احلى مواضيع جديدة

الصعود الى القمة

الصعود الى القمة C64F7870A3F9652C67F7E61B6136C28D

الصعود الى القمة C64F7870A3F9652C67F7E61B6136C28D

نظرت الى السماء وسبحت افكاري في فضائها الرحب، وتاملت الطيور وهي تصفق بجناحيها، فالهمت قلبي
المحموم بهموم الحياة وصبواتها المترفة، فعرفت بان الصعود الى القمة يورط اهله الحيرة، ويشرف بهم
على منابر الشهرة، ويلقي بهم في عرصات المجد ومشاربه، وكلما ارتفعت منزلتهم قل شكرهم للنعم
السابغة، ونسوا ما اهدي اليهم من فضل، وما اسدل اليهم من معروف، فذاقوا لباس الجوع
والخوف، وتقاسموا من نواميس الطبيعة البشرية ما اخبرنا الله بلطائف منها قوله تعالى في اهل
سبا : { ذٰلك جزيناهم بما كفروا ۖ وهل نجازي الا الكفور }، وقوله تعالى
في اهل مكة: { وضرب الله مثلا قرية كانت امنة مطمئنة ياتيها رزقها رغدا من
كل مكان فكفرت بانعم الله فاذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } ..

لقد تعلمت من تاملاتي ومشاهداتي ان الصعود الى القمة طريقه شاق طويل، وارتقاء مدارجه تحمل
صاحبها على بذل ضعف طاقته وحيويته، فان للطمع لذة تستدعي الصبر على العذاب الوارف، والوجع
العصي، وان ارتفاع المنزلة تعقد القلوب عليها امالها، وانبساط السلطان تلوذ بحياضه الاماني، وامتداد القوة
لا تناى بالنفس عن الاندفاع والمغامرة، ولا تبرئها من التيه والغرور، والاعتداد بالحول والطول، وبسطة
الجاه والباس
وان الصعود الى القمة يفسح لاهله استقبال ايامهم بموفور الثقة، ويشغل تفكيرهم بالتخطيط لما هو
ات مؤمل، ويجتاح قلوبهم بملمات القضايا اجتياح العواصف، تدميهم تاوهاتها المكلومة بما تدخره المطامع مما
يحبون ويكرهون .

ولكن ما تلبث ان تمتص نشوة الصعود متاعبهم، وتخلع عن ذاكرتهم المثقلة ما يؤرقها، وترتق
مسامات جراحهم، وتصل اسباب هزيمتهم بالانتصار عليها، وكلما بلغوا مبلغا عليا، او ادركوا انجازا عظيما،
او نجاحا باهرا، او ارتقوا مقاما مرموقا، تذكروا بان امتلاكهم للقوة بعد ضعف، والعلم بعد
جهل، والثراء بعد فقر، والاستغناء بعد احتياج ..

فمنهم من يدعوه ذلك الى الارتفاع عن النقائص، والتنزه عن الصغائر، مثلهم في حرصهم على
الشكر المتصل، ووفائهم الدائم، وتادبهم مع المنعم بالعطاء، كمتل ما جاء على لسان سليمان عليه
السلام، لما سخر الله له الريح والجن، وعلمه منطق الطير والحيوان: { وقال رب اوزعني
ان اشكر نعمتك التي انعمت علي وعلى والدي وان اعمل صالحا ترضاه وادخلني برحمتك في
عبادك الصالحين} .

ومنهم من يمعن في الاقبال على الشهوات، والاسراف في الملذات، فيصيبه ما يصيب المحموم من
الهذيان، ولكن شتان ما بين هذيان الحمى وهذيان الطمع، وشتان ما بين من يدفعه الصعود
الى القمة الى طلب المعالي، والاستكثار من الفضائل ومكارم الاخلاق، وبين من يدفعه الصعود الى
ان يكون اكفر الناس بالنعمة المسداة، واجحدهم بالصنيعة المهداة، وانساهم بالمعروف، واعقهم بالاهل والاصحاب، واشدهم
انكارا للحق واعلانا للباطل، يطلب الجد في موطن الهزل، والفضائل بما يقوم بالثمن، ويحدد بالكيل،
والوزن، والعدد، وينشد الغايات بما يبررها من الوسائل الرخيصة، التي تورث اهلها نقص المروءة، والامعان
في الكفر والجحود .
انها تجليات لبعض الصور الاجتماعية، الغائرة في عمق الذهنية المعاشة، وتاملات لاولئك الذين نشهد ظهورهم
وافولهم من ذوي القوة والبطش، والاحلام التي لا تكل من البحث عن المجد الذاتي، وزيادة
ريع ثرواتهم، على حساب نهب خيرات بلدانهم واوطانهم، واستغلال وظائفهم، والمتاجرة بالقيم، يفيضون على رؤوس
الخلائق فضلاتهم المشتهاة بالصحو والاشراق، فيشهقون بعذاباتهم، ويتجرعون مواقدهم، ورماد مجامرهم، وتثور فيهم مراسيم الحداد
بنواحها الدامي، ووحشتها غير المحتملة، من شدة تلوث افكارهم بعيوبها المتواترة، ومفاهيمها المعتمة، المبثوثة على
صفحات تاريخهم القابع في الظلام، المشحون بطغيانهم الفاضح، وضلالاتهم المنتهكة، وعصيانهم الصاخب بعوراتهم المشاعة في
امسياتهم البهية، يركضون على اديم الارض وترابها، ويعبرون على اشلائها، ويستحمون بدمائها، ويغرفوا ما يروي
مطامعهم من مغانمهم المستطابة بجرائمهم، التي تجاوزت كل المبادئ، واخترقت كل الدساتير والقوانين الانسانية، وانتهكت
كل الحرمات، واغتصبت كل الحقوق، تنم عن ارهاصاتهم وشهواتهم المكبوتة، ورغباتهم المنحرفة، لا يجد فيها
المتابع الا حالات مرضية، انسلخت عن دلائل الفطرة السليمة، والروح الحرة بهذيلها العذب، وشدوها الطاهر

ولكن حياة كهذه مشحونة بالمظالم، قد امتلات بالدروس وفاضت بالعبر، يكتشف منها الباحث عن الحقيقة،
مطالع الاسرار، ومساقط الضوء على الوجه الانساني، وما تفسره الاحداث حين تقبل وتدبر، وقصص الغابرين
من اصحاب الجاه الرفيع، والعز المنيع، والسلطان الواسع، ممن غشيهم البطر، والطغيان، وسعوا في الارض
فسادا، فردوا الى حياة كانت عليهم نكالا وشرا، وصعدوا القمة ولم يستقر بهم صعودهم امدا
بعيدا، فاضطربت الارض من تحتهم، وزلزلوا زلزالا شديدا، فاصبحوا على ما فعلوا نادمين، فجاء التحذير
والنذير مما اصابهم في كثير من ايات القران الكريم، كما في قوله تعالى: { وكم
اهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا} وقوله تعالى :
{ الم ياتهم نبا الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم ابراهيم واصحاب مدين
والمؤتفكات اتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون }

فعلى الانسان اليوم ان يعتبر بمصارع هؤلاء الامم الباغية المتجبرة، في واقع ما نمر به
من احداث ومواقف عصيبة، وان نظفر بما يبعث تغييرا واصلاحا حقيقيا على المستوى الفردي والجماعي،
ونتعلم ان نكون قمة حين نصل الى القمة، فنرتقي بالدن، والاخلاق، ونسمو بالضمير الانساني عن
حطام الدنيا، وان نستقيم على طريق الهداية والطاعة، ونخلص نياتنا وسرائرنا، ونخلع عن غاياتنا ما
يبررها من الوسائل الدنية، او تسخيرها لطغيان الطغاة، وظلم الظالمين، ونفرغ الذاكرة من مخزون مطامعها،
وذخيرة الامال ومباهجها ان ترسل بوحها في الفضاء، ونكف هوانا عن تصدعات فرط النشوة المغناة،
او ان تعبث بنا عواطفنا المورقات، وتوقظ فينا تجاعيد العطش للملذات، وافراحنا المشبوبة بعطر الاحلام،
المفروشة بسرائر الترف، ووسائد السمر الطروب .
ان النجاح الحقيقي في الحياة ليس في بلوغ القمم، والتربع على عروشها، باستخدام اساليب قذرة،
او بالتملق لهؤلاء واولئك، وانتهاز الفرص اسبابا لغايات ساقطة، او اشباع اطماع من لا يشبع،
وافعام جيوب لا تفعم، والمتاجرة بالقلوب والعقول، والضمائر والاخلاق ..
انما النجاح الحقيقي في العمل الجاد، والتنزه عن الدنيات، وارتقاء القمم بالطرق المشروعة، ولا خير
في حياة ليس فيها للدين من حماية، وللاخلاق من رعاية، وللضمائر من استقامة، وللمناصب من
كرامة ..

ولا خير في صعود يعقبه السقوط من القمة الى الهاوية، لانه مهما اتصل سلطان الباطل
فسلطان الحق منتصر، ومهما علا صرح الجور وشيد باضخم الحجارة واصلبها، وتفاخم بالصخور الشامخات فهو
مندك، وصرح العدل يعلو ولا يعلى عليه .

السابق
مفركة كوسا بالبيض
التالي
عبايات شتوي