ترم قنينة الانسولين بعيدا او تغسلها؟

و التفت الى الرقيب يخاطبه: الا يوجد دليل من الخدم؟

– الخادمة زعمت انهما كانا يحبان بعضهما.

– و ماذا جعلها تزعم هذا؟

– نظراته اليها و هي تصب القهوة له.

– هذا امر لا تستند اليه محكمة، الا توجد احداث واقعية؟

– لم يلحظ احد شيئا من ذلك.

– لو كان بينهما شيء لراه الخدم. اتدري؟ لقد بدات اعتقد ان لا شيئ بينهما!

و نظر تافيرنر الي ثم قال: ارجع اليها و تحدث معها، اريد ان اعرف انطباعك
عنها.

ذهبت و انا شبه كاره رغم انني كنت متشوقا لذلك.

*****

الجزء التاسع

وجدت بريندا ليونايدز تجلس حيث تركناها، و لدى دخولي رفعت بصرها بحدة و سالت:

– اين المفتش تافيرنر؟ هل سيعود؟

– ليس بعد.

– من انت؟

اخيرا سمعت السؤال الذي كنت اتوقعه طوال الصباح، و اجبتها بصراحة:

– انا مرتبط بالشرطة، لكنني صديق للعائلة ايضا.

– العائلة؟ اني اكرههم جمبعا.

نظرت الي و فمها يتحرك و بدت عابسة خائفة و غاضبة.

– كانوا دائما يعاملونني بحقارة، منذ البداية. قالوا: لماذا اتزوج اباهم العزيز؟ و ماذا يهمهم
من ذلك؟ لقد اعطاهم المال، لم تكن لديهم عقول لكي يجمعوا المال بايديهم – و
نظرت الي بجراة – : لماذا لا يتزوج الرجل ثانية حتى لو كان كبيرا؟ انه
لم يكن طاعنا في السن، و قد احببته كثيرا!

– فهمت. فهمت.

– لعلك لا تصدقني، لكنها الحقيقة. لقد سئمت الرجال. كنت ارجو بيتا و عائلة و
رجلا يحنو علي و يقول قولا جميلا. اريستايد كان يؤنسني، و كان مرحا، و ذكيا
و كان يبتدع كل اسلوب حتى يجتنب كل هذه القوانين السخيفة! لقد فجعت بموته.

اسندت ظهرها الى الاريكة و ابتسمت بسمة غريبة تدل على البلادة:

– كنت هنا سعيدة و امنة، كنت اذهب الى الخياطين المهرة الذين كنت اقرا عنهم،
و اريستايد قد اعطاني اشياء جميلة – و مدت يدها و هي تنظر الى ياقوتة
فيها – و كنت طيبة معه في المقابل.

رايت يدها الممدودة كانا مخلب القط، و سمعت صوتها الهادر، قالت و ما زالت تبتسم:

– ما العيب في ذلك؟ لقد كنت لطيفة معه و جعلته سعيدا!

و مالت الى الامام: هل تعلم كيف التقينا؟

و لم تنتظر جوابي:

– كان لقاؤنا في معطم شامروك. طلب بيضا مقليا على خبز توست، و عندما احضرته
له كنت ابكي. قال لي: ((اجلسي، و اخبريني مالي يحزنك)) فقلت له: (( لا استطيع
محادثتك لانهم سيفصلونني من العمل ان فعلت)) فقال: ((لا، لن يفصلك احد فانا صاحب هذا
المكان))! نظرت اليه. فكرت… ان الذي امامي هو عجوز ضئيل الحجم غريب، لكن له شخصية
جذابة!
و قصصت عليه الامر كله! و اظنك ستسمع التفاصيل منهم ليقولوا لك بانني سيئة، لكني
لم اكن كذلك… لقد تربيت تربية حسنة، و كان لنا دكان رائع فيه اشغال و
مطرزات. لم اكن يوما من الفتيات اللاتي يتخذن اصحابا من الشبان، او يبيعن انفسهن، لكن
تيري كان مختلفا… ايرلندي يسافر الى ما وراء البحار، و لم يكن يكاتبني ابدا. كم
كنت حمقاء!
و هكذا كان، وقعت في مشكلة تماما مثل ما يصيب خادمة بائسة!… اريستايد كان رائعا،
وعدني ان اكون امنة، قال انه وحيد و اننا نستطيع ان نتزوج فورا. و كان
ذلك عندي كالحلم!
ثم عرفت انه السيد ليونايدز العظيم الذي يمتلك اعدادا ضخمة من المحلات و المطعام و
الاندية الليلية. كان ذلك مثل القصة الخيالية، اليس كذلك؟

قلت بتحفظ: نوع من القصص الخيالية.

– تزوجنا في كنيسة صغيرة في المدينة، ثم سافرنا للخارج. عاهدت نفسي ان اكون زوجة
صالحة. كنت اطلب له كل اصناف تاطعام التي يشتهيها، و البس له الملابس التي يحبها،
و اسعى دوما الى رضاه! و كان هو سعيدا. لكننا لم ننج من عائلته، كانوا
ياتون اليه فيعطيهم. العجوز دي هافيلاند كان يجب ان ترحل عندما تزوج، و انا قلت
هذا لكن اريستايد قال: ((انها تعيش هنا منذ زمن طويل، البيت الان بيتها)). كان زوجي
يحب ان يكونوا حوله جميعا و رغم انهم كانوا يسيئون الي فلم يكن يلحظ ذلك
او يهتم به. ان روجر يكرهني! هل رايت روجر؟ كان دائما يكرهني. انه غيور. و
فيليب كان متعجرفا جدا و لم يكلمني البتة. و الان يزعمون انني قتلته و انا
لم افعل، لم افعل! ارجوك صدقني! انا لم اقتله!

اثارت شفقتي. كان ازدراؤهم لها و تمنيهم ان تلتصق بها الجريمة يبدو في هذه اللحظة
سلوكا غير انساني حتما. كانت وحدها دون مدافع و لا حول لها و لا قوة.
قالت:

– و ان لم يكن القاتل انا، فهم يطنون انه لورانس.

– و ماذا عن لورانس؟

– انا اسفة كثيرا لاجله!… رجل لطيف لا يستطيع ان يقاتل، ليس جبانا لكنه رقيق
المشاعر! و قد اجتهدت ان اساعده و اجعله يشعر بالسعادة. عليه ان يعلم الاطفال الفظيعين.
يوستس يهزا به كثيرا، و جوزفين. هل رايت جوزفين؟ لو رايتها فستعرف حقيقتها.

– لم ار جوزفين بعد.

– احيانا يكون عقلها غير طفولي. ان لها طرقا حقيرة جدا، و هي تبدو غريبة
الاطوار، انها ترعبني احيانا!

لم اكن اريد الحديث عن جوزفين فرجعت الى موضوع لورانس براون و سالتها:

– من هو و من اين جاء؟

قالت بخجل:

– انه ليس شخصا محددا. انه مثلي تماما. اي حظ هذا الذي يجعلهم يعدوننا؟

– الا ترين انك اصبحت في حالة هستيرية بعض الشيء؟

– لا، لا اعتقد. هم يريدون ان يعلنوا ان الفاعل هو انا او لورانس، و
قد كسبوا ذاك الشرطي الى صفهم فاية فرصة لي اذن؟

– اهدئي… انك تثيرين نفسك كثيرا.

– لم لا يكون الفاعل واحدا منهم؟ او يكون القاتل شخصا من الخارج او خادما
من الخدم؟

– و لكن اين الدافع؟

– اوه! دافع؟ ايدافع لدي او لدى لورانس؟

شعرت بعدم الارتياح و انا اقول:

– اظنهمو يعتقدون انك انت… و… لورانس… تحبان بعضكما، و انكما تريدان الزواج.

نشزت كالسهم:

– هذا قول فظيع! ليس صحيحا! اننا لم نقل كلمة من ذلك لبعضنا. كنت فقط
اشعر بالاسف لاجله و حاولت ان اساعده فحسب، هذا كل ما في الامر. انت تصدقني…
اليس كذلك؟

اكدت لها بانني اصدقها حقا، و اظن انها و لورانس ليسا الا صديقين، لكني كنت
اشك انها كانت تحبه فعلا.

نزلت الى الطابق السفلي لارى صوفيا و في راسي تلك الفكرة. و بينما انا على
وشك دخول غرفة الاستقبال اطلت صوفيا براسها من احد الابواب في الممر و قالت:

– مرحبا! انا اساعد ناني في اعداد الغداء.

كنت سانضم اليها لكنها خرجت الى الممر و اغلقت الباب وراءها و قادتني الى غرفة
الاستقبال و هي تمسك بذراعي، و كانت الغرفو خالية، فقالت:

– هل رايت بريندا؟ ما قولك فيها؟

– بصراحة؟ اني مشفق عليها!

ضحكت صوفيا و قالت:

– فهمت. لقد كسبتك في صفها!

احسست بالانفعال قليلا و قلت: ارى الامر من جانبها و من الواضح انك لا تستطيعين
رؤية ذلك.

– ماذا من جانبها؟

– قولي بامانة يا صوفيا: هل كان احد من العائلة لطيفا معها او يعاملها بعدل
منذ جاءت الى هنا؟

– كلا، لم نكن لطفاء معها، و لماذا نكون كذلك؟

– ان لم يكن من اجل شيء فمن اجل الوازع الاخلاقي.

– انت تتحدث عن الاخلاق يا تشارلز؟ لابد ان بريندا قد احسنت دورها جيدا!

– ماذا اصابك يا صوفيا؟

– هذا هو الصحيح. لقد سمعت بريندا، و الان فلتسمعني: انا ابغض المراة الشابة التي
تخترع قصة حظها العاثر و تتزوج عجوزا ثريا اعتمادا على هذه القصة. لا احب هذا
الصنف من النساء و لا اتظاهر بانني احبها بتاتا. و لو قرات انت الحقائق مجردة
في ورقة مكتوبة لما احببت هذا الصنف ايضا.

– و هل كانت قصة مخترعة؟

– ربما، هذا ما اعتقده انا على الاقل.

– و هل ساءك ان جدك قد انخدع بهذه القصة؟

ضحكت صوفيا و قالت:

– جدي لم يكن مخدوعا، لا احد يستطيع خداع جدي العجوز! كان يريد بريندا. اراد
ان يظهر في دور المنقذ لهذه الخادمة المتوسلة و هو يعلم تماما ما يفعله، و
قد تحقق ذلك على نحو جميل وفق خطة ما. ان الزواج – عند جدي –
قد نجح نجاحا كاملا مثل سائر اعماله الاخرى.

سالتها ساخرا:

– و هل كان توظيف لورانس براون معلما هو نجاحا اخر من نجاحات جدك؟

قطبت صوفيا جبينها:

– لست متاكدة… لعله كذلك. اراد جدي ان يسعد بريندا و يسليها. ربما كان يظن
ان الجواهر و الثياب لم تكن تكف، و لعله قدر ان شابا مثل ليورانس براون
– و هو رجل مروض في الحقيقة – سيقوم بعمل هذه الحيلة: الصداقة الجميلة المفعمة
بالعاطفة المشوبة بالاكتبئاب ستمنع بريندا من عشق رجل غريب، اظن ان جدي قد حقق شيئا
بهذا الفتى، لقد كان عجوزا شيطانا! و لم يستطع التنبؤ ان ذلك سيقتله! – و
صار صوتها عنيفا – و انا في الحقيقة استبعد انها فعلت ذلك، فلو كانت خططت
لقتله او اتفقت مع لورانس لعرف جدي ذلك و كشفه. انت ايضا تستبعده ، اليس
كذلك؟

– نعم، اعترف بذلك.

– انت لا تعرف جدي حقا. لم يكن ليتغاضى عن مسالة قتله.

– بريندا خائفة يا صوفيا، خائفة جدا!

– امن رئيس المفتشين تافيرنر و رجاله العفاريت؟ نعم، هم مرعبون! الا ترى لورانس في
حال هستيرية؟

– امر طبيعي. لقد تصرف امامنا بشكل سخيف. اتساءل ما الذي يعجب هذه المراة فيه؟

– الا تفهم يا تشارلز؟ ان لورانس – في الحقيقة – جذاب!

قلت غير مصدق:

– رجل ضعيف كهذا!

– عجبا للرجال! لماذا تظنون ان رجل الكهف وحده هو الذي يجذب النساء ليس غير؟
– و نظرت صوفيا الي – اني ارى بريندا قد اصطادتك لا شك.

– لا تكوني شخيفة. انها ليست حسناء. و هي حتما ليست…

– ليست مغرية؟ بريندا ليست حسناء و لا هي ذات ذكاء حقيقة، لكنها تتمتع بصفة
واحدة هي: القدرة على توليد المشكلات! و ها هي قد ولدت مشكلة بيني و بينك!

– صوفيا!

انصرفت صوفيا الى الباب:

– انس الامر يا تشارلز. لابد ان اتم اعداد الغداء.

– ساقوم معك لاساعدك.

– لا، ابق هنا. ان وجود رجل في المطبخ سوف يزعج ناني.

و خرجت فناديت:

– صوفيا!

– ماذا؟

– اسالك عن الخدم: لماذا ينقص الطابق الارضي هنا خادمة، و الطابق العلوي فيه خادمة
تلبس المريلة و تفتح لنا الباب؟

– كان عند جدي طاهية و مدبرة منزل و خادمة استقبال و خادم. كان يحب
الخدم و يعطي كثيرا لكي يجلبهم. اما كليمنسي و روجر فعندهما خادمة في النهار فقط
لاعمال التنظيف فهما لا يحبان الخدم، او ان كليمنسي لا تحبهم، و لو لم يكن
روجر ياكل وجبة مشبعة في المدينة كل يوم لمات من الجوع؛ لان كليمنسي لا تعرف
من الطعام الا الخس و الطماطم و الجزر. اما نحن فاحيانا يكون عندنا خدم ثم
تصيب امي احدى نوباتها العصبية فيتركون المنزل! و عندنا خدم يعملون في النهار فترات قصيرة
ثم يذهبون. ناني هي الدائمة عندنا و هي تنسجم مع حالات الطوارئ. و الان قد
عرفت كل شيء.

خرجت صوفيا. و جلست على مقعد مظرز افكر.. في الطابق العلوي رايت جانب بريندا من
المسالة، و هنا – في الطابق الارضي – رايت جانب صوفيا منها فادركت عدالة قول
صوفيا – و هو ما اسميه نظرة اسرة ليونايدز – بانهم يكرهون الغريبة التي دخلت
البيت بوسيلة خسيسة. كانوا على حق تماما كما قالت صوفيا: ((على الورق لا تبدو وجهة
نظر حسنة))…

لكن فيها الجانب الانساني، الجانب الذي رايته انا و لم يروه، فقد كانوا اغنياء يعيشون
في برج عاجي لو يذوقوا غصة المعاناة. بريندا ليونايدز كانت تريد الثروة و الامان، و
زعمت انها – بالمقابل – جعلت زوجها العجوز سعيدا. لقد تعاطفت معها و انا استمع
اليها فهل اتعاطف معها الان كذلك؟

للقضية جوانب و ابعاد مختلفة فايها هو الصحيح؟

كنت قد نمت قليلا جدا في ليلة الامس، و قد استيقظت مبكرا لارافق تافيرنر. و
الان، في هذا الجو الدافيء الذي تعبق فيه رائحة الزهور في غرفة استقبال ماجدا ليونايدز،
استرخى جسدي فوق المقعد الكبير و سقطت جفوني. تبددت افكاري و انا افكر في بريندا
و صوفيا و صورة الرجل العجوز، ثم نمت.

*****


الجزء العاشر
افقت تدريجيا فلم اكن ادرك في البداية انني كنت نائما.

كان شذى الازهار في انفي. رايت نقظة كبيرة بيضاء تطير في الفضاء، ثم بعد بضع
ثوان ادركت انني كنت انظر الى وجه بشر، وجه معلق في الهواء على بعد قدم
او قدمين مني. و بعد ان استعدت ادراكي اصبحت رؤيتي اكثر دقة، و ما زال
الوجه يوحي انه وجه عفريت: وجه مدور فيه حاجبان منتفخان و شعر الى الوراء و
عينان سوداوان صغيرتان كانهما خرزتان، لكنه كان حتما وجه انسان صغير نحيل. كانت تنظر الى
نظرات حادة. قالت:

– مرحبا.

اجبتها و عيناي تطرفان:

– مرحبا!

– انا جوزفين.

كنت قد استنتجت ذلك من قبل. كنت اعلم ان جوزفين اخت صوفيا في الحادية عشرة
او الثانية عشرة من عمرها. كانت طفلة قبيحة مع شبة واضح بجدها، و لعل فيها
عقلا مثل عقله ايضا. قالت جوزفين:

– اانت رجل صوفيا؟

اقررت، فقالت:

– لكنك جئت هنا مع رئيس المفتشين تافيرنر، لماذا جئت معه؟

– انه صديقي.

– حقا؟ انا لا احبه، و لن اقول له شيئا.

– و ما الاشياء التي لن تقوليها له!

– الاشياء التي اعرفها… اعرف اشياء كثيرة، فانا احب كثرة السؤال.

جلست على ذراعي الكرسي و امعنت النظر في وجهي فتضايقت منها، قالت:

– جدي قد قتل، هل عرفت؟

– اجل، عرفت.

– لقد تسمم بالاي… سير… ين – نطقت هذه الكلمة بحذر شديد – الا يثير
ذلك الاهتمام؟

– بلى.

– انا و يوستيس مهتمان كثيرا. اننا نحب القصص البوليسية، و قد تمنيت دائما ان
اكون فتاة تحر، و الان انا اتحرى و اجمع الادلة.

احسست انها كالغول، و عادت الى الموضوع:

– و هل صاحب رئيس المفتشين الذي جاء معه محقق ايضا؟ تدل الروايات انك تقدر
على كشف المحققين الذين يلبسون ثيابهم المدنية من احذيتهم، لكن هذا المحقق يلبس حذاء سويديا
من القماش!

– لقد تغير الامر القديم.

– اجل. فقد جدت اشياء كثيرة الان. سنذهب و نعيش في بيت في لندن عند
الجسر. امي تريد ذلك منذ زمن. ستكون فرحة جدا، و ابي لن يمانع ان نحمل
كتبه ايضا، لم يكن يطيق ذلك من قبل، و كم خسر من المال من اجل
((جيزبيل))!

– جيزبيل؟

– نعم، الم ترها؟

– ها! هل كانت مسرحية؟ لا، لم ارها، كنت مسافرا.

– انها لم تعرض طويلا، و الحقيقة انها عمل فاشل، لا ارى ان امي من
الصنف الذي يناسب دور جيزبيل، اليس كذلك؟

فكرت في ماجدا، لا تناسبها شخصية جيزبيل، لا في الثوب القرنفلي و لا في بدلتها،
لكن لماجدا صورا اخرى لم ارها بعد. و قلت بحذر:

– ربما لا.

– جدي كان يقول دائما انها ستفشل في جيزبيل. قال انه لن يدفع جنيها من
اجل تمويل هذه المسرحيات التاريخية القديمة. تشاءم بها جميعا لكن امي كانت متحمسة للمسرحية. اما
انا فلم احب المسرحية كثيرا، لم تكن مثل القصة التاريخية الاصلية؛ فجيزبيل لم تكن شريرة
بل امراة وطنية و لطيفة جدا، و هذا ما يجعلها تبعث على السام. لا باس
في نهايتها، فقد القوها من الشباك و لكن الكلاب لم تنهشها، اظن ان ذلك مؤسف،
اليس كذلك؟ كنت احب ان ارى الكلاب و هي تاكلها!
امي قالت بان سوق الكلاب الى المسرح شيء مساحيل، و لكني لا افهم لماذا، فانت
تستطيع ان تجعل الكلب يؤدي دورا ما.

ثم قالت جوزفين كلمة مقتبسة:

– ((و قد اكلتها كلها سوى راحتيها))! لم لم تاكل الكلام راحتيها؟

– لا ادري.

لعل الكلاب كانت مروضة؟ ان كلابنا ليست كذلك… تاكل كل شيء!

فكرت جوزفين في هذا اللغز التاريخي بضع لحظات، و قلت لها:

– انني اسف لان المسرحية فشلت!

– نعم. كانت امي كئيبة، فالتعليقات كانت مخيفة، و عندما قراتها انفجرت بالبكاء و كانت
تبكي طوال اليوم، و القت بطبق الافطار على غليدز فنطقت غليدز بكلمة غريبة.

– ارى انك تحبين الدراما يا جوزفين!

– لقد شرح الاطباء جثة جدي ليعلموا سبب موته.

– اانت اسفة على موته؟

– ربما، و لكني لم اكن احبه كثيرا؛ لانه منعني من تعلم رقص الباليه.

– هل كنت تريدين تعلم رقص الباليه؟

– اجل، و كانت امي ترغب ان اتعلمه و والدي لم يكن يمانع، لكن جدي
زعم ان هذا لن ينفعني!

ثم سالتني بطريقة عارضة:

– هل تحب هذا البيت؟

– ربما، لست متاكدا تماما.

– اظنه سوف يباع الا اذا قررت بريندا ان تمكث فيه، و اظن ان العم
روجر و كليمنسي لن يرحلا الان.

سالتها باهتمام كبير:

– اوكانا سيرحلان؟

– نعم، كانا سيرحلان يوم الثلاثاء بالطائرة الى مكان ما، و قد اشترت كليمنسي حقيبة
خفيفة جديدة.

– لم اسمع انهما كانا سيرحلان.

– اجل، فلا احد يعرف و هما لم يخبرا احدا بذلك، و كانا ينويان ان
يتركا رسالة لجدي من ورائهما, لم يكن سفرهما اكيدا… كان ذلك بالاسلوب الذي كانت الزوجات
يفعلنه حين يتركن ازواجهن في الروايات القديمة، لكنه الان فعل سخيف!

– بالطبع. جوزفين، هل تعلمين لماذا كان عمك سيرحل؟

نظرت الي نظرة ماكرة من طرف عينيها:

– اظنني اعلم… ربما من اجل شيء ذي علاقة بمكتب العم روجر في لندن، لعله
اختلس شيئا.

– لماذا تظنين ذلك؟

اقتربت جوزفين مني اكثر و همست في اذني:

– يوم تسمم جدي كان عمي روجر مع جدي في غرفته و اغلق الباب بعد
فترة طويلة. كانا يتحدثان و يتحدثان، و قال عمي روجر بانه لم يعد يصلح للعمل
و انه سيتخلى عن جدي… ليس بسبب المال، لكن بسب احساسه انه غير جدير بالثقة.
لقد كان في حال سيئة.

– جوزفين، الم يقل لك احد ابدا انه ليس جميلا ان تتنصتي وراء الابواب؟

هزت جوفين راسها بقوة:

– لقد قالوا لي طبعا، لكنك اذا اردت ان تكتشف شيئا فعليك ان تتنصت وراء
الباب. انا واثقة ان رئيس المفتشين تافيرنر يفعل مثلي، اليس كذلك؟

فكرت في هذه الكلمة و اردفت جوزفين:

– و على اية حال فان كان تافيرنر لا يفعل ذلك فان الرجل الاخر يفعله،
ذلك الرجل الذي يلبس الحذاء السويدي، كما انهم يفتشون ادراج الناس و يقرؤون رسائلهم جميعا
و يفضحون اسرارهم كلها… انهم اغبياء لا يعرفون كيف يفتشون!

كانت جوزفين تتكلم بتفاخر قليل، و كم كنت احمق لانني لم افهم رايها هذا، و
جعلت الطفلة البغيضة تتكلم من جديد:

– اني و يوستيس نعرف كثيرا من الامور، و انا اعرف اكثر منه و لكني
لن اخبره به. انه يزعم ان النساء لا يستطعن ان يتفوقن في اعمال التحري لكني
اقول بانهن يستطعن. سوف ادون كل شيء في دفتري، ثم، عندما تتحير الشرطة تماما اتقدم
انا اليهم و اقول لهم: ((انا اعلم من فعل ذلك)).

– هل تقرئين قصصا بوليسية مثيرة يا جوزفين؟

– كثيرا جدا.

– و انت تعتقدين انك تعرفين قاتل جدك؟

– نعم، لكن علي ان اكشف بعض الادلة الاخرى – و سكتت قليلا –.. هل
يظن رئيس المفتشين تافيرنر ان بريندا هي التي ارتكبت الجريمة ا، انها هي و لورانس
معا لانهما يحبان بعضهما؟

– يجب الا تقولي اشياء كهذه يا جوزفين!

– لم لا؟ انهما يحبان بعضهما.

– انك لا تعلمين، فلا تحكمي عليها.

– لم لا؟ هما يكاتبان بعضهما برسائل الحب.

– جوزفين، كيف عرفت ذلك؟

– لانني قراتها… رسائل عاطفية. لورانس رجل عاطفي، و كان خائفا من القتال في الحرب.
لقد ذهب الى السراديب ليختبيء، و كان يعمل في ايقاد النار في السفن. حين كانت
القنابل تسقط هنا كان وجهه يشحب فاضحك منه كثيرا عندئذ، انا و يوستيس!

لم اعرف ماذا اقول بعدها، و في تلك اللحظة توقفت سيارة في الساحة، فانطلقت جوزفين
سريعا الى النافذة و الزقت انفها الافطس بزجاج النافذة. سالتها:

– من هذا؟

– انه السيد جيتسكيل، محامي جدي. اظن انه جاء ليناقش الوصية.

و اسرعت الى خارج الغرفة و هي هائجة لكي تكمل اعمال التحري التي تنجزها. و
جاءت ماجدا ليونايدز الى الغرفة، و لشدة دهشتي اقتربت مني و امسكت بيدي. ثم قالت:

– يا عزيزي، اشكر الله انك ما تزال هنا، اني محتاجة الى رجل.

و افلتت يدي و ذهبت الى كرسي له ظهر عال و زحزحته قليلا عن مكانه
و نظرت الى نفسها في الرماة، ثم رفعت علبة مزخرفة على طاولة و وقفت حزينة
تفتحها و تغلقها.

ادخلت صوفيا راسها من الباب و قالت همسا تذكر ماجدا:

– جيتسكيل!

– اعرف.

دخلت صوفيا الغرفة بعد بضع لحظات يلحقها رجل عجوز ضئيل الحجم، و وضعت ماجدا علبتها
المزخرفة و جاءت لمقابلته.

– صباح الخير يا سيدة فيليب. انني ذاهب الى الاعلى، فالظاهر ان هناك سوء فهم
بخصوص الوصية. لقد كتب زوجك الي موحيا ان الوصية عندي، في حين كنت قد فهمت
من السيد ليونايدز نفسه ان الوصية كانت في حوزته، لا اظنكم تعلمون شيئا عنها، اليس
كذلك؟

فتحت ماجدا عينيها بذهول:

– في شان وصية الرجل المسكين؟ لا، قطعا لا. لا تقل لي ان تلك الرماة
الشريرة في الطابق العلوي قد اتلفتها.

هز المحامي اصبعه موبخا:

– و الان يا سيدة فيليب. لا حاجة للظن الشيء، بل هو سؤال عن مكان
الوصية!

– لكنه ارسلها اليك. اجل، ارسلها اليك حتما بعد ان وقعها، هو اخبرنا بذلك!

– اعتقد ان الشرطة قد قلبوا اوراق اريستايد الخاصة. سوف اتناقش مع رئيس المفتشين تافيرنر
في هذا.

و غادر الغرفة، فصرخت ماجدا تخاطب صوفيا:

– لقد مزقتها يا حبيبتي. انا على حق.

– هذا هراء يا امي، انها لم تكن لتفعل شيئا غبيا كهذا.

– انه ليس غبيا على الاطلاق: اذا لم تكن ثمة وصية فسوف ترث كل شيء!

– صه… ها هو جيتسيكل عاد مرة اخرى.

دخل المحامي الغرفة ثانية، و جاء معه رئيس المفتشين يتبعه فيليب. و قال جيتسكيل:

– لقد فهمت من السيدة ليونايدز انه وضع الوصية في المصرف لتكون في مامن هناك.

هز تافيرنر راسه نافيا:

– لقد اتصلت بالمصرف، ليس عندهم اية ورقة تخص السيد ليونايدز ما عدا سندات مالية
معينة.

قال فيليب: انني اتساءل ان كان روجر… او خالتي ايديث… و ربما صوفيا. هل تستطيع
دعوتهم لياتوا الى هنا.

لم يكن روجر ذا فائدة حين دعي الى الاجتماع. قال:

– هذا هراء، هراء بلا شك. والدي قد وقع الوصية و اعلن انه سوف يرسلها
بالبريد الى السيد جيتسكيل في اليوم التالي!

قال السيد جيتسكيل و هو يستند الى الكرسي مغمضا عينيه نصف اغماض:

– ان لم تخني ذاكرتي فقد ارسلت له مسودة وصية في الرابع و العشرين من
تشرين الثاني من العام الماضي صغتها حسب ارشاد السيد ليونايدز نفسه، و قد وافق على
المسودة و اعادها الي، ثم ارسلت اليه بعد ذلك الوصية ليوقعها، و بعد اسبوع ذكرته
بانني لم استلم منه الوصية بعد توقيعها و تصديقها، و سالته ان كان يرغب في
تعديلها، فرد قائلا بانه راض تماما و سوف يرسل الوصية بعد توقيعها الى المصرف الذي
يتعامل معه.

قال روجر متلهفا:

– هذا صحيح تماما. كان ذلك في نهاية شهر تشرين الثاني من العام الماضي. اتذكر
يا فيليب حين جمعنا والدي ذات مساء جميعا و قرا الوصية علينا؟

التفت تافيرنر الى فيليب ليونايدز:

– اتذكره يا سيد فيليب؟

– نعم.

– انسة صوفيا؟

– نعم، اتذكر ذلك تماما.

سال تافيرنر:

– و ما هي بنود تلك الوصية؟

اوشك جيستيكل ان يجيب المفتش بطريقته الدقيقة لكن روجر سبقه قائلا:

– كانت وصية بسيطة تماما، فقد ماتت الكترا و جويس فعادت حصتهما من التسوية لوالدي.
و قتل ويليام ابن جويس في معركة في بورما فذهب المال الذي تركه لابيه. و
قد بقي فيليب و انا و الاطفال الاقرباء وحدنا عنده ليس سوانا. و قد فصل
والدي وصيته: خمسون الف جنيه بلا ضرائب الى الخالة ايديث، و مائة الف بلا ضريبة
الى بريندا، و هذا البيت لبريندا او نشتري لها بيتا مناسبا في لندن حسب رغبتها
هي.
و اما البقية فتقسم ثلاث حصص: واحدة لي، و واحدة لفيليب، و الثالثة تقسم بين
صوفيا و يوستيس و جوزفين، و حصة الاثنين الاخيرين تبقى تحت الوصاية حتى يبلغا السن
القانونية. اظن هذا صحيحا، اليس كذلك يا سيد جيستيكل؟

– بلى، انها بنود الوصية التي صغتها بالضبط.

– لقد قراها الوالد علينا و سالنا ان كان لنا اية ملاحظة على هذه الوصية،
فلم تكن لنا من ملاحظة.

قالت الانسة دي هافيلاند:

– بريندا قدمت ملاحظة.

قالت ماجدا بتلذذ: نعم، قالت بانها لا تطيق احتمال حبيبها العجوز اريستايد و هو يذكر
الموت؛ لان هذا يوقع في نفسها الشعور بالذعر، و هي لا تريد شيئا من ماله
ان هو مات!

و علرقت ايديث دي هافيلاند فورا:

– كان ذلك اعتراضا تقليديا يتناسب مع طبقتها الاجتماعية.

كانت هذه كلمة قاسية و عنيفة من دي هافيلاند، و ادركت فجاة كم تكره ايديث
دي هافيلاند بريندا!

قال المحامي جيستيكل:

– انه توزيع عادل و معقول جدا لاملاكه.

– و ماذا حدث بعد قرباءة الوصية؟

روجر: بعد ان قراها وقعها.

مال تافيرنر الى الامام سائلا:

– كيف وقعها و متى؟

نظر روجر الى زوجته كانما يستنجدها، فتكلمت كليمنسي و قد بدا بقية العائلة راضين:

– تريد ان تعرف ما الذي حدث تماما؟

– ارجوك يا سيدة روجر!

وضع حماي الوصية على درج مكتبه و دعا احدنا – اظنه روجر – ليقرع الجرس
ففعل. حين جاء جونسن ليجيب الجرس طلب حمي منه ان يذهب و يدعو خادمة الاستقبال
جانيت ولمر، و عندما جاء الاثنان وقع الوصية و امرهما ان يشهدا و يوقعا باسميهما
الحقيقين.

قال السيد جيستيكل:

– ذاك هو الصواب، يجب ان يوقع الموصي الوصية في حضور شاهدين يوقعان في الزمان
و المكان نفسه.

– و بعد ذلك؟

– شكرهما حماي و خرجا، و اخذ الوصية و وضعها في مغلف طويل و اعلن
انه سوف يرسلها الى السيد جيستيكل في اليوم التالي.

نظر رئيس المفتشين تافيرنر حوله و قال:

– هل توافقون جميعا على ان هذا سرد دقيق لما حدث؟

و سمعنا همسات موافقة. ثم سال تافيرنر كليمنسي:

– كانت الوصية على المكتب كما قلت. كم كانت المسافة بين اي منكم و ذلك
المكتب؟

– لم تكن المسافة قصيرة جدا. ربما كان يبعد عنه اقربنا اربعة امتار او خمسة.

– اكان السيد ليونايدز يجلس خلف المكتب و هو يقرا الوصية عليكم؟

– نعم.

– و هل نهض من مكانه او ترك الكتب بعد قراءة الوصية و قبل توقيعها؟

– لا.

– هل كان بامكان الخادمين قراءة الوصية حين وقعها كلاهما؟

– لا، فقد وضع حماي ورقة بيضاء على الجزء العلوي من الوثيقة.

فيليب: اجل، فما كتب في الوصية لم يكن يهم الخدم.

و بحركة سريعة اخرج تافيرنر ظرفا طويلا و انحنى ليسلمه للمحامي قائلا:

– انظر الى هذا و اخبرني ما هو؟

اخرج السيد جيستيكل وثيقة مطوية من الظرف. نظر فيها مذهولا و قلبها بين يديه مرة
تلو الاخرى:

– انها مفاجاة لا افهمها بتاتا!… هل لي ان اسالك اين كانت هذه؟

– في الخزانة الحديدية بين اوراق السيد ليونايدز الاخرى.

سال روجر: و لكن ما هذه؟ لم كل هذه الضجة من اجلها؟

– هذه هي الوصية التي اعددتها لوالدك ليوقعها يا روجر، و لكنها ليست موقعة!

– ماذا؟ اظنها مسودة.

– لا. لقد اعاد السيد ليونايدز المسودة لي، ثم صغت الوصية: هذه الوصية – و
نقرها باصبعه – و ارسلتها له كي يوقعها. و وفق شهادتكم فقد وقع الوصية امامكم
اجمعين و شهدها شاهدان، لكن هذه الوصية لم توقع!

صاح فيليب ليونايدز بقوة و جعل فمه يهدر:

– هذا مستحيل!

ساله تافيرنر:

– كيف كان بصر ابيك؟

– كان مصابا بالغلوكوما، و كان يضع نظارة سميكة عند القراءة.

– هل كان يضع هذه النظارة في ذلك المساء؟

– نعم، طبعا، انه لم ينزع نظارته الا بعد ان وقع الوصية، اليس كذلك يا
كليمنسي؟

– هذا صحيح تماما.

– هل انتم متاكدون ان احدا لم يقترب من مكتبه قبل توقيع الوصية؟

قالت ماجدا و هي تغمض عينيها قليلا:

– ترى لو ان احدا يستطيع تصور ذلك مرة اخرى!

قالت صوفيا: لم يقترب احد من المكتب، و جدي جلس وراءه طوال الوقت.

– هل كان المكتب في نفس الموضع الذي هو فيه الان؟ الم يكن قريبا من
الباب او الشباك او اية ستارة؟

– بل حيث هو الان.

– انني اجتهد ان ارى كيف تتغير امكنة الاشياء، فلابد ان شيئا قد تغير مكانه.
لقد كان السيد ليونايدز عازما ان يوقع الوثيقة التي قراها لتوه عليكم.

روجر: الا يمكن ان تكون التواقيع قد محيت؟

– لا يا سيد روجر. لابد ان تترك اثرا على ذلك. لعل هذه ليست الوثيقة
التي ارسلها السيد جيتسيكل الى السيد ليونايدز و التي وقعها في حضوركم.

قال السيد جيتسيكل: كلا، بل ان هذه هي الوثيقة الاصلية. في الورقة شق صغير في
اعلاها الى اليسار على شكل طائرة، لقد لاحظته انذاك.

نظر الحاضرون الى بعضهم البعض بذهول و اكمل جيتسيكل:

– انها ظروف غريبة جدا لم يسبق لها مثيل خلال عملي من قبل!

قال روجر: ان الامر كله غريب! كنا جميعا هناك فكيف يحدث ذلك؟

سعلت الانسة دي هافيلاند سعلة جافة و قالت:

– هذا كلام لا يجدي قط، كيف تقول في شيء قد حدث انه لم يحدث…
و ما هو الموقف الان؟ هذا ما اود معرفته.

اصبح جيتسيكل في الحال محاميا حذرا. قال:

– تجب دراسة الموقف بحرص. ان هذه الوثيقة تبطل قطعا كل الوصايا التي قبلها، و
ثمة عدد كبير من الشهود الذي راوا السيد ليونايدز يوقع بحسن نية ما كان يظنه
يقينا انه هذه الوصية. هذا عجيب! انها مشكلة قانونية صغيرة. لا باس.

نظر تافيرنر الى ساعته:

– اخشى انني اؤخركم عن غدائكم!

ساله فيليب:

– الا تبقى و تاكل الغداء معنا يا حضرة المفتش؟

– شكرا لك يا سيد ليونايدز، و لكني ساقابل الدكتور غراي في سوينلي دين.

التفت فيليب الى المحامي:

– هل تتغدى معنا يا جيتسيكل؟

– شكرا لك يا فيليب.

نهضنا جميعا. تقدمت الى صوفيا و همست:

– هل امكث ام اغادر؟

– ارى انه من الافضل ان تغادر.

و انسللت بهدوء خارج الغرفة على اثر تافيرنر. كانت جوزفين تمشي جيئة و ذهابا قرب
باب اخضر يؤدي الى الساحة الخلفية، و كانت تبدو مسرورة جدا من شيء ما. قالت:

– الشرطة اغبياء!

خرجت صوفيا من غرفة الاستقبال:

– ماذا كنت تفعلين يا جوزفين؟

– كنت اساعد ناني.

– بل كنت وراء الباب تتنصتين.

نظرت جوزفين اليها باشمئزاز ثم انسحبت. و قالت صوفيا:
– هذه الطفلة جزء من المشكلة!

*****
الجزء الحادي عشر

وصلت الى غرفة مساعد المفوض في سكوتلانديارد لاجد تافيرنر ينهي سرده لتفصيلات التحقبيق قائلا:

– و النتيجة انني غادرتهم و لم احصل منهم على اي شيء! لا دوافع، لا
احد مهم كان معسرا، كل ما علمناه ضد بريندا و صديقها الشاب هو انه كان
يرمقها بنظراته عندما كانت تسكب له القهوة.

قلت: لا عليكم يا تافيرنر، يمكنني ان اضيف شيئا افضل من ذلك.

– حقا؟ حسنا يا تشارلز، ماذا عندك؟

جلست اتحدث و قد اسندت ظهري الى المقعد:

– كان روجر و زوجته يخططان للرحيل يوم الثلاثاء القادم، و قد التقى روجر مع
والده لقاء عاصفا في اليوم الذي توفي فيه العجوز. اكتشف العجوز ليونايدز شيئا غير طبيعي،
و كان روجر يعترف انه يستحق اللوم.

احمر وجه تافيرنر:

– من اين حصلت على هذه المعلومات؟ ان كنت حصلت عليها من الخدم…

– ماذا تقصد بقولك؟

– و اني اعترف – وفق القواعد المقررة في القصص البوليسية – بانه – او
بالاصح بانها – قد تفوقت على الشرطة. ثم ان التحري الخاص بي لديه اشياء خاصة
ما يزال يحتفظ بها لنفسه.

فتح تافيرنر فمه ثم سكت مرة اخرى. اراد ان يسال اسئلة كثيرا لكنه ادرك ان
من الصعب ان يبدا. ثم قال:

– روجر! اهو روجر ذلك الرجل؟

كرهت ان افضي بهذا السر، فقد كنت احب روجر ليونايدز. كرهت – و انا اتذكر
غرفته المريحة الجميلة و سحر الرجل الودود – ان ينطلق رجال العدالة علىاثره فيعتقلوه. ربما
تكون اخبار جوزفين كلها غير موثوقة، لكنني – في الحقيقة – لم اكن اظن ذلك.
قال تافيرنر:

– اذن الطفلة اخبرتك ذلك؟ انها تبدو طفلة واعية لما يدور في ذلك البيت!

قال والدي معلقا:

– الاطفال هكذا في العادة.
لو كان هذا الخبر يقينا فسوف يتغير الموقف كله. لو كان روجر كما زعمت جوزفين
اجاثا كريستي البيت المائل D37159Dab31Cb009967F74848F4Fb026(يختلس)) اموال شركة الغذاء، لو كان الرجل العجوز قد كشف امره فيلزم روجر و زوجته
اسكات العجوز ليونايدز و مغادرة انكلترا قبل اكتشاف الحقيقة… ربما يكون روجر قد ارتكب هذه
الجريمة!

تم الاتفاق على اجراء التحقيق في شؤون شركة التجهيز الغذائي فورا دون تاخير. قال والدي:

– لو ان ذلك الرجل غادر لكانت كارثة شاملة. انها مسالة تهم اناسا كثيرا، فهي
تتعلق بملايين الناس.

– لو كانت الشركة في ازمة مالية او ورطة فسوف تتضح الفرضية: الاب يستدعي روجر،
ينهار روجر و يعترف. بريندا ليونايدز كانت خارجا في السينما، فما كان على روجر الا
ان يغادر غرفة ابيه الى الحمام و يفرغ زجاجة الانسولين و يضع فيها محلولا خالصا
من الايسيرين ثم يكون ما كان.

او ان زوجته فعلتها: صعدت الى الجناح الاخر بعد ان عادت الى البيت ذلك اليوم
مدعية انها ذاهبة لتحضر غليون روجر الذي تركه هناك. كان بامكانها ان تصعد هناك لتغير
المحلول قبل ان تعود بريندا الى البيت لتعطيه الحقنة. انها رابطة الجاش و تقدر على
فعل ذلك!

اومات براسي و قلت:

– نعم. كاني اراها هي من فعل الجريمة، فان لديها قدرة عجيبة على ضبط نفسها
و لجم انفعالاتها، و لا اظن ان روجر يخطر بباله السم وسيلة؛ لان حيلة الانسولين
فيها رائحة انثوية!

قال والدي بغلظة:

– كثير من الرجال يستعملون السم في القتل.

تافيرنر: اعرف يا سيدي، اتراني جاهلاص؟ لكني لا اظن روجر من هذا الصنف.

– و هل تذكر بريتشارد يا تافيرنر؟ لقد كان بريتشارد مازجا ماهرا للسم!

– اذن لنفترض انهما كانا مشتركين فيها معا.

قالها تافيرنر و انصرف، و قال والدي:

– ايخطر ببالك يا تشارلز انها تشبه الليدي ماكبث في رواية شكسبير؟

تخيلت المشهد: المراة الجميلة تقف قرب النافذة في غرفة متقشفة، و قلت:

– ليس تماما، فقد كانت الليدي ماكبيث امراة جشعة كثيرا، و كليمنسي ليونايدز غير جشعة.
اظن انها لا تهتم بالمال و لا تحرص ان تحوزه و تملكه.

– لكن الا يهمها نجاة زوجها و سلامته؟

– بلى، و ربما تكون طبعا قاسية القلب.
… هذا ما قالته صوفيا: (( قسوة القلب))!

رفعت بصري لارى الرجل العجوز يراقبني:

– فيم تفكر يا تشارلز؟

و لكني لم اخبره حينئذ.
***
دعيت اليوم التالي فوجدت والدي و تافيرنر معا. كان تافيرنر مسرورا قليلا، و قال والدي:

– ان شركة التجهيز الغذائي على شفير الهاوية.

قال تافيرنر:

– اجل… انها عرضة للانهيار في اية لحظة.

قلت: علمت ان الاسهم نزلت في الليلة الماضية نزولا حادا، لكنها عادت و ارتفعت هذا
الصباح.

قال تافيرنر: يجب ان نتحقق بحذر شديد. لا نريد تحقيقات مباشرة تسبب الذعر او تروع
صاحبنا الذي يريد الفرار، فلدينا مصادر خاصة و الاخبار اكيدة تماما. شركة التجهيز الغذائي على
شفير الهاوية و قد تعجز ان تفي بالتزاماتها. هي تعاني من فساد الادارة منذ عدة
سنين.

– ادارة روجر ليونايدز؟

– نعم، ان سلطته قوية كما تعلم.

– و قد اختلس مالا…؟

– لا، لا نظن انه فعلها. قد يكون روجر قاتلا و لكننا لا نعتقد انه
محتال، و بصراحة لقد كان ابله لا يملك ادنى حد من الحكمة، كان ينطلق حين
يلزمه ان يتوقف، و يتردد و يتراجع حيث يجدر به الانطلاق و التقدم، و كان
يعتمد على رجال و يوكل اليهم اعمالا هم اخر من توكل اليهم مثلها. انه رجل
يثق بالناس الذي لا يستحقون الثقة، و في كل مرة و كل مناسبة يعمل العمل
الخطا!

قال والدي: رايت رجالا من صنفه، لكنهم ليسوا اغبياء في الحقيقة. انهم يخطئون في الحكم
على الرجال فحسب، و يتحمسون في وقت لا ينبغي فيه الحماس.

قال تافيرنر:

– ان رجلا مثل روجر لا يجب ان يسند اليه عمل من الاعمال بتاتا.

– لعله لم يكن ليصبح ذلك لولا انه ابن اريستايد ليونايدز.

– كانت الشركة حين عهد العجوز اليه بها شركة ناجحة، و كان ينبغي ان تصبح
((منجم ذهب)). لكنني اراه جلس مستريحا و ترك الشركة تدير نفسها!

هز ابي راسه و قال:

– لا. لا شركة تدير نفسها بنفسها، في كل شركة قرارات يجب اتخاذها: فصل هذا
و توظيف ذاك، و اسئلة حول سياسة الشركة، اما روجر فيبدو ان اجوبته كانت دائما
خطا!

قال تافيرنر:

– هذا صحيح. انه رجل مخلص: ابقى على الموظفين الفاشلين لانه يميل اليهم او لانهم
كانوا يعملون في الشركة منذ دهر بعيد! ثم كانت له احيانا افكار طائشة غير عملية
و كان يصر على تجربتها رغم نفقاتها الباهظة.

الح والدي قائلا:

– و لكن الا توجد مخالفة جنائية؟

– لا مخالفة جنائية.

سالته: اذن فلم يقترف جريمة القتل؟

– ربما كان احمق لا محتالا، لكن النتيجة واحدة. كان الشيء الذي ينقذ هذه الشركة
من الافلاس مبلغا ضخما يتم تدبيره قبل – فتح دفتره و قرا – … قبل
الاربعاء القادم على ابعد تقدير.

– مبلغ كالذي يرثه حسب وصية والده، اليس كذلك؟

– بالضبط.

– لكنه لم يكن ليستطيع الحصول على ذلك المبلغ نقدا.

– لكنه سيسهل له الحصول على اعتماد او قرض مصرفي.

اوما الرجل العجوز براسه موافقا، قال:

– الم يكن اسهل عليه ان يذهب للعجوز ليونايدز فيطلب منه مالا؟

– لقد فعل لاذلك، هذا ما سمعته الطفلة، فلعل العجوز رفض صراحة ان يدفع خشية
من الخسارة ثانية. لقد ذهب روجر اليه.

اظن ان تافيرنر كان على حق، فقد رفض اريستايد لونايدز دعم مسرحية ماجدا و قال
بانها لن تجني ارباحا في شباك التذاكر. ثم تبين انه على حق. كان ليونايدز رجلا
كريما مع عائلته لكنه لا يضيع المال في مشروعات غير رابحة، كما ان الشركة يساهم
فيها الالاف و ربما مئات الالاف. لقد رفض صراحة، و ليس امام روجر لكي يتجنب
الافلاس الا وفاة والده. نعم، لابد من دافع بالتاكيد.

نظر والدي في ساعته و قال:

– طلبت منه ان يحضر، سيكون هنا الان في اية لحظة.

– روجر؟

– نعم.

همست:

– قالت العنكبوت للذبابة: ((هلا اتيت الى بيتي؟)).

نظر تافيرنر الي مندهشا! قال بقسوة:

– سناخذ منه حذرنا و نحترس.

بدا العمل، و حضر الكاتب. و في الحال قرع جرس المكتب ثم، بعد بضع دقائق،
دخل روجر ليونايدز الغرفة متلهفا مرتبكا، و تعثرت قدمه باحد الكراسي فتذكرت كلبا ضخما ودودا
و في الوقت نفسه قررت جازما انه ليس هو الذي نفذ العمل و بدل زجاجة
الايسيرين بلانسولين، اذن لكان يسكرها او يسكبها او ترجف يده و يفشل في الحيلة بطريقة
او اخرى. لا… لا شك ان كليمنسي هي الفاعل و ان كان روجر متهما بعلمه
هذا العمل.

تدفقت الكلمات من فمه:

– هل اردت رؤيتي؟ هل وجدت شيئا؟ مرحبا يا شارلز. لم ارك. جميل منك ان
تاتي هنا. و لكني ارجوك ان تخبرني يا سير ارثر…

انه رجل لطيف، و لكن كثيرا من القتله كانوا رجالا لطافا، و ذلك ما كان
يؤكده اصدقاؤهم المذهولون بعد جرائمهم. و ابتسمت محييا.

كان ابي رجلا حازما هادئا يحترس في حديثه، فجرت كلماته عفوية: الشهادة.. سوف تدون… لا
اكراه… محام…

ازاح روجر ليونادز كل هذه الاشياء جانبا غير صابر، و رايت ابتسامة المفتش تافيرنر الساخرة
على وجهه فعرفت ما يخطر باله، كان يقول في نفسه: ((انهم واثقون من انفسهم. هؤلاء
الاشخاص لا يخطئون. انهم اذكياء!)).

و جلست في زاوية من الزوايا و اضغيت. قال والدي:

لقد دعوتك هنا يا سيد روجر لا من اجل ان اعطيك معلومات جديدة و لكن
لاطلب منك بعض المعلومات التي كتمتها من قبل.

بدا روجر ليونايدز متحيرا:

– كتمتها؟ لكني اخبرتك بكل شيء، كل شيء دون كتمان!

– لا، لقد جرى بينك و بين الفقيد حديث في مساء يوم مقتله، اليس كذلك؟

– بلى بلى، شربت معه الشاي. لقد اخبرتكم بذلك.

– اجل، اخبرتنا بذلك، لكنك لم تخبرنا ماذا دار بينكما.

– لقد… كان… حديثا ليس غير.

– فيم تحدثتما؟

– في الامور اليومية: البيت، صوفيا…

– فماذا عن شركة التجهيز الغذائي؟ هل ذكرتماها؟

تمنيت ساعتئذ ان تكون جوزفين قد اخترعت القصة كلها، لكن هذا الامل سرعان ما تلاشى،
فقد تغير وجه روجر، تغير في لحظة واحدة الى شيء قريب من الياس، و قال:

– يا الهي!

و جلس على كرسي و غطى وجهه بيديه. ابتسم تافيرنر كالقطة المطمئنة:

– اتعترف يا سيد روجر انك لم تكن صريحا معنا؟

– كيف عرفتم بذلك؟ كنت اظن ان لا احد كان يعلمه. لا افهم كيف علمه
غيري؟

– لدينا وسائلنا الخاصة في معرفة هذه الامور يا سيد ليونايدز.

و سكت سكتة مهيبة ثم قال:

– اظن انك تفهم الان. من الافضل لك ان تخبرنا بالحقيقة.

– نعم، نعم. بالطبع ساخبركم. ماذا تريدون ان تعرفوا؟

– هل صحيح ان شركة التجهيز الغذائي توشك ان تنهار؟

– نعم. لقد فات الاوان فلا استطيع انقاذها الان! ان الانهيار ات لا محالة! ليت
ابي مات دون ان يعرف ذلك! انني اشعر بالعار و الخزي الشديد…

– و هل هناك احتمال لحدوث مقاضاة جنائية؟

انتصب روجر في مكانه متحدا:

– لا. سيكون افلاس لكنه افلاس شريف: سندفع للمساهمين عشرين شلنا لكل جنيه ناهيك عن
موجوداتي الشخصية. ان الخزي الذي اصابني سببه انني خذلت والدي! لقد كات يثق بي و
عهد بهذا العمل الي و هو اكبر اهتماماته. كان العمل المفضل لديه. انه لم يتدخل
يوما و لا سالني عما كنت افعله. كان يثق بي لكنني خذلته!

قال ابي بجفاف:

– هل قلت: ((لا توجد مقاضاة جنائية))؟ اذن فلم خططت انت و زوجتك للسفر دون
اعلان او خبر؟

– و تعرف هذا ايضا؟

– اجل يا سيد ليونايدز.

انحنى روجر الى الامام:

– لم اكن استطيع مواجهته بالحقيقة، خشيت ان يفهم اني اطلب منه مالا كاني استنجد
به ليوقفني على قدمي مرة اخرى. لقد.. لقد كان يحبني كثيرا، و كان سيساعدني، لكني
لم استطع… لم استطع المواصلة. كانت المواصلة تعني ورطة مرة اخرى. اني لا اصلح لهذا
العمل، فليست عندي القدرة عليه. انا لست مثل ابي. كنت اعلم بنفسي منه، لقد حاولت
فلم انفع. كنت تعيسا جدا! يا الهي! انك لا تعرف تعاستي التي ذقتها و انا
احاول الخروج من المشكلة و ارجو رضاه و امل الا اضطر للبوح بالامر للرجل العجوز!
و لكن لم يبق اي امل في تجنب الكارثة.
زوجتي كلمينسي، تفهمت الامر و وافقتني الراي، و فكرنا في هذه الخطة معا. لم نقل
لاحد شيئا: نهرب و ندع العاصفة تثور.
كنت ساترك لابي رسالة افصل الامر له فيها و كيف انني كنت اشعر بالخزي، و
اتوسل اليه ان يسامحني! كان طيبا معي دائما!
لكن الوقت كان متاخرا ان هو اراد ان يفعل شيئا. ما كنت اريد منه المساعدة،
كنت اريد ان ابدا من جديد في مكان اخر. احيا حياة بسيطة متواضعة: ازرع البن
و الفواكه لتكون عندي ضروريات الحياة فقط. و كان ذلك صعبا على زوجتي، لكنها اقسمت
الا تمانع. انها رائعة. رائعة دون ريب!

قال ابي بجفاء:

– و ما الذي جعلك تغير رايك؟

– اغير رايي؟

– نعم، لماذا عزمت ان تذهب الى ابيك و تطلب منه المساعدة المالية بعد كل
هذا؟

حدق روجر الى ابي و قال مندهشا:

– لكني لم افعل ذلك.

– هيا يا سيد ليونايدز.

– لقد اخطا من ابلغكم ذلك. انا لم اذهب اليه، بل هو ارسل في طلبي.
كانه سمع – بطريقة ما – من اهل المدينة. لعلها كانت اشاعة، لكنه كان يعلم
ما يجري حوله دائما. صارحني ابي، ثم، اخبرته بكل شيء و قلت له بان رحيلي
ليس بسب المال و انما احساسي اني خذلته بعد ان وثق بي!

ثم تغير صوت روجر و جعل يتكلم بانفعال:

– لا يمكنك ان تتخيل كم كان الرجل العجوز طيبا معي. لم يوبخني، بل كان
لطيفا. اخبرته انني لا اريد المساعدة و افضل الا يساعدني و انه من الخير ان
ارحل كما كنت اخطط، لكنه ما كان ليضغي الي. لقد اصر على انقاذي و على
دعم شركة التجهيزات الغذائية لتستانف عملها من جديد.

قال تافيرنر بحدة:

– اتريدنا ان نصدق ان والدك كان ينوي مساعدتك ماديا؟

– كان ينوي ذلك يقينا، و قد اوصى سماسرته هنا و هناك من اجل مساعدتي.

قرا روجر الشك في عيون الرجلين، فاحمر وجهه و قال:

– ما زلت احتفظ بالرسالة. كنت سارسلها بالبريد، لكني نسيتها من… من الصدمة و الفوضى!
ربما احضرتها و لعلها في جيبي الان.

اخرج محفظته و بدا يبحث فيها، و اخيرا وجد ما كان يريده. اخرج ظرفامجعدا عليه
طابع، و كان عنوانهاجاثا كريستي البيت المائل D37159Dab31Cb009967F74848F4Fb026(شركة غريتو ريكس و هانبري)). قال:

– فلتقراها بنفسك ان كنت لا تصدقني.

فتح والدي الرسالة، و ذهب تافيرنر وراءه. لم ار الرسالة وقتئذ لكني رايتها من بعد:
كانت تطلب من ((شركة غريتو و هانبري)) ان تسيل استثمارات معينة و ترسل في اليوم
التالي احد اعضاء الشركة من اجل شروط معينة تتعلق بشؤون شركة التجهيز الغذائي. كان السيد
اريستايد ليونايدز يتخذ الاجراءات اللازمة ايقاف الشركة على قدميها مرة اخرى.

احتفظ تافيرنر بالرسالة قائلا:

– سنعطيك وصلا بهذه الرسالة يا سيد ليونايدز.

اخذ روجر الصك و نهض قائلا:

– هل من شيء اخر؟ هل فهمتم الان الامر كيف كان؟

قال تافيرنر:

– هل اعطاك السيد ليونايدز هذه الرسالة ثم غادرته، ماذا فعلت بعد ذلك؟

– رجعت سريعا الى جناحي الخاص في المنزل. كانت زوجتي قد دخلت لتوها فاخبرتها بنية
والدي و كيف كان رائعا. انني – في الحقيقة – لم اعلم ماذا كنت افعل!

– ثم مرض والدك، بعد كم من الوقت حدث ذلك؟

– دعني اتذكر… ربما نصف ساعة، او ساعة. جاءت بريندا مسرعة خائفة، قالت بانه يبدو
غريبا. و قد… و قد انطلقت معها، لكني اخبرتكم بكل ذلك من قبل.

– خلال زيارتك الاولى لجناح والدك. هل ذهبت الى الحمام المجاور لغرفته؟

– لا اظن. لا… لا… اني لم افعل ذلك قطعا. لماذا؟ لا. لا يمكن ان
تظنوا انني..

هدا والدي مشاعر السخط المفاجئة. نهض و صافحه قائلا:

– شكرا لك يا سيد ليونايدز! لقد ساعدتنا كثيرا، لكن كان يجب ان تخبرنا بهذا
من قبل.

اغلق الباب وراء روجر. و نهضت لانظر الى الرسالة فوق طاولة والدي فيما ردد تافيرنر
متمنيا:

– يمكن ان تكون مزورة.

قال والدي: ربما. لكني لا اظن ذلك، علينا ان نقبل بها تماما كما هي.
كان العجوز ليونايدز مستعدا ليخرج ابنه من هذه الورطة بطريقة فعالة و هو ما يزال
حيا بافضل مما يستطيع روجر عمله بعد موته، لا سيما بعد ان اصبح معروفا الان
ان احدا لم يجد الوصية فغدا نصيب روجر مشكوكا فيه، و هذا يعني التاخير و
العقبات، و حسب ما هي الحال عليه الان فان الكارثة قادمة! لا يا تافيرنر، ليس
لدى روجر ليونايدز او زوجته دافع لقتل العجوز. بل على العكس من ذلك…

سكت ابي و كرر كلمته الاخيرة متاملا كان فكرة خطرت له فجاة. ساله تافيرنر:

– ما الذي يدور في ذهنك يا سيدي؟

– لو ان اريستايد ليونايدز عاش 24 ساعة اخرى لكان روجر بخير! لكنه لم يعش
24 ساعة، مات فجاة بصورة مثيرة خلال ساعة او اكثر قليلا!

– هل تظن ان احدا في البيت كان يسعى لافلاس روجر؟ شخص له مصلحة مضادة،
الا ترى هذا؟

سال والدي:

– ما هي حقيقة الوصية؟ من الذي يرث اموال ليونايدز في الواقع؟

تنهد تافيرنر عميقا و قال:
– انت تعلم مهنة المحاماة: المحامون لا تسمع منهم جوابا صريحا. هناك وصية سابقة كتبها
حين تزوج بريندا. ثم هذه الوصية تقسم لبريندا النصيب نفسه، و اقل منه للانسة دي
هافيلاند و الباقي بين فيليب و روجر. لو لم تكن هذه الوزصية موقعة فان الوصية
القديمة ستكون معتمدة لكن الامر يبدو صعبا. اولا: ان كتابة الوصية الجديدة قد ابطلت السابقة،
و عندنا شهود على امضائها، و هناك ((نية الموصي)). لو تبين انه مات و لم
يوص اذن تفوز الارملة بحصة مدى الحياة على اية حال!

– اذن فلو اختفت الوصية فان بريندا ليونايدز هي اكثر الاشخاص انتفاعا، اليس كذلك؟

– بلى. لو كان هناك خداع فلعلها تكون متورظة فيه. و من الواضح ان في
الامر خدعة، لكني لا اعلم كيف هي؟

لم اكن اعرف انا الاخر. اظن اننا كنا حمقى؛ لاننا كنا ننظر للامر من الزاوية
الخطا.

*****
الجزء الثاني عشر

خرج تافيرنر و مازلنا صامتين. ثم قلت بعد برهة:

– كيف يكون شكل القتلة يا ابي؟

نظر الرجل العجوز متاملا. كنا نفهم بعضنا جيدا ففهم ما كنت افكر فيه حين سالته.
و اجابني بجدية تامة:

– اجل. هذا مهم جدا بالنسبة لك، فقد اصبح القتل فريبا منك، فما عاد ممكنا
ان نتظر اليه بعين المراقب البعيد.

كنت اهتم بعض القضابا المثيرة في المباحث الجنائية، لكني كنت – كما قال ابي –
اطل عليها من بعيد. اما الان فقد صار الامر قريبا مني للغاية. و لا بد
ان صوفيا قد اردكت ذلك بسرعة اكثر مما فعلت.

قال الرجل العجوز:

– لا ادري ان كنت انا الذي ينبغي ان تساله، استطيع ان اوصلك باثنين من
اطباء النفس الذين يؤدون اعمالا لنا و تافيرنر يمكن ان يقدم لك بعض المعلومات الداخلية،
و لعلك تريد ان تسمع رايي انا بسب خبرتي في المجرمين، اليس كذلك؟

قلت بامتنان:

– نعم، هذا ما اريده.

رسم والدي باصبعه دائرة صغيرة على الطاولة:

– ما هو شكل القتلة؟

و ابتسم بسمة باهتة كئيبة و هو يضيف:

– بعضهم كان لطيفا جدا.

لعلي جفلت قليلا. و استمر والدي قائلا:

– نعم. كانوا لطافا مثلك و مثلي و مثل الرجل الذي خرج الان روجر ليونايدز.
القتل جريمة غير محترفة. انني اتحدث عن نوع الجرائم التي تفكر فيها و ليس جرائم
العصابات. اشعر احيانا كثيرة ان هؤلاء المجرمين اللطاف فوجئوا بجريمة القتل فاضطروا ان يرتكبوها بطريقة
عارضة تقريبا، كان يحصروا – مثلا – في زاوية ضيقة او انهم يريدون شيئا بالحاح
شديد كالمال او المراة، فيقتلون من اجلهما. ان الضمبير ساعتئذ يتعطل لديهم. الطفل يترجم رغبته
في العمل دون وخز الضمير، و الطفل الذي يغضب على قطته يقولاجاثا كريستي البيت المائل D37159Dab31Cb009967F74848F4Fb026(سوف اقتلك))، و يضرب راسها بمطرقة، ثم يحزن لان القطة قد ماتت. كم من رضيع
يحاولون اخذ رضيع من عربته ليغرقوه لانه يلفت الانتباه او يعكر ملذاتهم. ان الاطفال يعرفون
في مرحلة مبكرة جدا ان هذا ((خطا)) فان فعلوه عوقبوا، لكن كثيرا من الناس لا
ينضجون انفعالبا بالقدر الكافي: يدركون ان القتل عمل خاطئ لكنهم لا يحسون به. لا اعتقد
– حسب تجربتي – انني رايت قاتلا اصابه الندم حقا، بل هو يبحث عن تعلليل
لما ارتكبه متجاوزا نفسه: ((كان ذلك هو الطريق الوحيد))، او ((هو – الضحية – الذي
سعى الى حتفه))… الخ

– لو كان احد يكره العجوز منذ زمن بعيد، فهل يكون الكره سبا لقتله؟

– كراهية فحسب؟ هذا بعيد جدا حسب ظني…

و نظر الي بفضول قائلا:

حين تقولاجاثا كريستي البيت المائل D37159Dab31Cb009967F74848F4Fb026(كراهية)) فانني اظنه انك تقصد ان الحب قد انقضى. كراهية الغيرة امر مختلف؛ لانه هذه
تنشا من التعلق و الاحباط. الناس يقولون بان كونستانس كنت كانت تحب اخاها الرضيع الذي
قتلته حبا كبيرا، لكننا نظن انها كانت تريد نزع انتباه و محبة الاخرين له. الناس
في الغالب يقتلون من يحبون اكثر من قتلهم من يكرهون؛ لان الذين تحبهم هم وحدهم
الذين يستطيعون ان يجعلوا حياتك لا تطاق!
لكن هذا لا يساعدك كثيرا، اليس كذلك؟ كان الذي تريده يا تشارلز هو علامة ما
او اشارة تساعدك في كشف القاتل من بين اهل البيت الذي يبدون اناسا عاديين يبعثون
على السرور، اليس كذلك؟

– نعم، هذا هو ما اريده.

– و هل ترى بينهم صفة مشتركة؟

و سكت قليلا و هو يفكر ثم قال:

– لو كان كذلك فانني اميل الى القول بانها الغرور.

– الغرور؟

– اجل، لم ار قاتلا غير مغرور. ان الغرور هو الذي يؤدي الى كشفهم غالبا،
ربما يخافون القبض عليهم، لكنهم لا يستطيعون كف نفوسهم عن التباهي و الاختيال، و هم
عادة يكونون متاكدين انهم اذكياء لا يمكن ان يمسك بهم احد، و هنا شيء اخر:
ان القاتل يريد ان يتحدث.

– يتحدث؟

– اجل، ان القاتل حين يقتل يصير في عزلة شديدة، فهو يحب ان يصارح احدا
بكل شيء، لكنه لا يستطيع. و هذا يجعله يريد ان يخبر بالمزيد، و هكذا: ان
كان لا يستطيع ان يقول كيف فعل هذا فانه يستطيع ان يتحدث عن القتل نفسه
و يناقشه و يطرح نظريات لتدرسها.
لو كنت مكانك يا تشارلز لنتبهت لهذا الامر. اذهب هناك مرة اخرى و اقعد بينهم
و اختلط بهم جميعا و اجعلهم يتحدثون. لن يكون عملا سهلا، و سواء كانوا مرجمين
او ابرياء فسيكونون سعداء بفرصة التحدث مع رجل غريب؛ لانهم سيقولون لك اشياء لا يقولونها
لبعضهم، و لعلك تستطيع ان تتبين الاختلاف، فالذي يريد ان يكتم شيئا في نفسه لا
يطيق بالطبع الحديث معك، و كان رجال الاستخبارات يدركون ذلك بالطبع ايام الحرب. لو انك
اسرت ستفشي اسمك و رتبتك و رقمك العسكري و لا شيء غيرها. اما الذي يحاولون
اعطاء معلومات مزيفة فان السنتهم تزل دائما. فلتجعل اهل البيت يتحدثون يا تشارلز و راقب
فيهم زلة اللسان او لمحات الكشف عن الذات.

اخبرته عندها ان صوفيا تحدثت عن القسوة في العائلة، و ذكرت انواعا مختلفة منها، فاهتم
بذلك اهتماما كبيرا و قال:

– اجل، ان لدى فتاتك شيئا في هذا الامر، ان الصفات الوراثية شيء يثير الاهتمام.
خذ على سبيل المثال قسوة دي هافيلاند، و ما يمكن ان نسميه عديمية الضمير عند
ليونايدز. ان عائلة هافيلاند طبيعيين لانهم ليسوا عديمي الضمير اما عائلة ليونايدز فهم رغم تجردهم
من الضمير الا انهم عطوفون، و لكن احدهم ورث هاتين الصفتين مجتمعتين. هل تفهم ما
اعنيه؟

لم افكر بهذه الطريقة تماما، و قال والدي:

– لن ارهقك بالصفات الموروثة، فهذا امر دقيق و معقد جدا. اذهب يا ولدي و
دعهم يحدثونك. ان فتاتك محقة تماما في شيء واحد: لن ينفعك و ينفعها سوى الحقيقة.

ثم اضاف فيما كنت اغادر الغرفة: و احذر الطفلة!

– جوزفين؟ تعني الا ابوح لها بما انوي ان افعله؟

– كلا، لم اقصد ذلك، بل اقصد ان تعتني بها، فلا نريد ان يصيبها شيء.

حدقت اليه، فقال:

– هيا يا تشارلز، ان بين اهل البيت قاتلا يقتل بدم بارد، و يظهر ان
الطفلة جوزفين تعرف معظم ما يجري.

– انها تعرف كل شيء عن روجر، و ربما اخطات بالقفز الى استنتاج بانه محتال
و لكن معلوماتها تبدو صحيحة!

– نعم، نعم. ان شهادة الطفل هي افضل الشهادة و انا اصدقها كل مرة، لكنها
لا تفيد في المحكمة قطعا؛ لان الاطفال لا يطيقون توجيه الاسئلة المباشرة، بل تراهم يهمهمون
و يبدون بلهاء و يقولون بانهم لا يعرفون لكنهم يكونون في افضل احوالهم عندما يتباهون.
سوف تسمع منها مزيدا بالطريقة نفسها: لا تسالها اسئلة، اجعلها تشعر انك لا تعلم شيئا
لتثيرها، و لكن عليك ان تهتم بامرها، فلعلها تعرف كثيرا من اجل سلامة انسان!

*****
الجزء الثالث عشر

تركت ابي و دهبت الى ((البيت المائل)) و شعور قليل بالذنب يلازمني، لقد كررت على
مسمع تافيرنر اسرار جوزفين التي تتصل بروجر، لكنني لم اقل شيئا حول مسالة بريندا و
لورانس براون و رسائل الحب.

اني معذور، فقد حسبت ما بيتهم رومانسية مجردة و لم اعلم سبا يثبت صحة ذلك،
لكني كرهت ان اجمع ادلة اخرى على بريندا ليونايدز، كنت اشفق عليها من عائلة تكن
لها العداء و هي متجمعة عليها قبوة. لو كان مثل هذه الرسائل بينهما فلا شك
ان تافيرنر و اعوانه سيجدونها، كنت اكره ان اكون سبا في طرح نهمة جديدة على
امراة تعيش وضعا صعبا! ثم انها اكدت لي بهدوء انه لم يكن بينها و بين
لورانس اية علاقة، و شعرت اني اميل الى ان اصدقها اكثر من تلك ((القزم الحقود))
جوزفين! الم تقل بريندا بلسانها بان جوزفين لم تكن هناك؟

كتمت قناعتي بان جوزفين كانت هناك، و تذكرت الذكاء في عينيها السوداوين الصغيرتين.

و كلمت صوفيا بالهاتف و سالتها ان كانت تاذن لي بالقدوم ثانية؟

– ارجوك ان تاتي يا تشارلز.

– كيف تسير الامور؟

– لا باس، ما زالوا يفتشون البيت، عم يبحثون؟

– لا ادري.

– اننا جميعا غاضبون جدا، تعال في اسرع وقت، سوف احن اذا لم اتكلم مع
شخص ما.

قلت لها باني ساتي اليها فورا.

لم ار احدا و انا قادم في السيارة الى الباب الامامي. اعطيت السائق اجره و
نزلت. ترددت: هل اقرع الجرس ام ادخل، فقد كان الباب مفتوحا.

و بينما انا كذلك سمعت صوتا خفيفا من خلفي. ادرت راسي بحدة… كانو جوزفين عند
فتحتة سياج من الشجر تنظر الي و قد حجبت وجهها تفاحة كبيرة، ذهبت تجاهها.

– مرجبا جوزفين.

لم تجبني، لكنها اختفت خلف السياج، و عبرت الطريق و تبعتها. كانت تجلس على مقعد
خشبي صدئ غير مريح عند بركة السمك و تحرك ساقيها و هي تقضم التفاحة.

كانت تنظر الي باكتئاب و شيء لا احسبه الا العداء. قلت:

– ها قد جئت ثانية يا جوزفين.

كانت بداية ضعيفة، لكن كان صمت جوزفين و عيناها الجاحظتان يثيران الاعصاب.

و مازالت صامتة تفكر تفكيرا عميقا. سالتها:

– هل هذه تفاحة جيدة؟

هذه المرة تعطفت جوزفين و اجابت بكلمة واحدة:

– غامضة!

– امر مؤسف! لا احب التفاح الغامض.

ردت جوزفين بازدراء:

– لا احد يحب ذلك.

– لم لم تكلميني حين قلتاجاثا كريستي البيت المائل D37159Dab31Cb009967F74848F4Fb026(مرحبا))؟

– لم اكن اريد ذلك.

– لماذا؟

ابعدت جوزفين التفاحة عن وجهها لتساعد في توضيح شجبها و قالت:

– لانك ذهبت و ابلغت الشرطة.

تفاجات:

– ها! تقصدين… بخصوص…

– بخصوص العم روجر.

– لكن لا باس يا جوزفين لا باس. انهم يعرفون انه لم يقترف ذنبا، لم
يختلس مالا او شيئا كهذا.

نظرت جوزفين الي نظرة ساخطة:

– كم انت غبي!

– اني اسف!

– لست قلقة على العم روجر؛ لكن هذا ليس اسلوب العمل البوليسي. الا تعرف انه
ينبغي ان لا تخبر الشرطة حتى النهاية؟

– ها! فهمت. اني ىسف يا جوزفين. اني اسف حقا!

– يجب ان تشعر بالاسف، لقد كنت اثق بك!

قلت لها مرة ثالثة بانني اسف. بدت جوزفين هادئة، قضمت التفاحة مرتين و قلت لها:

– لكن الشرطة سيكتشفون كل شيء. انك… انني… نحن لا نستطيع ان نكتم الامر طويلا.

– تقصد لانه كاد يفلس؟

كانت جوزفين – كعادتها – عالمة بالامر. و قلت:

– ربما. اظن ان الامر سيصل الى ذلك الحد.

– سيتحدثون هذه الليلة: والدي و والدتي و العم روجر و الخالة ايديث. سوف تعطيه
الخالة ايديث مالها لكنها لم تاخذه بعد، اما والدي فلا اظنه يعطيه، انه يقولاجاثا كريستي البيت المائل D37159Dab31Cb009967F74848F4Fb026(ان كانت روجر قد وقع في مازق فعليه ان يلوم نفسه، و ما فائدة تبذير
المال في مشروع خاسر؟))، كما ان امي لن ترضى ان تعطيه جنيها واحدا لانها تريد
من والدي ان يعطي المال الى ايديث تومبسون. هل تعرف ايديث تومبسون؟ كانت متزوجة من
رجل لم تحبه، و كانت تحب شابا يدعى بيواترز، و قد نزل من السفينة و
سار في شارع مهجور بعد المسرح فطعن في ظهره.

تعبت مرة اخرى من نضج معلومات جوزفين و الفهم الدرامي الذي قدم جميع الحقائق البارزة
بايجاز. قالت جوزفين:

– ان الامر يبدو طبيعيا، لكني لا اظن ان المسرحية ستكون كهذه على الاطلاق، سوف
تكون مثل جيزبيل مرة اخرى… – و تنهدت – كنت اتمنى ان اعرف لم لم
تاكل الكلاب راحتيها؟

– جوزفين، هل قلت بانك متاكدة من هوية القاتل؟

– حسنا؟

– من هو؟

نظرت الي نظرة ازدراء، فقلت:

– فهمت. لن تخبريني الا عند الفصل الاخير؟ فاذا وعدتك الا اخبر المفتش تافيرنر؟

– بل اريد بعض الادلة الاخرى.

و جعلت تلقي لب التفاحة في حوض اسماك الزينة، ثم اضافت قائلة:

– على اية حال ما كنت ساخبرك بذلك لانك تشبه واطسون في قصص شيرلوك هولمز.

تحملت هذه الاهانة و قلت:

– حسنا. انا واطسون، لكن واطسون عرف اسرارا!

– ماذا عرف؟

– الحقائق، ثم بعد ذلك اجتهد فاخطا، الن يكون امرا مسليا لك ان اسمع منك
ثم ترينني اقوم باستنتاجات خاطئة؟

اغريت جوزفين لحظة، لكنها بعد ذلك هزت راسها و قالت:

– لا، و على كل حال فانا لا احب قصص شيرلوك هولمز… ان اسلوبها قديم
و يركب ابطالها عربات تجرها الكلاب!

– و ماذا عن تلك الرسائل؟

– اية رسائل؟

– رسائل لورانس براون و بريندا.

– لقد اخترعتها.

– لا اصدقك.

– نعم، انها كذبت اخترعتها! انني اخترع كثيرا اشياء من هذا النوع، فهذا يسليني.

حدقت فيها و حدقت الي:

– اسمعي يا جوزفين: اعرف رجلا في المتحف البرطاني مطلعا على القصص التاريخية. لو سالته:
لم لم تاكل الكلاب راحتي جيزبيل فهل تخبرينني عن هذه الرسائل؟

هذه المرة ترددت جوزفين حقا. ثم في مكان ليس بعيدا انكسر غصن شجرة و احدث
صوتا حادا. قالت جوزفين ببرود:

– لا، لن اخبرك.

رضيت بالهزيمة. و في وقت لاحق من ذلك اليوم تذكرت نصيحة والدي. اما في تلك
اللحظة كررت المحاولة:

– حسنا… انما هي لعبة. انت لا تعلمين شيئا.

قدحت عين جوزفين لكنها قاومت الاغراء، نهضت و قلت:

– هيا، يجب ان ادخل الان لابحث عن صوفيا.

– ساقف هنا.

– لا. لن تفعلي. سوف تدخلين معي.

شددتها بغلظة حتى تقف على قدميها فتفاجات، احتجت لكنها استسلمت عن طيب خاطر منها، ربما
لانها كانت ترغب ملاحظة ردود فعل اهل البيت عند حضوري.

لم ادرك في تلك اللحظة سر حرصي على اصطحابها معي الى البيت، و لكن السبب
ما لبث ان خطر بالي و نحن ندخل من الباب الامامي:

كان السبب هو انكسار الغصن المفاجئ!

*****
الجزء الرابع عشر

كانت همسات تسمع من قاعة الجلوس الكبيرة. ترددت و لكني لم ادخل، تمشيت في الممر
و بدافع الغريزة دفعت بابا اخضر. كان الممر من خلفي مظلما لكن بابا انفتح فجاة
مظهرا لي مطبخا كبيرا مضيئا.

كان عند الباب امراة كبيرة في السن، عجوز ضخمة تضع مريلة بيضاء نظيفة حول خصرها
السمين، و حين رايتها عرفت ان كل شيء كان على ما يرام. انه الشعور الذي
يسكن في قلبك من مدبرة المنزل ناني الطيبة. انني في الخامسة و الثلاثين لكنني احسست
انني ولد صغير مطمئن في الرابعة من عمره!

و لقد عرفت ان مدبرة المنزل ناني لم نكن قد رانني من قبل لكنها قال
في الحال:

– انت السيد تشارلز، اليس كذلك؟ ادخل الى المطبخ و دعني اقدم لك كوبا من
الشاي.

كان مطبخا كبيرا و جميلا. و جلست الى الطاولة الوسطى، و احضرت ناني لي فنجانا
من القهوة و قطعتين من البسكويت على طبق، و احسسن انني في الحضانة مرة اخرى:
كل شيء كما يرام و لم تعد المخاوف من الطلمة و المجهول تنتابني! قالت ناني:

– ستكون الانسة صوفيا مسرورة جدا لمجيئك فهي متضايقة.

و اضافت و قد تغير لون وجهها: عجبا! انهم جميعا في ضيق.

نظرت ورائي و قلت:

– اين جوزفين؟ لقد دخلت معي!

طقطقت ناني بلسانها استهجانا:

– انها تتنصت وراء الابواب و تدون ما تسمع في ذلك الدفتر الصغير السخيف الذي
تحمله حيثما ذهبت. كان يجب ان تذهب الى المدرسة و تلعب مع اترابها من الاطفال.
لقد قلت ذلك للانسة ايديث و وافقتني، لكن السيد راى ان تبقى هنا في البيت.

– اظن انه كان يحبها كثيرا.

– نعم كان كذلك يا سيدي، كان يحبهم جميعا!

بدا الذهول على وجهي قليلا و انا اتعجب لماذا كان حب فيليب لذريته يعبر عنه
بصيغة الماضي، و لاحظت تاتي ملامح الدهشة فاحمر وجهها قليلا:

– عندما قلتاجاثا كريستي البيت المائل D37159Dab31Cb009967F74848F4Fb026(السيد)) فانما كنت اعني السيد ليونايدز العجوز.

و اردت ان اجيبها لكن الباب انفتح بقوة و دخلت صوفيا مندفعة. قالت:

– تشارلز..!

ثم اضافت بسرعة تخاطب ناني:

– انا سعيدة لانه جاء يا ناني.

– اعلم انك سعيدة يا حبيبتي.

جمعت نانيب الاوعية و حملتها الى حجرة الغسيل و اغلقت الباب وراءها. نهضت و جئت
الى صوفيا فامسكت ببيدها.

– عزيزتي، انك ترتجفين! ما الامر؟

– انا خائفة يا تشارلز. خائفة!

– يا ليتني استطيع ان اخذك بعيدا…

ابتعدت عني قليلا و هزت راسها:

– لا. هذا مستحيل. يجب علينا ان نواصل حتى النهاية، لكنك تعرف يا تشارلز انني
لا احب الاحساس بان احدا في هذا البيت اراه و اكلمه كل يوم هو قاتل
عديم الاحساس!

لم اعرف كيف اجيبها. ان المرء لا يستطيع ان يقدم تطمينات لا معنى لها لفتاة
مثل صوفيا. قالت:

– فقط لو نعرف من هو القاتل…

– هذا اسوا ما في الامر.

همست: اتدري ما الذي يخيفني؟ اننا قد لا نعرف ابدا…

كان يمكنني ان اتخيل هذا الكابوس، ربما يظل قاتل العوجز ليونايدز مجهولا، لكنني تذكرت سؤالا
تعمدت ان اساله صوفيا، قلت لها:

– اخبريني صوفيا، كم واحدا في البيت كان يعلم امر قطرة الايسيرين الخاصة بالعين؟ اقصد
ان يعرف انها عند جدك و انها كانت قطرة سامة او قاتلة؟

– فهمت مرادك يا تشارلز، لكن هذا لن يفيد، فكلنا كنا نعرف. كنا نجلس جميعا
ذات يوم مع جدي محتسي القهوة في الدور العلوي بعد تناول الغداء. كان جدي يحب
ان نجتمع حوله. و كانت عيناه تؤلمانه كثيرا فاحضرت بريندا الايسيرين لتنقط في كل عين
قطرة، و قالت جوزفين التي تحب كثرة الاسئلةاجاثا كريستي البيت المائل D37159Dab31Cb009967F74848F4Fb026(لماذا كتب عليها ((قطرة عين)) و ليس جرعة للشرب؟)) فابتسم جدي و قالاجاثا كريستي البيت المائل D37159Dab31Cb009967F74848F4Fb026(لو ان بريندا اخطات و حقنتني ابرة من قطرة العين في يوم ما بدلا من
انسولين فسينقطع نفسي و يزرق وجهي ثم اموت؛ لان قلبي ليس قويا!))، و قالت جوزفين
اجاثا كريستي البيت المائل D37159Dab31Cb009967F74848F4Fb026(ها!)).
ثم اكمل جدي حديثه فقالاجاثا كريستي البيت المائل D37159Dab31Cb009967F74848F4Fb026(فعلينا ان نكون على حذر لكيلا تعطيني بريندا حقنة ايسيرين بدلا من انسولين، اليس كذلك؟))

و سكتت صوفيا قليلا، ثم اضافت:

– كنا جميعا نصغي، هل عرفت؟ سمعنا ذلك جميعا!

لقد فهمت ذلك حقا، لكني تذكرت الان ان العجوز ليونايدز قد زودهم – صراحة –
بمسودة خطة لقتله، لم يكن على القاتل ان يرسم خطة او ان يخترع شيئا، فقد
قد الضحية نفسه اسلوبا سهلا و بسيطا يتسبب في موته.

تنهدت عميقا و ادركت صوفيا ما افكر فيه و قالت:

– نعم. انه امر مرعب، اليس كذلك؟

قلت بطء:

– اتعرفين يا صوفيا؟ اني افكر في شيء واحد لا غير.

– و ما هو؟

– لقد كنت على صواب؛ لان بريندا يستحيل ان تفعلها، لم تكن تستطيع فعل ذلك
بتلك الطريقة تماما، حيث كنتم جميعا تستمعون و كلكم يتذكر ذلك الموقف.

– لا ادري، احيانا تكون صامتة!

– كيف تكون صامتة ازاء ذلك كله؟ لا. لا يمكن ان يكون الفاعل بريندا.

ابتعدت صوفيا، سالتني:

– الا تريد ان تكون بريندا هي القاتلة؟

و ماذا يمكنني ان اقول؟ لم استطع… لا، لم استطع ان اقول صراحة: نعم، ارجو
ان يكون القاتل بريندا! و لم لم استطع؟ اشفقت على بريندا، كانت وحدها في جانب
و عداء عائلة ليونايدز القوبية كان ضدها صفا في الجانب الاخر. اهي شهامة؟ نصرة الضعيف
الذي لا يقوى على الدفاع عن نفسه؟

و تذكرتها و هي تجلس على الاريكة في ثوب الحداد الغالي و الياس تسمعه في
صوتها و الخوف تراه في عينيها!

رجعتناني في الوقت المناسب من حجرة الغسيل، و لعلها احست توترا بيني و بين صوفيا،
قالت باستنكار:

– تتحدثان عن القتل؟ انصحكما ان تكفا عن ذلك و تتركاه للشرطة، انه عمل بغيض
من شانهم هم و ليس من شانكما.

– ناني، الا تدركين ان احدا من اهل البيت هو القاتل؟

– هذا هراء يا انسة صوفيا، لم اعد اطيق سماع ذلك. اليس الباب الامامي مفتوحا
طوال الوقت، كل الابواب مفتوحة، كانها تقول للصوصاجاثا كريستي البيت المائل D37159Dab31Cb009967F74848F4Fb026(ادخلوا))؟

– لكن الفاعل يستحيل ان يكون لصا، فلم يسرق من البيت شيء، ثم لماذا يدخل
لص الى البيت و يسمم انسانا؟

– لم اقل بانه لص يا انسة صوفيا، انما قلت الابواب كلها كانت مفتوحة لذلك
فاي واحد كان يمكن ان يدخل، لو سالتني عن القتال لقلت بانهم الشيوعيون.

اومات ناني براسها علامة الارتياح، سالها صوفيا:

– و لماذا يريد الشيوعيون قتل جدي المسكين؟

– الناس يقولون بانهم وراء كل مصيبة، لو لم يكن الشيوعيون فانهم الكاثوليك، انهم جميعا
في الخبث سواء.

ذهبت ناني مرة اخرى الى حجرة الغسيل. ضحكت انا و صوفيا، و قلت لها:

– انها عجوز بروتستانتية متعصبة!

– اجل، انها كذلك. هيا يا تشارلز، تعال الى غرفة الاستقبال، هناك اجتماع عائلي منعقد.
كان موعده هذا المساء لكنه بدا مبكرا.

– اذن فالافضل الا اتدخل يا صوفيا.

– ان كنت ستتزوج فتاة من العائلة فالاحسن ان ترى ما يكون عليه الامر حين
ينزع القفاز من اليد.

– ما هو موضوع الاجتماع؟

– شؤون روجر، لعلك تعرفها؟ لكن من الخبل ان تظن روجر قد قتل جدي، فقد
كان روجر يحبه حبا شديدا!

– في الواقع لم اظن ان روجر هو الذي فعلها، كنت ارجح انها كليمنسي.

– ذلك فقط لانني اقنعتك بهذه الفكرة، لكنك مخطئ ايضا، لا اظن ان كليمنسي لا
تهتم و لو قليلا لو ان روجر خسر كل امواله. اظنها ستكون سعيدة بذلك، ان
لديها رغبة عجيبة الا تملك شيئا! هيا، ادخل.

دخلت مع صوفيا الى غرفة الاستقبال و سكتت الاصوات التي كانت تتحدث فجاة، و نظر
الجميع الينا.

كانوا جميعا هناك: فيليب على كرسي كبقير قرمزي بين النافذتين، و وجهه الجميل متجهم حزين
كانه قاض يوشك ان يقطع حكما، و روجر على مقعد قرب الموقد يجلس منفرج الساقين
و ينفش شعره باصابعه، و ساق بنطاله اليسرى مثنية و ربطة عنقة مائلة، و وجهه
محمر ثائر.

جلست كليمنسي خلفه، و قد بدت نحيلة على كرسي كبير. كانت تنظر بعيدا عن الاخرين
كانما تتفحص صور الحائط بنظرات هادئة. و جلست ايديث على كرسي الجد اريستايد منتصبة و
هي تغزل الصوف بحركة سريعة و شفتاها مزمومتان.

و كان اجمل الحاضرين في الغرفة ماجدا و يوستيس. كانا كانهما لوحة رسمها فنان. جلسا
معا على الاريكة: الولد الانيق اسود الشعر متجهما و الى جانبه ماجدا و ذراعها ممدودة
خلف ظهره. دوقة بيت ((ثري غابلز)) في ثوب جميل و احدى قدميها الصغيرتين ممتدة و
هي تلبس الخف!

قطب فيليب جبينه:

– اني اسف يا صوفيا، نحن نناقش شؤونا عائلية ذات خصوصية!

قرقعت صنارتا الانسة دي هافيلاند و هممت ان اعتذر و اخرج لكن صوفيا سبقتني و
قالت بوضوح و تصميم:

– انا و تشارلز سنتزوج، و اريده ان يكون هنا.

قفز روجر من مقعده فجاة و صاح:

– و لم لا؟ كنت اقول لك يا فيليب انه لا يوجد شيء خاص في
هذا الامر، لسوف يعلمه الناس جميعا غدا او بعد غد!

و جاء و وضع يده على كتفي بتودد:

– يا ولدي العزيز، انت تعلم كل شيء عنه، كنت هناك هذا الصباح.

صاحت ماجدا و هي تنحني:

– اخبرني، كيف هي سكوتلاند يارد؟ ان المرء يتساءل عن ذلك كثيرا… طاولة؟ مكتب؟ كراسي؟
كيف ستائرها؟ اظن انه لا يوجد زهور فيها او مسجل؟

قالت صوفيا: ضعي له مشهدا كوميديا، و على كل حال فقد امرت فافاسور جونز ان
يحذف مشهد سكوتلانديارد ذاك؛ لانه يهبط بالمسرحية – حسب قولك – هبوطا مفاجئا.

ماجدا: انه يجعلها تشبه المسرحية البوليسية كثيرا!

سالني فيليب محتدا:

– هل كنت هناك هذا الصباح؟ لماذا؟ اوه! والدك…

قطب جبينه. فهمت اكثر من ذي قبل ان حضوري لم يكن مرغوبا فيه لكن يد
صوفيا كانت تقبض على ذراعي.

حركت كليمنسي كرسيا الى الامام و قالت:

– اجلس من فضلك!

نظرت اليها نظرة امتنان و وافقت على دعوتها.

و قالت الانسة دي هافيلاند قولا عرفت منه انها كانت تواصل الحديث الذي كانوا فيه:

– قل ما تشاء، لكن علينا ان نحترم رغبة اريستايد. حين يتم تسوية امر الوصية
هذه فنصيبي كله تحت تصرفك يا روجر.

شد روجر شعره بقوة و صاح:

– لا يا خالتي ايديث. لا!

فيليب: يا ليتني استطيع ان اقول نفس الشيء، لكن على المرء ان يحسب لكل شيء
حسابه…

– الا تفهم يا عزيزي فيل؟ لن اخذ بنسا واحدا من احد منكم.

صاحت كليمنسي فجاة:

– انه لا يستطيع بالطبع.

ماجدا: على اية حال يا ايديث، اذا تم تقسيم الوصية فسوف ياخذ نصيبه.

يوستيس: و لكن ربما لا يتم تقسيمها غلان، اليس كذلك؟

فيليب: انت لا تعلم شيئا عنها يا يوستيس.

صاح روجر:

– الولد على صواب. لقد وضع اصبعه على الجرح! لا شيء سوف ينقذني من الكارثة،
لا شيء!

كليمنسي: لا ارى شيئا يستحق النقاش في الحقيقة.

روجر: على اية حال فلا شيء يهمني!

ضم فيليب شفتيه ثم قال:

– كنت اظن انه يهمك كثيرا يا روجر.

– لا لا، و ماذا يهمني بعد ان مات ابي؟ و ها نحن نجلس هنا
نناقش فقط شؤون المال!

احمرت جنتا فيليب الشاحبات قليلا و قال بثبات:

– اننا نحاول المساعدة فقط.

– اعرف يا فيل، اعرف، و لكننا لا نستطيع ان نفعل شيئا. دعنا نقل بانه
لم يبق سوى يوم واحد.

– اظن انني استطيع جمع مقدار من المال، لقد تدهورت السندات المالية كثيرا، و بعض
من راس المال مشتغل في استثمارات معينة فلا استطيع اخذها، فهي سداد لديون ماجدا و
لكن…

ادركته ماجدا بسرعة:

– انك لن تستطيع جمع المال يا عزيزي. سيكون سخيفا ان تحاول، كما انه ظلم
للاطفال.

فصاح روجر:

– لقد اخبرتكم انني لا اطب شيئا من احد منكم/ لقد بح صوتي و انا
اقول لكم ذلك. انني راض تماما ان تاخذ الامور مجراها.

– انها مسالة سمعة اجتماعية، سمعة والدي و سمعتنا.

– لم يكن هذا من شان العائلة، بل كان شاني انا وحدي.

قال فيليب و هو ينظر اليه:

– اجل، كان شانك وحدك.

نهضت الانسة دي هافيلاند و قالت و في صوتها نبرة هيمنة تؤثر في الحاضرين:

– اظن اننا ناقشنا هذا بما فيه الكفاية.

و نهض فيليب و ماجدا، و خرج يوستيس من الغرفة في كسل، و لاحظت الغرور
في مشيته العرجاء: لم يكن اعرج لكن مشيته عرجاء.

تابط روجر ذراع فيليب و قال:

– انك حلو المعشر يا فيل و ان يكن تفكيرك هكذا!

خرج الاخوان معا و همست ماجدا و هي تتبعتهما:

– يالها من جلبة!

اما صوفيا فانصرفت قائلة انها ستتدبر امر غرفتي.

وقفت ايديث دي هافيلاند تجمع صوفها. نظرت الي فظننت انها تريد محادثتي، كانت نظراتها توحي
انها تستغيث لكنها غيرت رايها و تنهدت و خرجت في عقب الذي قبلها.

وقفت كليمنسي عند النافذة تطل على الحديقة، جئت اليها فاتلتت و قالت:

– الحمد لله. اللقاء انتهى!

و اضافت بنفور: انها غرفة عجيبة!

– الا تحبينها؟

لا استطيع ان اتنفس و انا فيها، فرائحة الزهور المقيتة و الغبار دائما فيها!

لا اظن انها كانت عادلة في وصف الغرفة، لكني فهمت ماذا قصدت، كانت تقصد حتما
ما بداخل الغرفة. كانت غرفة غريبة، مريحة للنظر، مغلقة، لا بييعتريها تقلب الجو السيء في
الخارج. و لم تكن غرفة يكون الرجل فيها سعيدا لو مكث فترة طويلة، فانت لا
تستطيع ان تستريح فيها و تقرا صحيفة و تدخن بالغليون و تمد قدميك. ومع ذلك
كنت افضلها على غرفة كليمنسي البسيطة المجردة من الاثاث في الطابق العلوي، و بالجملة فانا
افضل حجرة الجلوس على قاعة العمليات التدريبية في مستشفى.

نظرت كليمنسي حولها و قالت:

– انها خشبة مسرح، لوحة خلفية من اجل ماجدا لتمثل عليها المشاهد، شارلز، هل عرفت
ما كنا نؤديه قبل قليل؟ المشهد الثاني. الاجتماع السري العائلي، لقد رتبته ماجدا، لم يكن
يعني شيئا اذ لم يكن ثمة شيء نتحدث فيه او نناقشه، كل شيء تمت تسويته…
انتهى.

لم يظهر الحزن في صوتها، بل الرضى، و راتني و انا انظر اليها، فسالتني بعجلة:

– الا تفهم؟ اخيرا اصبحنا احرارا! الا تفهم ان روجر كان بائسا… بائسا تماما… منذ
سنوات عدة؟ لم يكن يرغب في العمل. انه يحب اشياء مثل الخيول و الابقار، و
يحب التسكع في الارياف. لكنه كان يعشق والده، و كلهم كانوا مثله، و لم يكن
العجوز طاغية و لم يؤذهم ابدا، و هم بقوا مخلصين له. هذا هو الامر غير
الطبيعي في هذا البيت… عائلة كبيرة جدا..

– اهذا شيء غير طبيعي؟

– اعتقد ذلك. اعتقد انه عندما يكبر اطفالك، فيجب ان تبتعد عنهم و تطلق سراحهم
و تجبرهم على نسيانك.

– اجبرهم؟ هذه قسوة، اليس كذلك؟ اليس الاكراه عملا سيئا؟

– لو لم يصنع من نفسه تلك الشخصية…

– لا احد يملك ان يصنع من نفسه شخصية. لقد كان قوي الشخصية بطبيعته.

– كانت شخصيته مؤثرة في روجر حتى العبادة! كان روجر يفعل كل ما يامره ابوه،
و كان يسعى ان يكون الولد الذي يريده والده، و لم يستطع! نقل اليه مليكية
شركة التجهيز الغذائي التي كانت سبب متعة العجوز و فخره، و اجتهد روجر ان يتبع
خطى ابيه لكنه لم يفلح! لم يكن يمتلك تلك القدرة فهو غبيفي الادارة. اجل، اقولها
صراحة و قد اوشكت ان اجرحه… انه بائس! مكث سنين يكافح و يرى المصلحة كلها
تنهار، و تخطر باله افكار ((رائعة)) فجاة و خطط كانت دائما تضلله الطريق و تزيد
امره سوءا في كل يوم! كم هو مفزع ان تشعر انك لا تجني غير الفشل
سنة بعد اخرى! انت لا تعلم كيف كان روجر بائسا، انما انا اعرف!

و التفتت مرة اخرى و واجهتني:

– خمنت انك اقترحت على الشرطة ان روجر ربما قتل والده من اجل المال. كم
يبدو هذا سخيفا!

قلت بتواضع:

– لقد ادركت الان انه سخيف.

– حين علم روجر انه لا يستطيع ان يدرا عن نفسه الكارثة و انها متحققة
الوقوع احس بالارتياح. نعم احس بذلك. كان منزعجا لان والده عرف الامر و ليس لاي
سبب اخر، و كان يتطلع الى الحياة الجديدة التي كنا سنعيشها.

ارتعش وجهها و سكن صوتها!

– اين كنتما سترحلان؟

– الى جزر الباربادوس. مات ابن عم لي بعيد قبل زمن قصير و ترك عقارا
صغيرا هناك، ليس بالشيء الكثير لكنه مكان كنا نذهب اليه. كنا سنصبح فقراء بائسين لكننا
نكد في طلب العيش، و تكلفة العيش هناك زهيدة جدا. كنا سنعيش معا دون قلق
بعيدا عنهم جميعا!

تنهدت.

– ان روجر رجل عجيب. كان سيقلق علي من الفقر، ففي ذهنه موقف عائلة ليونايدز
نفسها من المال. عندما كان زوجي الاول حيا كنا فقيرين جدا، و راى روجر ان
زواجه مني هو جراة رائعة، لكنه لم يدرك انني كنت سعيدة و لقد فقدت السعادة
منذ ذلك الوقت!.. لم احب ريتشارد ابدا كما احب روجر!

و اغمضت جفنيها قليلا ثم نظر الي، و ادركت حدة شعورها حين اضافت قائلة:

– و لذلك فانت ترى، ما كنت لاقتل احدا من اجل المال. لا يغريني المال!

كنت متاكدا انها تعني ما تقول. كانت كليمنسي ليونايدز من القلة الذين لا يهمهم المال.
انها تكره الرفاهية و تحب الزهد و التقشف و تنظر الى الاملاك نظرة ارتياب. و
مع ذلك فهناك الكثير من الناس الذين لا يجذبهم المال و لكن القوة التي يمنحها
المال لهم تغريهم!

قلت لها:

– لعلك لم تكوني تطلبين المال لنفسك، لكن المال ان صرف بحكمة فعل الاعاجيب. ماذا
لو وضع للابحاث مثلا؟

كنت اشك ان كليمنسي كانت ذات طريقة غريبة في التفكير بالنسبة لعملها لكنها قالت:

– اشك ان وقف الاموال على الابحاث ينفع كثيرا. ان الاموال تصرف في الطريق الخطا.
الاشياء الهامة ينجزها عادة اناس متحمسون ذوو رؤية واقعية. ان المعدات الغالية و التدريب و
التجارب ليست اساسا في الانجاز كم تظن؛ لان الايدي التي تستعملها غالبا غير امينة!

– و هل تتركين عملك اذا سافرت الى الباربادوس؟ اظنك مازلت ترغبين في الرحيل.

– اوه، نعم. ساعة ياذن لنا الشرطة بذلك… لا، لن اهتم ان ادع عملي بتاتا،
و لم اهتم؟ لم اكن احب ان اكون عاطلة عن العمل، لكني لن اكون عاطلة
عنه و انا في الباربادوس. يا ليت هذا الامر يتم كله بسرعة فنرحل!

– كليمنسي، اليست لديك فكرة عمن يمكن ان يكون قد ارتكب الجريمة؟ اذا كنت انت
و روج غير متورطين – و انا ارى في الحقيقة سببا يدعوني لاظن ذلك –
فانك بذكائك بالتاكيد قد علمت شيئا عمن فعلها، اليس كذلك؟

نظرت الي نظرة غريبة حادة من طرف عينيها و حين نطقت كان صوتها فقد عفويته،
و لعلها كانت مرتبكة بعض الشيء.

قالت: المرء لا يستطيع ان يخمن… هذا غير علمي. فقط اقول بان بريندا و لورانس
هما المشبوهان كما يبدو، و لا ازيد.

– اذن فانت تشكين فيهما.

هزت كتفيها استهجانا، و وقفت لحظة كانها تستمع، ثم خرجت من الغرفة مارة بلايديث دي
هافيلاند عند الباب، و جاءت الي ايديث و قالت:

– اريد التحدث اليك.

وثبت كلمات والدي الى ذهني. هل كان هذا… لكن ايديث دي هافيلاند كانت مستمرة في
حديثها.

قالت: ارجو الا تكون اخذت الانطباع الخاطئ. اقصد عن فيليب، فهو رجل يصعب فهمه. قد
يبدو لك متحفظا و فاترا لكن الامر ليس كذلك على الاطلاق، انها فقط عادة لا
يمكنه التخلي عنها.

قلت:

– انني في الحقيقة لم افكر…

لكنها اندفعت تقاطعني قائلة:

– الان فقط… بشان روجر. انه لم يضن على اخيه بالمال، لم يكن ابدا بخيلا
بالمال، و هو – في الحقيقة – رجل محبوب. كان دائما رجلا محبوبا لكنه لا
يجد من يفهمه!

نظرت اليها نظرت من يرغب ان يفهم، و اكملت:

– لعل سبب ذلك ان فيليب هو الولد الثاني في العائلة، هناك في الغالب شيء
يتعلق بالطفل الثاني. لقد اعطاهما ابوهما فرصة متساوية، و كان روجر يحب والده كثيرا، و
كل افراد العائلة كانوا يحبون اريستايد و هو احبهم كذلك، اما روجر فكان مصدر فخره
و فرحه الخاصين؛ لانه الاكبر و الاول، و اعتقد ان فيليب احس بذلك فعكف على
نفسه و جعل يبحث في الكتب و الماضي و اشياء لا تتصل بالحياة اليومية. اظن
انه عانى، و كم يعاني الاطفال!

سكتت قليلا، ثم اضافت:

– الذي اعنيه في الحقيقة انه كان يغار دائما من روجر، و ربما لم يكن
يدرك ذلك في نفسه، لكني اظن ان موقفه بخصوص فشل روجر في عمله… انا متاكدة
انه لم يكن يدرك ذلك، لكن الذي اريد قوله ان فيليب ربما لم يكن ياسف
على اخيه كما كان يجب.

– اي انه كان مسرورا لان روجر قد اخفق في عمله؟

– اجل، اعني هذا تماما… – و عبست قليلا – … لقد المني انه لم
يعرض على اخيه المساعدة فورا!

– و لماذا يفعل؟ ان روجر افسد الامور. انه رجل ناضج و ليس له اطفال
كي يفكر في مستقبلهم، لو كان مريضا او كان في عوز حقيقي لكانت عائلته ستساعده
بالطبع، لكني اجزم ان روجر يفضل ان يبدا حياة جديدة تماما على عاتقه هو.

– اوه! كاد يفعل ذلك. لا يهمه الا كليمنسي، و كليمنسي مخلوق غير طبيعي: تحب
كثرة التنقل و ان يكون لها كوب شاي واحد تشرب به. لعلها امراة عصرية لا
تفهم الماضي و لا الجمال!

احسست بان عينيها الداهمتين تمعنان النظر في. قالت:

– هذه محنة قاسية لصوفيا. انني اسفة جدا لان شبابها سيذبل بسبب هذا الامر. انني
احبهم جميعا: روجر و فيليب، و الان صوفيا و يوستيس و جوزفين. احب الاطفال كلهم.
اجل، احبهم كثيرا!

و سكتت قليلا ثم اضافت بحدة:

– لكني اذكرك بان الحب اعمى.

و استدارت فجاة و ذهبت. لا بد انها عنت بكلمتها الاخيرة شيئا محددا، لكني لم
افهمه تماما!

*****






السابق
زوجات الوليد بن طلال
التالي
حكم عن الاهتمام